ضواء القمر

أهلا بك أيها القادم إلى ضواء القمر

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

ضواء القمر

أهلا بك أيها القادم إلى ضواء القمر

ضواء القمر

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

عقيدة وعبادات ومعاملات ومذاهب ولغة

الخلاصة في علوم البلاغة Fawzan الخلاصة في علوم البلاغة Iftaa الخلاصة في علوم البلاغة Mnjeed
الخلاصة في علوم البلاغة Ebn-baz الخلاصة في علوم البلاغة OSEMEEN الخلاصة في علوم البلاغة Jabreen
في بيانها السادس..الهيئة الشرعية تطالب بإقالة المجترئين على الدين.. عناصر إيرانية ومن "حزب الله" تقمع المحتجين في درعا.. مصادر مطلعة تؤكد مقتل "خميس القذافي" . .مقربون من القذافي يبحثون عن خروج مشرف له.. والثوار يرفضون مبدأ التفاوض .. القربي: الرئيس اليمني يقترب من اتفاق لنقل السلطة .. استمرار تأجيل قضية خالد سعيد إداريا بسبب الغياب الأمني .. مسؤول بالبنك المركزي: المقر خال من المستندات.. وتم إخلاؤه منذ 7 أشهر . .الشرطة الجزائرية تتصدى لمسيرة جديدة نظمتها المعارضة بوسط العاصمة

    الخلاصة في علوم البلاغة

    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 14:57



    الخلاصة في علوم البلاغة

    تأليف
    الباحث في القرآن والسنة
    علي بن نايف الشحود



    البابُ الأولُ
    المدخلُ إلى علم البلاغة



    *-علمُ البلاغةِ :
    إنَّ الأساس الذي بنيتْ عليه البلاغةُ هو أولاً دراسة القرآن الكريم في التعبير ،ومقابلتِها بأساليب البلغاءِ وكذلك السُّنة النبوية ثانيا لتوضيح كلامِ أبلغِ الخلق صلى الله عليه وسلم ، ثم انتقلتْ للكلام عن بلاغة الشِّعر خاصةً والنثر ِعامةً في كلام العربِ الأقحاحِ .
    *-أساسُ علم البلاغة :
    يقومُ علم البلاغة على أساسين هما :
    (أ‌) – الذوقُ الفطريُّ الذي هو المرجعُ الأول في الحكم على الفنون الأدبية ، فيجدُ القارئُ أو السامع في بعض الأساليب من جرسِ الكلمات وحلاوتها ، والتئام التراكيب وحسنِ رصفها – وقوةِ المعاني وسموِّ الخيالِ ما لايجدُ في بعضها الآخر ، فيفضلُ الأولى على الثانية .
    (ب‌) - البصيرةُ النفَّاذةُ ، والعقلُ القادر على المفاضلة والموازنة والتعليلِ ،وصحةِ المقدمات ، لتبنَى عليها أحكامٌ يطمئنُ العقل إلى جدارتِها ، ويسلِّمُ بصحَّتِها
    *-نشأة ُعلمِ البلاغة :
    هناكُ اختلافٌ كبير في هذا الصدد؛ فمنهم من يقولُ: واضعُ علم البلاغة هو الجاحظُ وخاصة في كتابه القيِّمِ البيانُ والتبيينُ ، وقيل: هو الجرجاني المتوفى 471هـ بكتابيه دلائل الإعجازِ وأساس البلاغة
    وقيل: هو ابن المعتزِّ المتوفى 296هـ بكتابه البديع ، وقيل: السكاكيُّ بكتابه المفتاح ...
    *-الغايةُ منَ البلاغة:
    تأديةُ المعنى الجميل واضحاً بعبارةٍ صحيحة فصيحة ٍ،لها في النفس أثرٌ ساحر ٌ،مع ملائمة كلِّ كلامٍ للموطنِ الذي يقال فيه ، والأشخاصُ الذين يُخاطَبون .
    *-عناصرُ البلاغةِ :
    هي لفظٌ ومعنًى ، وتأليفٌ للألفاظ يمنحُها قوةً وتأثيراً وحسناً ، ثم دقةٌ في اختيار الكلمات والأساليب على حسب مواطن الكلام ومواقعه ،و موضوعاته ،وحال السامعين ، والنزعةِ النفسية التي تتملكهم ،و تسيطرُ على نفوسهم .
    *-الهدفُ من دراسة البلاغة :
    (أ‌) هدفٌ دينيٌّ ؛ يتمثل في تذوق بلاغةِ القرآن الكريم والوقوف على أسرارِ ها، وتذوقِ بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم واقتفاءِ أثره فيها.
    (ب‌) هدفٌ نقديٌّ أو بلاغيٌّ ؛ يتمثلُ في التمييز بين الجيد والرديء من كلام العرب شعراً ونثراً .
    (ت‌) هدفٌ أدبيٌّ ؛ يتمثل في التدريب على صناعةِ الأدب،وتأليف الجيد من الشعر والنثر
    *-أقسامُ علمِ البلاغةِ :
    ينقسمُ علمُ البلاغة إلى ثلاثة أقسامٍ :
    (أ‌) علمُ المعاني : وهو علمٌ يعرَفُ به أحوال اللفظ العربيِّ التي بها يطابقُ مقتضَى الحال
    (ب‌) علمُ البيان : وهو علمٌ يعرَف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ٍفي وضوحِ الدلالة عليه
    (ت‌) علمُ البديع : وهو علمٌ يعرَف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعايةِ تطبيقه على مقتضَى الحال ووضوحِ الدلالة .





