بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فهذا بحث عن: التــأمين
أقدمه للمؤتمر العالمي الثالث للاقتصاد الإسلامي الذي سيعقد في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة في شهر المحرم 1424هـ- مارس 2003م إن شاء الله، ملتزماً فيه بما جاء في:
المحور الأول: تقويم المسيرة النظرية والتطبيقية للاقتصاد الإسلامي (التأمين)
1- تقويم البحوث والدراسات في الاقتصاد الإسلامي (البحوث والدراسات في مجال التأمين).
2- تقويم المؤسسات التطبيقية للاقتصاد الإسلامي (شركات التأمين الإسلامية).
وملتزماً أيضاً بعدد الصفحات (30 صفحة)
والله أسأل أن يوفقني إلى الصواب، وأن يجنبني مواطن الزلل، إنه سميع مجيب.
أولا: تقويم المسيرة النظرية -(البحوث والدراسات في مجال التأمين)
1- عقد التأمين بصورته المعروفة الآن من العقود المستحدثة، وقد اجتهد الفقهاء منذ ظهوره في بيان حكمه من وجهة النظر الشرعية، واختلفت آراؤهم فيه بين مجيز له بجميع أنواعه، ومانع له بجميع أنواعه، ومانع للتأمين على الحياة ومجيز لما عداه، ومانع للتأمين التجاري، ومجيز للتأمين التعاوني بشروط، وصدرت بحوث وكتب عديدة في هذا الموضوع، كما صدرت فيه فتاوى جماعية في مؤتمرات ومجامع فقهية.
وقد طلب منظمو المؤتمر تقويم هذه البحوث والدراسات في التأمين، وسأحاول الاستجابة لطلبهم بذكر أهم ما وقفت عليه في هذا الموضوع:
2- رأي ابن عابدين:
يقول ابن عابدين: جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركباً من حربي يدفعون له أجرته، ويدفعون أيضاً مالاً معلوماً لرجل حربي مقيم في بلاده، يسمى ذلك المال سوكرة على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق، أو غرق، أو نهب، أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذ منهم، وله وكيل عنهم مستأمن في دارنا يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن من السلطات، يقبض من التجار مال السوكرة، وإذا هلك من مالهم في البحر يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تماماً.
والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله، لأن ذلك التزام ما لا يلزم، فإن قلت: إن المودع إذا أخذ أجرة عن الوديعة يضمنها إذا هلكت، قلت: مسألتنا ليست من هذا القبيل، لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة، بل في يد صاحب المركب، وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيراً مشتركاً قد أخذ أجرة على الحفظ وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز منه، كالموت والغرق ونحو ذلك.
فإن قلت: سيأتي قبيل باب "كفالة الرجلين" إن قال لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلك وأخذ ماله لم يضمن، ولو قال: إن كان مخوفاً وأخذ مالك فأنا ضامن ضمن، وعلله الشارح هناك بأنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصّاً اهـ. أي بخلاف الأولى، فإنه لم ينص على الضمان بقوله فأنا ضامن.
وفي جامع الفصولين: الأصل ان المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعاوضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور، فصار كقول الطحان لرب البر: اجعله في الدلو، فجعله فيه فذهب من النقب إلى الماء، وكان الطحان عالماً به يضمن إذ غره في ضمن العقد، وهو يقتضي السلامة. اهـ.
قلت: لابد في مسألة التغرير من ان يكون الغار عالما بالخطر، كما يدل عليه مسألة الطحان المذكورة، وأن يكون المغرور غير عالم، إذ لا شك أن رب البر لو كان عالماً بنقب الدلو يكون هو المضيع لماله باختياره، ولفظ المغرور ينبئ عن ذلك لغة لما في القاموس: غره غرّاً وغروراً فهو مغرور وغرير خدعه وأطمعه بالباطل فاغتر هو . اهـ.
ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار، ولا يعلم بحصول الغرق، هل يكون أم لا، وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار، لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلا عند شدة الخوف طمعاً في أخذ بدل الهالك، فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل أيضاً. انتهت فتوى ابن عابدين(1).
