.
سر في أعماقي
تأليف/بهية عبد الرحمن بوسبيت
المصدر/موقع الكتيبات الإسلامية
إصدار/دار الصُمَيعي
سر في أعماقي
.
ما أقسى العذاب الذي يعيشه الإنسان بينه وبين نفسه في صمت رهيب، وما أشد قسوته حينما يكون مصدره سراً رهيباً في الأعماق؛ إن انكشف تكاثرت على إثره الجراح واشتدت الآلام، وإن لم ينكشف أصبح مصدر عذاب لا ينتهي وحيرة وقلق دائم وتفكير مضن، وشقاء أبدى يقتات من الفؤاد ويأكل من الروح ويستقي من الفكر..
عندما فتحت إيمان عينيها على الدنيا؛ وجدت نفسها تعيش في دار كبيرة مليئة بأخوات مختلفات في الأشكال والأعمار وعدد من الأمهات، وكانت من بينهن امرأة تدعى بأم حسن، كانت تناديها دائما بأمي؛ لأنها لم تعرف سواها، ولم تتربَّ إلا في حضنها هي على الرغم من تعدد الأمهات الموجودات في الدار.
ولما بلغت السن التي تؤهلها لدخول المدرسة، وتعرفت في هذا العالم الجديد على زميلات وصديقات جديدات غير اللاتي معها في الدار، وأدركت أن لكل منهن أمًا، وكثيرًا ما كانت تشاهد كل زميلة من زميلاتها بصحبة أمها أثناء الحفلات المدرسية ومجالس الأمهات التي تعقدها المدرسة.. كانت تتساءل بينها وبين نفسها عن سبب وجودها في هذه الدار الكبيرة دون أم تذهب معها إلى الحفلات المدرسية وغيرها، ودون أب، وبلا إخوة وأخوات حقيقيات، فكانت تتنحى جانبًا بعيدًا من ساحة المدرسة تخلو فيه بنفسها وتفكر في أشياء كثيرة، وتبحث عن أجوبة لأسئلتها الحائرة، ولكن دون جدوى، ثم تبكي بحرقٍة دون أن تدرك سببًا معروفًا لبكائها.
وفي البيت الكبير الذي تعيش فيه كانت تختبئ تحت شجرة برتقال كبيرة بعيدة عن أعين أخواتها وتبكي ما شاء لها البكاء، وكان السؤال عن أبيها يحيرها دائما ويقض مضجعها كلما سمعت صديقة تتحدث عن أبيها وعن هداياه.. ما عدا هي؛ لماذا لا يكون لها أب مثلهن؟ إنها لم تر حتى صورة له، أو تسمع شيئًا عنه، أو تعرف ماذا كان يعمل..
ومرت الأيام بإيمان متقلبة، تارة ساكنة هادئة، وتارة كئيبة حزينة، أدركت من خلالها أن ما تعيش فيه ليس سوى مؤسسة اجتماعية لاحتضان وتربية الأيتام والفقراء المساكين ممن فقدوا معينهم أو جار عليهم الزمن.. كانت حينذاك قد بلغت الثانية عشرة من عمرها، وذات ليلة سألت أم حسن مربيتها مستفسرة عن والديها وكيف جاءت إلى هنا؟ ولماذا لم تر أحدًا من أقاربها كما يحدث لبقية أبناء الدار؟ولماذا لا تزور أو تزار في المناسبات؟
فما كان من أم حسن عندما سمعت أسئلتها الملهوفة الحزينة، وشاهدت ما ارتسم على وجهها البريء الطاهر من ألم وحيرة وضياع؛ إلا أن ضمتها إلى صدرها في حنان بالغ، وراحت تمسح على شعرها الذهبي الحريري الطويل بيدها التي أكل الزمن من قوتها ونضارتها، ثم مضت تحدثها بعد أن طمأنتها وهدأت من ثورة نفسها المضطربة، قائلة لها:
- إن والديك يا حبيبتي – رحمهما الله – كانا من أفضل الآباء، وكانا يحبانك كثيرًا، وقد حدث لهما ذات يوم حادث فظيع توفيا فيه وهما قادمان من البيت لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء الأعزاء، وكنت معهما، وشاء الله لك الحياة بعد أن أصبت إصابة خفيفة.. ولما خرجت من المستشفي ولم يسأل أحد عنك؛ أحضروك هنا مؤقتًا حتى يأتي أحد أقاربك.. ولم يأتِ أحد.. وقيل: إنه لم يبلغ عنك لأن والديك لم يعرفا بسبب الحادث، وقد يكونان غريبين عن البلد مثلاً، وهذا هو السبب في عدم معرفة أقاربك.
وبعد أن أخذت إيمان نفسًا عميقًا؛ قالت في اضطراب:
- ولكنك يا أمي تقولين إن والديّ كانا من أفضل الناس؛ فكيف عرفت ذلك؟
قالت:
- إن ذلك ظاهر من مظهرهما عندما كانا في المستشفي.