    **************




    الفصلُ الأولُ- الفصاحةُ


    *-تعريفُها: لغةً :البيانُ والظهورُ ،قال الله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي ...} (34) سورة القصص، أي أبينُ منِّي منطقاً وأظهرُ منَّي قولاً .
    والفصاحةُ في اصطلاحِ أهل المعاني: عبارةٌ عن الألفاظِ البيِّنةِ الظاهرةِ, المتبادرةِ إلى الفهم, والمأنوسةِ الاستعمال بين الكتَّابِ والشّعراء لمكانِ حُسنها.
    فالفصاحةُ تشملُ الكلمةَ ، والكلامَ ، والمتكلِّمَ ، فيقالُ : كلمةٌ فصيحةٌ ، وكلامٌ فصيحٌ ، ومتكلمٌ فصيحٌ .
    *- فصاحةُ الكلمة ِ:
    تكون الكلمةُ فصيحةً إذا كانت مألوفة َالاستعمال بين النابهينَ من الكتَّابِ والشعراء، لأنها لم تتداولْها ألسنتهُم ولم تجرِ بها أقلامُهم إلا لمكانتِها من الحُسن باستكمالها عناصر َالجودةِ ، وصفاتِ الجمالِ .
    *-شروطُ فصاحةِ الكلمة :
    يجبُ أن تكون الكلمةُ سالمةً من عيوبٍ ثلاثة ٍ:
    (أ‌) تنافرُ الحروفِ
    (ب‌) الغرابة ُ
    (ت‌) مخالفةُ الوضعِ
    *- تنافرُ الحروفِ :
    فهو ثقلُ الكلمة عند وقعِها على السمعِ وصعوبةُ أدائها باللسانِ ، نحو كالظشِّ (للموضع الخشن) ونحو: سَلِجَ ( سَلِجَ اللُقْمة بالكسر، يَسْلَجُها سَلْجَاً وسَلَجاناً، أي بَلِعها) ،و كالنقنقة « لصوتِ الضفادعِ» ونحو: مستشزراتٌ « بمعنى مرتفعاتٍ» من قول امرئ القيس يصف شَعر ابنة عمه:
    غَدائِرُه مُسْتَشْزَرَاتٌ إِلى العُلاَ ... تَضِلُّ العِقَاصُ في مُثَنىً ومُرْسَلِ
    فقد وَصَفها بكَثْرة الشَّعرِ والْتِفَافِه
    *-الغرابةُ :
    هي كونُ الكلمة غيرَ ظاهرةِ الدلالة على المعنى الموضوعِ له ، وذلك لسببين :
    أحدهُما أنَّ الكلمة غيرُ متداولةٍ في لغة العربِ ، فيحتاجُ لمعرفةِ معناها الرجوعُ إلى المعاجم والقواميس
    مثالُ ذلك قولُ عيسى بن عمرو النَّحوي وقد سقطَ عن دابته فالتفَّ حوله الناسُ فقال :
    ما لَكُمْ تَكَأْكَأْتُم عليَّ تكَأْكُؤَكُم على ذِي جِنَّةٍ ؟ افْرَنْقِعُوا عنّي
    فكلمة ُ(تكاكأتم ) وكلمة (افرنقعوا) غريبتان ، أي مالكم اجتَمَعْتم تنَحُّوا عنِّي
    والثاني –عدمُ تداول الكلمة في لغة العربِ الشائعة ، «كمسّرج» من قول رؤبة بن العجاج:
    ومقلةً وحاجباً مزججا وفاحِماً ومَرْسِناً مُسَرَّجَا
    فلا يعلمُ ما أرادَ بقوله « مسرَّجا» حتى اختلف أئمة اللغة في تخريجه.
    *- مخالفة ُالوضعِ :
    هو كونُ الكلمة ِ مخالفةً لما ثبتَ معناهُ عند علماء اللغة مثل (الأجلل) في قول أبي النجم :
    الحَمْدُ لِلّهِ العَلِيُّ الأَجْلَلِ الواحد الفرد القديم الأوَّل
    فإن القياس (الأجلِّ) بالإدغام، و لا مسوّغ لفكّه ،فهو يريدُ الأَجَلّ وأظْهَر التضعيف ضَرورةً