أقول: هذا العقد الذي استظهر ابن عابدين عدم جوازه هو تأمين بحري، فالتجار هم المؤمن لهم، والحربي هو المؤمن، والغرض من هذه العملية، كما هو واضح من كلام ابن عابدين، هو التأمين ضد المخاطر التي تحدث لحمولة المركب، فالمؤمن الحربي يلتزم بتعويض التجار ما يضيع من بضائعهم التي في المركب نظير مال يدفعونه له.
وقد بنى ابن عابدين فتواه بالمنع على ثلاثة أسباب:
أ- إن هذا العقد من قبيل التزام ما لا يلزم، وهو غير جائز لعدم وجود سبب شرعي يقتضي الضمان، وهذا العقد لا يصلح سبباً شرعيّاً لوجوب الضمان.
ب- هذا العقد ليس من قبيل تضمين المودع إذا أخذ أجراً على الوديعة لسبين:
الأول: المؤمن الحربي ليس هو صاحب المركب، فلا يكون مودعاً.
الثاني: لو كان المؤمن هو صاحب المركب فإنه يكون أجيراً مشتركاً لا مودعاً، والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز منه، ومثله المودع.
ج- هذا العقد ليس من قبيل تضمين الغار، لأن الغار لا يضمن إلا إذا كان عالماً بالخطر، وكان المغرور جاهلاً به، والمؤمن الحربي لا يقصد تغرير التجار، ولا يعلم هل تغرق المركب أم تسلم.
3- هذه هي أول فتوى وجدت بعد ظهور التأمين، ولهذا اشتهر ان ابن عابدين هو أول من أفتى بعدم جواز عقد التأمين، ولكن توجد نصوص عامة لفقهاء قبل ابن عادين، وقبل ظهور عقد التأمين تدل على عدم جواز بعض أنواع التأمين، منها هذا النص:
"ضمان ما يغرق أو يسرق باطل"
ورد هذا النص في كـــــــتاب البحر الزخـــــار الجامــــع لمذاهب علماء الأمصار(2)،وهو يدل على أن التأمين البحري، والتأمين من السرقة لا يجوز عند جميع علماء الأمصار، لأن المؤلف لم يذكر خلافاً في هذا الحكم.
ومنها النص التالي الذي أورده الباجي في أثناء كلامه عن بيع الغرر، قال:
ومن دفع إلى رجل داره على أن ينفق عليه حياته، روى ابن المواز عن أشهب: لا أحب ذلك ولا أفسخه إن وقع، وقال أصبغ: هو حرام، لأن حياته مجهولة ويفسخ، وقال ابن القاسم عن مالك: لا يجوز إذا قال على أن ينفق عليه حياته. اهـ.
هذه المعاملة هي صورة من صور التأمين على الحياة تعرف في اصطلاح علماء القانون بالتأمين لحال البقاء براتب عمري وهو "أن يتعهد المؤمن بدفع إيراد لمدى الحياة نظير مبلغ مجمد يدفعه له المستأمن"(3).
واضح أن هذا العقد غير جائز عند هؤلاء الفقهاء، لما فيه من غرر، ويفسخ إن وقع إلا عند أشهب فإنه لا يفسخ العقد إن وقع مع منعه له ابتداء.
4- فتوى الشيخ محمد عبده:
يذكر بعض الذين يرون جواز التأمين على الحياة أن الشيخ محمد عبده يرى جوازه اعتماداً على فتوى صدرت منه عندما كان مفتياً للديار المصرية سنة 1319هـ، نذكر فيما يلي نص الاستفتاء والفتوى:
سأل مدير شركة ميوتوال لايف الامريكية الشيخ محمد عبده عن رجل اتفق مع جماعة -قومبانية- على أن يعطيهم مبلغاً معلوماً، في مدة مطلوبة على أقساط معينة للاتجار فيما يبدو فيه الحظ والمصلحة، وأنه إذا مضت المدة المذكورة، وكان حـيّاً يأخذ هذا المبلغ منهم مع ما ربحه من التجارة في تلك المدة، وإذا مات في خلالها يأخذ ورثتة، أو من يطلق له حال حياته ولاية أخذ المبلغ المذكور مع الربح الذي ينتج مما دفعه، فهل ذلك يوافق شرعاً؟
فأجاب الشيخ محمد عبده:
اتفاق هذا الرجل مع هؤلاء الجماعة على دفع ذلك المبلغ على وجه ما ذكر يكون من قبيل شركة المضاربة، وهي جائزة، ولا مانع للرجل من أخذ ماله مع ما انتجه من الربح بعد العمل به في التجارة، وإذا مات الرجل في إبان المدة، وكان الجماعة قد عملوا فيما دفعه، وقاموا بما التزموه من دفع المبلغ لورثته، أو لمن يكون له التصرف بدل المتوفى بعد موته جاز للورثة، أو لمن يكون له حق التصرف في المال، أن يأخذ المبلغ جميعه مع ما ربحه المدفوع منه بالتجارة على الوجه المذكور(4).