قالت ذلك بارتباك محاولة إنهاء الموضوع، وفضت الحديث فيه بعد أن مضت تزيد وتختلق من عندها حكايات حتى جعلتها تقتنع بحديثها بعض الشيء.
شعرت إيمان ببعض الراحة والسكينة بعد أن استمعت لحديث أم حسن، ووجدت فيه جوابًا شافيًا لسؤالها الحائر الذي طالما قض مضجعها وأقلق تفكيرها وآلم نفسها.
مرت الأيام تتلوها الشهور وتتبعها السنوات، وشبت إيمان وصارت فتاة ذات جمال وكأن الله قد خصها بهذا الجمال وأعطاها من حسن الخلق والطباع وميزها بخصال حميدة وصفات عديدة تعويضًا عن حرمانها من عطف الأبوين وحنانهما.. ولما نالت الشهادة الإعدادية ترك لها حرية الاختيار بين دخول معهد المعلمات وبين دخول المرحلة الثانوية؛ فاختارت الثانوية العامة بعد تفكير عميق، وخطة مدروسة وضعتها للمستقبل.
كانت من الطالبات المتفوقات دائمًا واللاتي يحصلن على شهادات تقدير وثناء.
كانت تقضي بداية اليوم في المدرسة وبعد الخروج منها تذهب إلى الدار، وهناك تجتمع مع أخواتها في الدار ويتناولن الغذاء معًا، ثم تنام بعض الوقت وتستيقظ لتصلي العصر مبكرة، ثم تنكب على مذاكرة دروسها، وفي المساء تجلس أمام التلفاز تشاهد بعض المسلسلات الاجتماعية الهادفة التي تعرض في كل مرة أكثر من قضية، وكانت تحاول دائمًا أن تجد الحل لكل مشكلة أمامها قبل نهاية المسلسل، هكذا دائمًا عودت نفسها.. كانت أيضًا تجد لذة في متابعة البرامج الدينية وتخرج منها بفائدة عظيمة، وتنصت باهتمام إلى شكاوى البنات والأولاد التي يرسلونها.. وتتعجب تارة وتستغرب تارة أخرى من ظلم وجهل بعض الآباء والأمهات.
على هذا المنوال استمرت حياة إيمان تسير طيلة السنوات الثلاث، على الرغم من الألم المكبوت الذي كانت تعانيه في صمت وابتسامة مزيفة حين تبدأ العطلة الصيفية وترى زميلاتها في الدار قد استعددن لقضاء العطلة الصيفية عند ذويهن أو أقاربهن، ما عداها وبعض الصغيرات اللاتي لا يفقهن شيئًا مما حولهن.. فترجع بذاكرتها إلى قضية أم حسن التي حكتها لها عن والديها؛ فتجد بعد استرجاعها أن هناك قوة لم تمتلئ، إذن؛ لابد أن في الأمر شيئًا ما، وأن الحكاية لم تنته، ومضت تفكر وتفكر، وتقول لنفسها:
- لا بد من أن هناك سرًا ما، وأي سر..
كانت تردد ذلك وتتساءل بينها وبين نفسها:
- يا لغبائي! كيف صدقت كلام أم حسن بهذه البساطة؟ وكيف لم يخطر على بالي أن أسألها أسئلة معينة لعلي بذلك أتوصل إلى الحقيقة..؟
وتفيق من أفكارها بضربة يدها على جبينها: كيف أسألها.. وقد رحلت إلى العالم الآخر منذ سنتين؟!
بقيت إيمان حائرة متألمة داخل نفسها، إنها لا تجرؤ على سؤال أي واحدة أخرى من المقيمات في الدار هذا السؤال، وما يدريها أن أحدًا يعرف قصتها غير أم حسن؟
بدأت العطلة وانتهت وهي لا تزال حبيسة الدار وسجينة أفكارها، وسؤالها الذي لا يكف عن التنغيص عليها بين فترة وأخرى.
ومرت الأيام وهي تعدها يومًا بعد يوم لتخرج بانتهائها من السجن الذي تقبع فيه؛ فقد شدها الحنين وأذابها الشوق لرؤية أخواتها في الدار، وإلى سماع أخبارهن، وسماع كل جديد خارج السور قد حدث في فترة غيابهن، وكانت تمني نفسها بلقاء شريفة – صديقتها العزيزة – التي عرفتها من مقاعد الدراسة لا من الدار؛ لتفضي لها ببعض ما يجول في فكرها ويضطرم في نفسها.. ثم تضحك من نفسها قائلة:
- أنا أعد الأيام لتمضي العطلة، وغيري يبكون على مرور كل يوم منها؟! سبحان الله! إن الإنسان منا لا يرضيه شيء في هذه الدنيا.