    فصاحةُ الكلامِ
    تكونُ فصاحةُ الكلامِ بسلامتهِ من عيوبٍ ثلاثة ٍهي :
    (1) تنافرُ الكلماتِ
    (2) ضَعفُ التأليفِ
    (3) التعقيدُ
    الأولُ - « تنافُر الكلمات» :
    فلا يكونُ اتصالُ بعضها ببعض مما يسببُ ثقلها على السمعِ ، وصعوبةَ أدائها باللسان ، (وإن كانَ كلُّ جزءٍ منها على انفراده فصيحاً) كالشطرِ الثاني في قول الشاعر:
    وَقبرُ حربٍ بمكانٍ قفرٍ وَليس قَربَ قبرِ حربٍ قبرُ
    و كالشطرِ الأولِ في قول أبي تمَّام:
    كَرِيمٌ مَتّى أمْدَحْهُ أمْدَحْهُ والوَرَى ... مَعِي وَإذَا مَا لمتهُ لمُتهُ وَحدِي
    فإنَّ في قوله أمدحُه ثقلاً ما لما بين َالحاء والهاء من تنافرٍ.
    الثاني - « ضعفُ التأليفِ» :
    هو خروجُ الكلام عن قواعدِ اللغة المطَّردة المشهورةِ ،كأن يكونَ الكلامُ جارياً على خلافِ ما اشُتهرَمن قوانينِ النحو المعتبرةِ عند جُمهور العلماء – كوصلِ الضميرين، وتقديمِ غير الأعرافِ منهما على الأعراف- مع أنه يجبُ الفصلُ في تلك الحالةِ – كقولِ الشاعر:
    جَزَى بَنُوهُ أبا الْغيْلانِ عنْ كِبَرٍ * وَحُسْنِ فِعْلٍ كَما يُجْزَى سِنِّمارُ
    والعيبُ أعاد الضمير في بنوه على أبي غيلانَ وهو متأخرٌ لفظاً ورتبة ،لأنه مفعولٌ به ،ورتبتهُ التأخيرُ
    وكقول حسانِ بن ثابتٍ رضي الله عنه :
    وَلَوْ أَنَّ مَجداً أَخلَدَ الدَّهْرَ واحِداً ... مِنَ النَّاسِ، أَبقى مَجْدُهُ الدَّهرَ مُطْعِما
    والعيبُ فيه أنَّ الشاعر أعاد الضميرَ في مجده على مطعِم، وهو متأخرٌ لفظاً ورتبةً، لأنه مفعولٌ به ،ورتبته التأخيرُ
    الثالث - التعقيدُ : وهو نوعانِ : التعقيدُ اللفظيُّ ، والتعقيدُ المعنويُّ
    *-التعقيدُ اللفظيُّ :
    هو أن ْ يكون الكلامُ خفيَّ الدّلالة على المعنى المراد به – بحيث تكونُ الألفاظُ غيرَ مُرتبةٍ على وفق ترتيبِ المعاني.
    وينشأُ ذلك التّعقيدُ من تقديمٍ أو تأخيرٍ أو فصلٍ بأجنبيٍّ بين الكلماتِ التي يجبُ أن تتجاورَ ويتصلَ بعضُها ببعض كقولِ المتنبي :
    جفَخَتْ وهُم لا يجْفَخون بهابِهم ... شيَمٌ على الحسَب الأغرِّ دلائلُ
    أصل – جفخت (افتخرت) بهم شيمَ دلائل على الحسب الأغرِّ هم لا يجفخون بها.
    ومثل : (ما قرأ إلا واحداً محمدٌ مع كتاباً أخيه ) كان هذا الكلام ُغيرَ فصيح، لأن فيه تعقيداً لفظيًّا ، ولكن التعبيرَ الفصيحَ هو ( ما قرأ محمدٌ مع أخيهِ إلا كتاباً واحداً).
    *-التعقيدُ المعنويُّ:
    أن يكون الكلامُ خفيَّ الدَّلالة على المعنى المرادِ – بحيث لا يفْهم معناه إلاّ بعدَ عناءٍ وتفكيرٍ طويلٍ.
    مثال ذلك قول امرئ القيس :
    وأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةً ... كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
    الخيفانةُ الجرادةُ ، وكنَّى هنا عن الفرسِ الخفيفةِ ، والسعفُ المنتشرُ الشَّعرُ يكسو وجهَها فقبيحٌ
    وكما في قول عبّاس بن الأحنَف:
    سَأطلُبُ بُعدَ الدَّارِ عَنْكم لِتقْرُبوا ... وَتَسْكُبُ عَيْنايَ الدُّموعَ لِتَجْمُدَا
    جعلَ سكبَ الدُموع كنايةً عمّا يلزمُ في فراقِ الأحبَّة من الحُزن والكمد، فأحسنَ وأصابَ في ذلك، ولكنَّه أخطأ في جعل جمودِ العينِ كنايةً عمَّا يوجبُه التَّلاقي من الفرحِ والسُرُور بقُرب أحبتّهِ، وهو خفىٌّ وبعيدٌ - إذ لم يعرفْ في كلام العربِ عند الدُّعاءِ لشخصٍ بالسرور (أنْ يقالَ له: جُمدتْ عينُك) أو لا زالتْ عينُك جامدةً، بل المعروفُ عندهم أنَّ جمودَ العين إنّما يكنَّى به عن عدمِ البكاءِ حالةَ الحزن، كما في قول الخنساء:
    أَعَينَيَّ جُودَا ولا تَجْمُدا ... ألا تَبْكِيانِ لِصَخْرِ النَّدَى