هذه هي الفتوى التي أخذ منها بعض من يرون جواز التأمين ان الشيخ محمد عبده أجاز عقد التأمين على الحياة.
والحقيقة أن هذه المسألة لا ينطبق عليها عقد التأمين مطلقاً، لأن المستفتي يقول: إن الشخص الذي يتفق مع الشركة يدفع لها المبلغ للاتجار به، ومعنى هذا أن الأقساط التي يدفعها تظل ملكاً له، وأن الشركة تعمل بها في التجارة فقط، وهذا من خصائص عقد المضاربة، وأما في عقد التأمين فإن الأقساط التي يدفعها المؤمن له تدخل في ملك المؤمن -الشركة- وهي مطلقة اليد في أن تتصرف فيها كما تشاء.
وكما لا ينطبق على هذه المعاملة عقد التأمين لا ينطبق عليها أيضاً عقد المضاربة، لأن فيها شرطاً يخرجها من أن تكون مضاربة، هو أن يدفع في حال الوفاة للورثة، أو لمن يعينه رب المال كل المبلغ المتفق عليه زائداً أرباح ما دفع بالفعل، ومعنى هذا أن الورثة يأخذون مبالغ لم يدفعها مورثهم، فلو فرضنا أن المبلغ المتفق عليه مائة دينار تدفع على عشرة أقساط دفع المورث منها قسطين للشركة ثم مات، فإنه بمقتضى الشرط المذكور يستحق الورثة المائة دينار زائداً ربح العشرين دينار، وليس في الفقه الإسلامي مضاربة بهذه الصورة.
وعلى هذا فلا يصح أن يؤخذ من هذه الفتوى رأي الشيخ محمد عبده في التأمين، بل إني أشك في صدور هذه الفتوى بهذه الصيغة من الشيخ محمد عبده.
5- رأي الأستاذ عبد الوهاب خلاف:
قال الأستاذ عبد الوهاب خلاف بجواز عقد التأمين على الحياة على أنه عقد مضاربة، لأن عقد المضاربة في الشريعة هو عقد شركة في الربح بمال من طرف وعمل من طرف آخر، وفي التأمين -كما يقول الأستاذ خلاف- المال من جانب المشتركين الذين يدفعون الأقساط، والعمل من جانب الشركة التي تستغل هذه الأموال، والربح للمشتركين والشركة حسب التعاقد(5).
وقد أورد الأستاذ خلاف نفسه اعتراضاً على هذا القياس هو أن شرط صحة المضاربة أن يكون الربح بين صاحب المال والقائم بالعمل شائعاً بالنسبة، وفي التأمين يُشترط للمشترك قدر معين في الربح 3% أو 4% فالمضاربة غير صحيحة.
وأجاب عنه بالآتي:
أولا: بما جاء في تفسير آيات الربا في سورة البقرة للشيخ محمد عبده وهو: "لا يدخل في الربا المحرم بالنص الذي لا شك في تحريمه من يعطي آخر مالا يستغله، ويجعل له من كسبه حظّاً معيناً، لأن مخالفة أقوال الفقهاء في اشتراط أن يكون الربح نسبيّاً لاقتضاء المصلحة ذلك لا شيء فيه، وهذه المعاملة نافعة لرب المال والعامل معاً".
ثانيا: بأن اشتراط أن يكون الربح نسبيّاً لا قدراً معيناً خالف فيه بعض المجتهدين من الفقهاء، وليس حكماً مجمعاً عليه"(6).
وانتهى الشيخ خلاف إلى القول بأن عقد التأمين على الحياة عقد صحيح نافع للمشتركين وللشركة وللمجتمع، وليس فيه إضرار بأحد، ولا أكل مال أحد بغير حق، وهو ادخار وتعاون وتوفير لمصلحة المشترك، حين تتقدم سنه، و لمصلحة ورثته حين تفاجئه منيته، والشريعة إنما تحرم الضار، أو ما ضرره أكبر من نفعه(7).