وعند الإعلان عن بداية موعد التسجيل في الجامعة؛ لم تترك إيمان أدنى فرصة لنفسها للتفكير في اختيار القسم الذي تتخصص في دراسته، بل إن قسم الدراسات الاجتماعية كان هو القسم الذي خططت له، وبنت على إثره قاعدة مستقبلها العملية؛ حتى تتخرج لتكون باحثة اجتماعية تعمل على مساعدة الغير بحل المشاكل الأسرية أو النفسية التي تعود على صاحبتها بأمراض اجتماعية مختلفة قد تتسبب في تدمير حياتها الاجتماعية والأخلاقية والنفسية، وقد يكون هذا بسبب أسباب بسيطة كما ترى وتسمع من خلال ما تشاهده في التلفاز، وما تؤكد عليه الحياة الواقعية من خلال معايشتها لأناس كثيرين من بين صديقاتها في المدرسة وفي عالم الجامعة الرحب الممتد والزاخر بمختلف العلوم التي تساعد على توسيع مدارك الإنسان وتعريفه بأشياء جديدة عليه.
نسيت إيمان المشكلة التي تعاني منها وتقلقها دائمًا؛ فولوجها في معركة القراءة والكتابة والبحث والدراسة المستمرة جعلها تنسى ذلك، حتى إحساسها بالوحدة وشعورها بأنها إنسانة متميزة في كل شيء، حتى في الأهل والأقارب.
وكان جدها وتفوقها الدائم على زميلاتها،ومثاليتها محط أنظار الجميع من دكتورات وأستاذات إلى صديقات وزميلات.
وكانت صديقتها شريفة التي اختارت قسم اللغة العربية لا تقل عنها تفوقًا ومثالية.. حتى عرفت أن هناك من ينظر إليها بعين الحسد والحقد الدفين؛ لتفوقها الباهرة المستمر، ولصداقتها التي ابتدأت من الابتدائية ولا تزال متينة قوية حتى الآن.
نالت إيمان الشهادة الجامعية بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وارتدت لباس التخرج الأسود والقبعة المربعة تعلو رأسها، وكأنها تعلن بكل فخر وزهو مدى كفاح مرتدي هذه القبعة، ومدت يدها لتتسلم الشهادة وابتسامة الأمل تتراقص حول شفتيها، وسرعان ما جال في خاطرها خاطر قلب سعادتها للحظات ألماً وحزناً، عندما تذكرت أمها وتمنت لو أنها تراها الآن وتبارك لها وتفخر بها كغيرها من الزميلات والصديقات، ولم تشعر بنفسها إلا والدموع تنهمر من عينيها كاللؤلؤ في طهارة ونقاء، وأحست بيد زميلتها وهي تدفعها للأمام؛ فتابعت سيرها بعد أن أوقفتها الذكرى عن متابعة السيرة الجماعية.
بعد انتهاء مراسم استلام الشهادة؛ عادت إيمان إلى الدار وهي تحمل سلاح المستقبل، وتفكر في كيفية قضاء هذه العطلة الطويلة في الدار وحيدة كعادتها كل عام بدون صديقات أو زميلات، وقد لاح أمامها المستقبل يفتح لها ذراعيه؛ فمضت تفكر كيف سيكون هذا المستقبل الجديد؟ وكيف ستكون أيامها عندما تطرق هذه المرة بابًا جديدًا من أبواب الحياة الواسعة عندما تطرقه لتعطي فيه وليس لتأخذ منه؟ وراحت تتساءل بينها وبين نفسها: أيهما أفضل؛ الدراسة، أم العمل؟ وأيهما أكبر مسؤولية؛ العمل، أم الدراسة؟ وهل سأنجح في العمل كما نجحت في الدراسة؟
وعادت تجيب على أسئلتها بنفسها: العمل واجب فرضه الله علينا لنعيش منه كما فرضته علينا الحياة، والدراسة أيضًا أمر الله بها كما أمر بها رسوله الكريم، وقد قال تعالى في محكم كتابه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [المزمر: 9].
نامت ليلتها وهي تتأرجح بين التفكير في المستقبل وبين فرحتها بنيل الشهادة وإحساسها بأنها لم تعد عالة على أحد؛ لأنها ستتكفل بنفسها منذ الآن، ولن تقبل بعد اليوم معونة أو مساعدة من أي إنسان من غير أن تكون في حاجة ماسة لها.
في الصباح عندما جلست تتناول إفطارها؛ سألتها مديرة الدار قائلة:
- ماذا ستفعلين بشان مستقبلك؟
ردت في فخر:
- سأعمل دون شك.
- الله يوفقك يا ابنتي، ويجعل التوفيق والنجاح حليفك دائمًا.. وأين ترغبين أن تعملي؟
ردت إيمان في سعادة:
- في إحدى المدارس إن شاء الله.