    فصاحةُ المتكلَِّمِ
    عبارةٌ عنِ المَلكةِ التي يقتدرُ بها صاحبُها على التعبيرِ عن المقصودِ بكلامٍ فصيح، في أيِّ غرضٍ كانَ.
    فيكونُ قادراً - بصفةِ الفصاحةِ الثابتةِ في نفسه -على صياغةِ الكلام، مُتمكّناً منَ التّصرفِ في ضُروبه ،بصيراً بالخوض في جهاتهِ ومَنَاحِيهِ.






    .
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:00



    الفصل الثاني – البلاغةُ

    البلاغةُ في اللغة (الوُصولُ والانتهاءُ)، يقالُ بلغَ فلانٌ مرادَه – إذا وصلَ إليه، وبلغَ الركبُ المدينةَ – إذا انتهى إليها، وَمبلغُ الشيء منتهاهُ .
    وتقعُ البلاغةُ في الاصطلاحِ وصفاً للكلامِ، والمتكلّمِ فقط، ولا توصفُ «الكلمةُ» بالبلاغةِ، لقصورها عن الوصول بالمُتكلَّمِ إلى غرضهِ، ولعدمِ السَّماع بذلك.
    *-بلاغةُ الكلامِ :
    البلاغةُ في الكلامِ: مطابقتُه لما يقتضيه حالُ الخطاب– مع فصاحةِ ألفاظهِ «مفردِها ومركَّبِها».
    والكلامُ البليغُ: هو الذي يُصورِّهُ المتُكلِّمُ بصورةٍ تناسبُ أحوالَ المخاطبين.
    وحالُ الخطابِ « ويسمَّى بالمقامِ» هو الأمرُ الحاملُ للمتكلِّم على أن يُوردَ عبارتَه على صورةٍ مخصوصةٍ دون أخرى.
    والمُقتضَى - « ويسمَّى الاعتبارُ المُناسبُ» هو الصورةُ المخصوصةُ التي تُورَدُ عليها العبارةُ.
    مثلاً – المدح ُ– حالٌ يدعو لإيرادِ العبارة على صورةِ الإطناب ،وذكاءُ المخاطب – حال ٌيدعو لإيرادها على صورةِ الإيجاز، فكلٌّ من المدحِ والذكاءِ « حالٌ ومقامٌ» وكلٌّ من الإطناب والإيجاز «مُقتضَى»، وإيراد الكلام على صورة الإطناب أو الإيجاز « مُطابقة للمقُتضَى» وليست البلاغة إذاً مُنحصرة في إيجاد معانٍ جليلة، ولا في اختيار ألفاظٍ واضحة جزيلةٍ، بل هي تتناولُ مع هذين الأمرين أمراً ثالثاً (هو إيجادُ أساليبَ مُناسبةٍ للتأليف بين تلك المعاني والألفاظ) مما يُكسبها قوَّةً وجمالاً .
    وملخَّصُ القول – إنَّ الأمرَ الذي يَحملُ المُتكلّم على إيراد كلامهِ في صورةٍ دون أخرى: يُسمَّى «حالاً» وإلقاءُ الكلام على هذه الصُّورةِ التي اقتضاها الحال يُسمَّى « مُقتضَى» والبلاغةُ: هي مُطابقةُ الكلامِ الفصيحِ لما يقتضيهِ الحالُ.
    *-بلاغةُ المتكلِّم :
    هي مَلَكة في النَّفس يقتَدرُ بِهَا صاحبها على تأليف كلام بليغ: مُطابق لمقتَضَى الحال، مع فصاحتهِ في أيِّ معنًى قَصَده، وتلك غايةٌ لن يَصِل إليها إلاَّ من أحاطَ بأساليبَ العربِ خُبراً، وعرف سُننَ تخاطُبهِم في مُنافراتهِم، ومفاخراتهِم، ومديحهِم، وَهجائهِم وَشكرهِم، واعتذارهِم، لِيلَبسَ لكلِّ حالةٍ لبُوسُها «ولكلِّ مقامٍ مَقالٌ».