والذي أراه أنه ليس هناك صورة من صور عقد التأمين على الحياة يمكن قياسها على عقد المضاربة حتى لو تجاوزنا عن كون الربح في المضاربة يشترط فيه أن يكون قدراً شائعاً بالنسبة، وذلك للأسباب الآتية:
أ- المبلغ الذي يدفعه رب المال للعامل في المضاربة يظل ملكاً لصاحبه، ولا يدخل في ملك العامل، وذلك بخلاف التأمين فإن القسط يدخل في ملك الشركة تتصرف فيه تصرف المالك في ملكه.
ب- في حالة موت رب المال في المضاربة يستحق ورثته المال الذي دفعه مع ربحه إن كان فيه ربح، أما في عقد التأمين على الحياة فإن الورثة يستحقون عند موت المؤمن له المبلغ الذي اتفق عليه المؤمن له مع الشركة بالغاً ما بلغ، فلو أن شخصاً أمن على حياته بمبلغ ألف دولار ثم مات بعد ما دفع للشركة قسطاً واحداً مائة دولار، فإن ورثته يستحقون الألف كاملة، فكيف يقاس هذا العقد على عقد المضاربة؟.
ولا يصح أن يقال إن الشركة تتبرع بالزائدة على ما دفعه المؤمن له، لأن من خصائص عقد التأمين على الحياة أنه عقد معاوضة، الشركة ملزمة فيه بدفع المبلغ المتفق عليه إذا وفى المؤمن له بالتزامه في دفع الأقساط.
ج- في حال موت صاحب المال في عقد المضاربة يكون المبلغ الذي في يد المضارب من ضمن تركة المتوفى يجري فيه ما يجري في سائر أموال التركة.
أما في عقد التأمين فإن المال المستحق قد لا يذهب إلى الورثة مطلقاً، وذلك في حالة ما إذا عين المؤمن له مستفيداً -وهذا من حقه- فإن جميع المال يذهب لهذا المستفيد، ولو لم يكن للمتوفى مال غيره، ولا حق للورثة في الاعتراض.
وهذا زيادة على ما فيه من مخالفة لعقد المضاربة، فإن فيه مخالفة لأحكام الميراث التي تقضي بأن يذهب هذا المال للورثة، أو يتوقف الزائد على ثلث التركة على إجازتهم لو اعتبرنا المستفيد موصى له.
6-رأي الشيخ محمد بخيت المطيعي:
يرى بعض المانعين للتأمين أنه من القمار، منهم الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية حيث يقول: عقد التأمين عقد فاسد شرعاً، وذلك لأنه معلق على خطر، تارة يقع، وتارة لا يقع فهو قمار معنى(
.
7- ومنهم الشيخ أحمد إبراهيم:
يقول الشيخ أحمد إبراهيم عن التأمين على الحياة:
أما إذا مات المؤمن له قبل إيفاء جميع الأقساط، وقد يموت بعد دفع قسط واحد فقط، وقد يكون الباقي مبلغاً عظيماً جدَاً، لأن مبلغ التأمين على الحياة موكول تقديره إلى طرفي العقد، على ما هو معلوم، فإذا أدت الشركة المبلغ المتفق عليه كاملا لورثته أو لمن جعل له المؤمن ولاية قبض ما التزمت به الشركة بعد موته ففي مقابل أي شيء دفعت الشركة هذا المبلغ؟ أليس هذا مخاطرة ومقامرة، وإذا لم يكن هذا من صميم المقامرة ففي أي شيء تكون المقامرة إذن؟ على أن المقامرة حاصلة أيضاً من ناحية أخرى، فإن المؤمن له بعد أن يوفى جميع ما التزمه من الأقساط يكون له كذا، وإن مات قبل أن يوفيها كلها يكون لورثته كذا، أليس هذا قماراً ومخاطرة، حيث لا علم له ولا للشركة بما سيكون من الأمرين على التعيين .
ولا أوافق هذين العالمين الكبيرين على أن التأمين قمار، أو في معنى القمار، لأن حقيقة التأمين تختلف اختلافاً كبيراً عن حقيقة القمار الذي منه الميسر الذي حرمه الله في القرآن(10).