وساد المكان فترة صمت، ثم قالت المديرة:
- لماذا لا تعملين هنا؟
- هنا؟! أين؟ في الدار؟
- أليس من حقها عليك أن تعملي فيها كما تعلمت وعشت فيها؟
وفجأة شعرت إيمان بأن قيدًا حديديًا قد امتد وطوق عنقها ويديها وشل حركتها؛ فلم تعد تستطيع النطق، وأحست بأن الدماء تتصاعد إلى وجهها ورأسها حارة، ومضت تحدث نفسها قائلة:
- هنا.. أعمل هنا في السجن الكثيب الذي قضيت فيه زهرة عمري متعطشة إلى الحنان.. ظامئة إلى الحب.. محرومة من الأمومة والأبوة؟!
كانت تردد في صمت بينها وبين نفسها، في حين راحت مديرة الدار تقرأ في عينيها ما ارتسم على معالم وجهها من الحزن الذي لا يمكن إخفاؤه؛ فقالت بعد أن جاهدت في أن تبعد نبرة الشفقة من صوتها:
- ما بك يا إيمان؛ هل قلت ما يؤلمك دون قصد مني؟ الله وحده يعلم كم..
ولم تدعها تكمل، بل قالت في صوت يشوبه اليأس والألم المكتوم:
- أبدًا، لم تقولي شيئًا يؤلمني، ولكن أمنيتي أن أعمل في مجال غير هذه الدار، وأحب أن أعرف كيف تكون الحياة خارج الدار، وكيف يعيش الناس خارجها، وما هي المشاكل التي يتخبطون في وحلها، وما أسبابها؛ لعلني أساعد يومًا بائسة، أو أعمل على إنقاذ ساذجة طيبة، والدار يا أمي..
وتوقفت مندهشة عند نطقها لهذه الكلمة التي حرمت منها سنوات عمرها كله، وتمنت أن تقولها، ولكنها لم تجد من تقولها له، حتى صارت ترددها بينها وبين نفسها في الأيام التي تحس فيها بقسوة الحياة عليها، وتشعر بأنها بلا أم تخفف عنها ما تعانيه من أحزان الحياة وآلامها وصدمات الزمن الذي لا يرحم..
- آه، أمي، يا لها من كلمة حلوة عذبة شافية.. كالبلسم للجرح..
وندت عنها آهة حرى فاضت بما حملته من أشواق وحنين طيلة السنوات الماضية..
- إيمان حبيبتي.. ما بك صمت؟ قوليها ثانية، ما أعذبها من كلمة! قوليها يا ابنتي..
كانت تقول ذلك ودموعها تنهمر في استسلام وهدوء؛ فما كان من إيمان إلا أن ألقت برأسها على صدرها دون أن تنبس ببنت شفة، وأطلقت لدموعها العنان لتعبر عن مكنون نفسها، ومضت المديرة تغدق عليها من حبها وحنانها، الشيء الذي جعلها معه تشعر أن هذه ليست إلا ابنتها وليست ربيبة دار..
ولما فرغت إيمان من إبداء الأسباب الجوهرية التي جعلتها تصر على أن يكون عملها خارج هذه الدار للمرة الثانية، ثم مضت المديرة تبدي أسبابها التي جعلتها تعرض عليها هذه الفكرة؛ فكان مما قالته:
- يا ابنتي! لا تنسي أنك قضيت طفولتك وصباك وشبابك معنا، وكلنا كنا أسرة واحدة، وأنا بالذات لا أستغني عنك ولا أصبر عن رؤيتك أبدًا، لهذا أحببت أن تبقي هنا لأراك باستمرار، وأكون على علم دائم بأخبارك، وأشاركك فرحتك عند زواجك وانتقالك إلى بيتك الجديد بإذن الله..
أحست إيمان على أثر هذه الكلمة التي لم تتوقعها أن خنجرًا حادًا قد غاص في أعماق قلبها، فطعنه طعنة قوية جعلتها أسيرة للعذاب طيلة حياتها.. حاولت أن ترد بأية كلمة ولكنها عبثًا حاولت، كانت الطعنة أقوى من أن تحتملها؛ فانسلت من الإدارة بأحزانها التي تأكل منها بعد أن اختلقت لها عذرًا.
كان الليل هو الرفيق الوحيد لإيمان في سهرها وجراح قلبها وآلام نفسها، كانت تشكو لله وحده حالتها وتدعوه وتناجيه بحالها، وكانت تبكي بمرارة وأسى كلما تذكرت كلمات المديرة؛ وخصوصًا كلمة الزواج والبيت، وكانت تسأل نفسها: هل سأتزوج في يوم من الأيام؟ ومن يرضى بزوجة عاشت في الدار طيلة حياتها؟ زوجة مجهولة الهوية والعنوان والأصل؟ وبلا أقارب أو أحباب؟ وهل سيصدق حكايتي المجهولة؟
وتوالت عليها الأفكار السوداء تباعًا، وامتلأ رأسها بالأسئلة الواحد تلو الآخر.
سر في أعماقي
تأليف/بهية عبد الرحمن بوسبيت
المصدر/موقع الكتيبات الإسلامية
إصدار/دار الصُمَيعي
سر في أعماقي
.
ما أقسى العذاب الذي يعيشه الإنسان بينه وبين نفسه في صمت رهيب، وما أشد قسوته حينما يكون مصدره سراً رهيباً في الأعماق؛ إن انكشف تكاثرت على إثره الجراح واشتدت الآلام، وإن لم ينكشف أصبح مصدر عذاب لا ينتهي وحيرة وقلق دائم وتفكير مضن، وشقاء أبدى يقتات من الفؤاد ويأكل من الروح ويستقي من الفكر..
عندما فتحت إيمان عينيها على الدنيا؛ وجدت نفسها تعيش في دار كبيرة مليئة بأخوات مختلفات في الأشكال والأعمار وعدد من الأمهات، وكانت من بينهن امرأة تدعى بأم حسن، كانت تناديها دائما بأمي؛ لأنها لم تعرف سواها، ولم تتربَّ إلا في حضنها هي على الرغم من تعدد الأمهات الموجودات في الدار.
ولما بلغت السن التي تؤهلها لدخول المدرسة، وتعرفت في هذا العالم الجديد على زميلات وصديقات جديدات غير اللاتي معها في الدار، وأدركت أن لكل منهن أمًا، وكثيرًا ما كانت تشاهد كل زميلة من زميلاتها بصحبة أمها أثناء الحفلات المدرسية ومجالس الأمهات التي تعقدها المدرسة.. كانت تتساءل بينها وبين نفسها عن سبب وجودها في هذه الدار الكبيرة دون أم تذهب معها إلى الحفلات المدرسية وغيرها، ودون أب، وبلا إخوة وأخوات حقيقيات، فكانت تتنحى جانبًا بعيدًا من ساحة المدرسة تخلو فيه بنفسها وتفكر في أشياء كثيرة، وتبحث عن أجوبة لأسئلتها الحائرة، ولكن دون جدوى، ثم تبكي بحرقٍة دون أن تدرك سببًا معروفًا لبكائها.
وفي البيت الكبير الذي تعيش فيه كانت تختبئ تحت شجرة برتقال كبيرة بعيدة عن أعين أخواتها وتبكي ما شاء لها البكاء، وكان السؤال عن أبيها يحيرها دائما ويقض مضجعها كلما سمعت صديقة تتحدث عن أبيها وعن هداياه.. ما عدا هي؛ لماذا لا يكون لها أب مثلهن؟ إنها لم تر حتى صورة له، أو تسمع شيئًا عنه، أو تعرف ماذا كان يعمل..
ومرت الأيام بإيمان متقلبة، تارة ساكنة هادئة، وتارة كئيبة حزينة، أدركت من خلالها أن ما تعيش فيه ليس سوى مؤسسة اجتماعية لاحتضان وتربية الأيتام والفقراء المساكين ممن فقدوا معينهم أو جار عليهم الزمن.. كانت حينذاك قد بلغت الثانية عشرة من عمرها، وذات ليلة سألت أم حسن مربيتها مستفسرة عن والديها وكيف جاءت إلى هنا؟ ولماذا لم تر أحدًا من أقاربها كما يحدث لبقية أبناء الدار؟ولماذا لا تزور أو تزار في المناسبات؟
فما كان من أم حسن عندما سمعت أسئلتها الملهوفة الحزينة، وشاهدت ما ارتسم على وجهها البريء الطاهر من ألم وحيرة وضياع؛ إلا أن ضمتها إلى صدرها في حنان بالغ، وراحت تمسح على شعرها الذهبي الحريري الطويل بيدها التي أكل الزمن من قوتها ونضارتها، ثم مضت تحدثها بعد أن طمأنتها وهدأت من ثورة نفسها المضطربة، قائلة لها:
- إن والديك يا حبيبتي – رحمهما الله – كانا من أفضل الآباء، وكانا يحبانك كثيرًا، وقد حدث لهما ذات يوم حادث فظيع توفيا فيه وهما قادمان من البيت لحضور حفل زفاف أحد الأصدقاء الأعزاء، وكنت معهما، وشاء الله لك الحياة بعد أن أصبت إصابة خفيفة.. ولما خرجت من المستشفي ولم يسأل أحد عنك؛ أحضروك هنا مؤقتًا حتى يأتي أحد أقاربك.. ولم يأتِ أحد.. وقيل: إنه لم يبلغ عنك لأن والديك لم يعرفا بسبب الحادث، وقد يكونان غريبين عن البلد مثلاً، وهذا هو السبب في عدم معرفة أقاربك.
وبعد أن أخذت إيمان نفسًا عميقًا؛ قالت في اضطراب:
- ولكنك يا أمي تقولين إن والديّ كانا من أفضل الناس؛ فكيف عرفت ذلك؟
قالت:
- إن ذلك ظاهر من مظهرهما عندما كانا في المستشفي.
قالت ذلك بارتباك محاولة إنهاء الموضوع، وفضت الحديث فيه بعد أن مضت تزيد وتختلق من عندها حكايات حتى جعلتها تقتنع بحديثها بعض الشيء.
شعرت إيمان ببعض الراحة والسكينة بعد أن استمعت لحديث أم حسن، ووجدت فيه جوابًا شافيًا لسؤالها الحائر الذي طالما قض مضجعها وأقلق تفكيرها وآلم نفسها.
مرت الأيام تتلوها الشهور وتتبعها السنوات، وشبت إيمان وصارت فتاة ذات جمال وكأن الله قد خصها بهذا الجمال وأعطاها من حسن الخلق والطباع وميزها بخصال حميدة وصفات عديدة تعويضًا عن حرمانها من عطف الأبوين وحنانهما.. ولما نالت الشهادة الإعدادية ترك لها حرية الاختيار بين دخول معهد المعلمات وبين دخول المرحلة الثانوية؛ فاختارت الثانوية العامة بعد تفكير عميق، وخطة مدروسة وضعتها للمستقبل.
كانت من الطالبات المتفوقات دائمًا واللاتي يحصلن على شهادات تقدير وثناء.
كانت تقضي بداية اليوم في المدرسة وبعد الخروج منها تذهب إلى الدار، وهناك تجتمع مع أخواتها في الدار ويتناولن الغذاء معًا، ثم تنام بعض الوقت وتستيقظ لتصلي العصر مبكرة، ثم تنكب على مذاكرة دروسها، وفي المساء تجلس أمام التلفاز تشاهد بعض المسلسلات الاجتماعية الهادفة التي تعرض في كل مرة أكثر من قضية، وكانت تحاول دائمًا أن تجد الحل لكل مشكلة أمامها قبل نهاية المسلسل، هكذا دائمًا عودت نفسها.. كانت أيضًا تجد لذة في متابعة البرامج الدينية وتخرج منها بفائدة عظيمة، وتنصت باهتمام إلى شكاوى البنات والأولاد التي يرسلونها.. وتتعجب تارة وتستغرب تارة أخرى من ظلم وجهل بعض الآباء والأمهات.
على هذا المنوال استمرت حياة إيمان تسير طيلة السنوات الثلاث، على الرغم من الألم المكبوت الذي كانت تعانيه في صمت وابتسامة مزيفة حين تبدأ العطلة الصيفية وترى زميلاتها في الدار قد استعددن لقضاء العطلة الصيفية عند ذويهن أو أقاربهن، ما عداها وبعض الصغيرات اللاتي لا يفقهن شيئًا مما حولهن.. فترجع بذاكرتها إلى قضية أم حسن التي حكتها لها عن والديها؛ فتجد بعد استرجاعها أن هناك قوة لم تمتلئ، إذن؛ لابد أن في الأمر شيئًا ما، وأن الحكاية لم تنته، ومضت تفكر وتفكر، وتقول لنفسها:
- لا بد من أن هناك سرًا ما، وأي سر..
كانت تردد ذلك وتتساءل بينها وبين نفسها:
- يا لغبائي! كيف صدقت كلام أم حسن بهذه البساطة؟ وكيف لم يخطر على بالي أن أسألها أسئلة معينة لعلي بذلك أتوصل إلى الحقيقة..؟
وتفيق من أفكارها بضربة يدها على جبينها: كيف أسألها.. وقد رحلت إلى العالم الآخر منذ سنتين؟!
بقيت إيمان حائرة متألمة داخل نفسها، إنها لا تجرؤ على سؤال أي واحدة أخرى من المقيمات في الدار هذا السؤال، وما يدريها أن أحدًا يعرف قصتها غير أم حسن؟
بدأت العطلة وانتهت وهي لا تزال حبيسة الدار وسجينة أفكارها، وسؤالها الذي لا يكف عن التنغيص عليها بين فترة وأخرى.
ومرت الأيام وهي تعدها يومًا بعد يوم لتخرج بانتهائها من السجن الذي تقبع فيه؛ فقد شدها الحنين وأذابها الشوق لرؤية أخواتها في الدار، وإلى سماع أخبارهن، وسماع كل جديد خارج السور قد حدث في فترة غيابهن، وكانت تمني نفسها بلقاء شريفة – صديقتها العزيزة – التي عرفتها من مقاعد الدراسة لا من الدار؛ لتفضي لها ببعض ما يجول في فكرها ويضطرم في نفسها.. ثم تضحك من نفسها قائلة:
- أنا أعد الأيام لتمضي العطلة، وغيري يبكون على مرور كل يوم منها؟! سبحان الله! إن الإنسان منا لا يرضيه شيء في هذه الدنيا.
وعند الإعلان عن بداية موعد التسجيل في الجامعة؛ لم تترك إيمان أدنى فرصة لنفسها للتفكير في اختيار القسم الذي تتخصص في دراسته، بل إن قسم الدراسات الاجتماعية كان هو القسم الذي خططت له، وبنت على إثره قاعدة مستقبلها العملية؛ حتى تتخرج لتكون باحثة اجتماعية تعمل على مساعدة الغير بحل المشاكل الأسرية أو النفسية التي تعود على صاحبتها بأمراض اجتماعية مختلفة قد تتسبب في تدمير حياتها الاجتماعية والأخلاقية والنفسية، وقد يكون هذا بسبب أسباب بسيطة كما ترى وتسمع من خلال ما تشاهده في التلفاز، وما تؤكد عليه الحياة الواقعية من خلال معايشتها لأناس كثيرين من بين صديقاتها في المدرسة وفي عالم الجامعة الرحب الممتد والزاخر بمختلف العلوم التي تساعد على توسيع مدارك الإنسان وتعريفه بأشياء جديدة عليه.
نسيت إيمان المشكلة التي تعاني منها وتقلقها دائمًا؛ فولوجها في معركة القراءة والكتابة والبحث والدراسة المستمرة جعلها تنسى ذلك، حتى إحساسها بالوحدة وشعورها بأنها إنسانة متميزة في كل شيء، حتى في الأهل والأقارب.
وكان جدها وتفوقها الدائم على زميلاتها،ومثاليتها محط أنظار الجميع من دكتورات وأستاذات إلى صديقات وزميلات.
وكانت صديقتها شريفة التي اختارت قسم اللغة العربية لا تقل عنها تفوقًا ومثالية.. حتى عرفت أن هناك من ينظر إليها بعين الحسد والحقد الدفين؛ لتفوقها الباهرة المستمر، ولصداقتها التي ابتدأت من الابتدائية ولا تزال متينة قوية حتى الآن.
نالت إيمان الشهادة الجامعية بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وارتدت لباس التخرج الأسود والقبعة المربعة تعلو رأسها، وكأنها تعلن بكل فخر وزهو مدى كفاح مرتدي هذه القبعة، ومدت يدها لتتسلم الشهادة وابتسامة الأمل تتراقص حول شفتيها، وسرعان ما جال في خاطرها خاطر قلب سعادتها للحظات ألماً وحزناً، عندما تذكرت أمها وتمنت لو أنها تراها الآن وتبارك لها وتفخر بها كغيرها من الزميلات والصديقات، ولم تشعر بنفسها إلا والدموع تنهمر من عينيها كاللؤلؤ في طهارة ونقاء، وأحست بيد زميلتها وهي تدفعها للأمام؛ فتابعت سيرها بعد أن أوقفتها الذكرى عن متابعة السيرة الجماعية.
بعد انتهاء مراسم استلام الشهادة؛ عادت إيمان إلى الدار وهي تحمل سلاح المستقبل، وتفكر في كيفية قضاء هذه العطلة الطويلة في الدار وحيدة كعادتها كل عام بدون صديقات أو زميلات، وقد لاح أمامها المستقبل يفتح لها ذراعيه؛ فمضت تفكر كيف سيكون هذا المستقبل الجديد؟ وكيف ستكون أيامها عندما تطرق هذه المرة بابًا جديدًا من أبواب الحياة الواسعة عندما تطرقه لتعطي فيه وليس لتأخذ منه؟ وراحت تتساءل بينها وبين نفسها: أيهما أفضل؛ الدراسة، أم العمل؟ وأيهما أكبر مسؤولية؛ العمل، أم الدراسة؟ وهل سأنجح في العمل كما نجحت في الدراسة؟
وعادت تجيب على أسئلتها بنفسها: العمل واجب فرضه الله علينا لنعيش منه كما فرضته علينا الحياة، والدراسة أيضًا أمر الله بها كما أمر بها رسوله الكريم، وقد قال تعالى في محكم كتابه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [المزمر: 9].
نامت ليلتها وهي تتأرجح بين التفكير في المستقبل وبين فرحتها بنيل الشهادة وإحساسها بأنها لم تعد عالة على أحد؛ لأنها ستتكفل بنفسها منذ الآن، ولن تقبل بعد اليوم معونة أو مساعدة من أي إنسان من غير أن تكون في حاجة ماسة لها.
في الصباح عندما جلست تتناول إفطارها؛ سألتها مديرة الدار قائلة:
- ماذا ستفعلين بشان مستقبلك؟
ردت في فخر:
- سأعمل دون شك.
- الله يوفقك يا ابنتي، ويجعل التوفيق والنجاح حليفك دائمًا.. وأين ترغبين أن تعملي؟
ردت إيمان في سعادة:
- في إحدى المدارس إن شاء الله.
وساد المكان فترة صمت، ثم قالت المديرة:
- لماذا لا تعملين هنا؟
- هنا؟! أين؟ في الدار؟
- أليس من حقها عليك أن تعملي فيها كما تعلمت وعشت فيها؟
وفجأة شعرت إيمان بأن قيدًا حديديًا قد امتد وطوق عنقها ويديها وشل حركتها؛ فلم تعد تستطيع النطق، وأحست بأن الدماء تتصاعد إلى وجهها ورأسها حارة، ومضت تحدث نفسها قائلة:
- هنا.. أعمل هنا في السجن الكثيب الذي قضيت فيه زهرة عمري متعطشة إلى الحنان.. ظامئة إلى الحب.. محرومة من الأمومة والأبوة؟!
كانت تردد في صمت بينها وبين نفسها، في حين راحت مديرة الدار تقرأ في عينيها ما ارتسم على معالم وجهها من الحزن الذي لا يمكن إخفاؤه؛ فقالت بعد أن جاهدت في أن تبعد نبرة الشفقة من صوتها:
- ما بك يا إيمان؛ هل قلت ما يؤلمك دون قصد مني؟ الله وحده يعلم كم..
ولم تدعها تكمل، بل قالت في صوت يشوبه اليأس والألم المكتوم:
- أبدًا، لم تقولي شيئًا يؤلمني، ولكن أمنيتي أن أعمل في مجال غير هذه الدار، وأحب أن أعرف كيف تكون الحياة خارج الدار، وكيف يعيش الناس خارجها، وما هي المشاكل التي يتخبطون في وحلها، وما أسبابها؛ لعلني أساعد يومًا بائسة، أو أعمل على إنقاذ ساذجة طيبة، والدار يا أمي..
وتوقفت مندهشة عند نطقها لهذه الكلمة التي حرمت منها سنوات عمرها كله، وتمنت أن تقولها، ولكنها لم تجد من تقولها له، حتى صارت ترددها بينها وبين نفسها في الأيام التي تحس فيها بقسوة الحياة عليها، وتشعر بأنها بلا أم تخفف عنها ما تعانيه من أحزان الحياة وآلامها وصدمات الزمن الذي لا يرحم..
- آه، أمي، يا لها من كلمة حلوة عذبة شافية.. كالبلسم للجرح..
وندت عنها آهة حرى فاضت بما حملته من أشواق وحنين طيلة السنوات الماضية..
- إيمان حبيبتي.. ما بك صمت؟ قوليها ثانية، ما أعذبها من كلمة! قوليها يا ابنتي..
كانت تقول ذلك ودموعها تنهمر في استسلام وهدوء؛ فما كان من إيمان إلا أن ألقت برأسها على صدرها دون أن تنبس ببنت شفة، وأطلقت لدموعها العنان لتعبر عن مكنون نفسها، ومضت المديرة تغدق عليها من حبها وحنانها، الشيء الذي جعلها معه تشعر أن هذه ليست إلا ابنتها وليست ربيبة دار..
ولما فرغت إيمان من إبداء الأسباب الجوهرية التي جعلتها تصر على أن يكون عملها خارج هذه الدار للمرة الثانية، ثم مضت المديرة تبدي أسبابها التي جعلتها تعرض عليها هذه الفكرة؛ فكان مما قالته:
- يا ابنتي! لا تنسي أنك قضيت طفولتك وصباك وشبابك معنا، وكلنا كنا أسرة واحدة، وأنا بالذات لا أستغني عنك ولا أصبر عن رؤيتك أبدًا، لهذا أحببت أن تبقي هنا لأراك باستمرار، وأكون على علم دائم بأخبارك، وأشاركك فرحتك عند زواجك وانتقالك إلى بيتك الجديد بإذن الله..
أحست إيمان على أثر هذه الكلمة التي لم تتوقعها أن خنجرًا حادًا قد غاص في أعماق قلبها، فطعنه طعنة قوية جعلتها أسيرة للعذاب طيلة حياتها.. حاولت أن ترد بأية كلمة ولكنها عبثًا حاولت، كانت الطعنة أقوى من أن تحتملها؛ فانسلت من الإدارة بأحزانها التي تأكل منها بعد أن اختلقت لها عذرًا.
كان الليل هو الرفيق الوحيد لإيمان في سهرها وجراح قلبها وآلام نفسها، كانت تشكو لله وحده حالتها وتدعوه وتناجيه بحالها، وكانت تبكي بمرارة وأسى كلما تذكرت كلمات المديرة؛ وخصوصًا كلمة الزواج والبيت، وكانت تسأل نفسها: هل سأتزوج في يوم من الأيام؟ ومن يرضى بزوجة عاشت في الدار طيلة حياتها؟ زوجة مجهولة الهوية والعنوان والأصل؟ وبلا أقارب أو أحباب؟ وهل سيصدق حكايتي المجهولة؟
وتوالت عليها الأفكار السوداء تباعًا، وامتلأ رأسها بالأسئلة الواحد تلو الآخر.