    الفصلُ الثالث- الأسلوبُ

    *-مفهومُ الأسلوبِ:
    هو المعنى المَصُوغُ في ألفاظٍ مؤلَّفةٍ على صورةٍ تكون أقربَ لنيل الغرضِ المقصود من الكلامِ، وأفعلَ في نفوسِ سامعيهِ.
    *-أنواعُ الأسلوبِ :ينقسمُ الأسلوبُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ :أسلوبٌ علميٌّ وأسلوبٌ أدبيٌّ وأسلوبٌ خطابيٌّ
    *-الأسلوبُ العلميُّ:
    وهو أهدَأُ الأساليبِ، وأكثرُها احتياجاً إلى المنطقِ السَّليمِ، والفكرِ المُستقيم، وأبعدُها عن الخيال الشِّعْرِي; لأنه يخاطبُ العقلَ، ويُناجي الفكرَ، ويَشْرَحُ الحقائق العلميَّةَ التي لا تخلو من غموضٍ وخفاءٍ.
    و أظهَرُ ميزاتِ هذا الأسلوبِ «الوُضُوحُ»، فيجبُ أن يُعنَى فيه باختيارِ الألفاظِ الواضحةِ الصريحةِ في معناها ،الخاليةِ من الاشتراكِ، وأنْ تُؤَلَّفَ هذه الألفاظُ في سُهولةٍ وجلاءِ، حتى تكون ثَوباً شفَّافاً للمعنَى المقصودِ.
    أهمُّ مميزاتِ الأسلوبِ العلميِّ :
    1. هدفُه إظهارُ الحقائقَ وكشفِها للسامعِ أو القارئِ
    2. يمتازُ بالوضوحِ والدقةِ والتحديد، والترتيبِ المنطقيِّ
    3. يمتازُ باستخدام الأدلةِ والبراهينَ، والبعدِ عن المبالغة ِ
    4. يمتازُ بالابتعادِ عن الخيالِ والعاطفة
    5. تتخللُه مصطلحاتٌ علميةٌ متصلةٌ بالموضوع الذي يتناولهُ
    *-مثالُ الأسلوبِ العلميِّ :
    وصفُ البركةِ في القصر :
    « وفي فناءِ القصر بركةٌ كبيرة ، يزيدُ اتساعها عن مائة متر طولاً في مثلِها عرضاً، وحولَها سورٌ متوسطُ الارتفاعِ ، يستطيعُ الإنسانُ أن يجلسَ على حافتهِ ، ويرى ماءَ البركةِ الذي يتدفقُ إليها بشدةٍ من النهرِ المجاور ، وهو ماءٌ صافٍ ،لا يحجبُ قرارَ البركةِ عن العينِ » .
    *-نوعا الأسلوبِ العلميِّ :
    1. أسلوبٌ علميٌّ بحتٌ، وهو الذي يُعنَى بعرضِ الحقائقَ العلميةِ دون انصرافٍ إلى جمالِ اللفظ، أو أناقةِ التعبيرِ .
    2. أسلوبٌ علميٌّ متأدبٌ، وهو الذي يضعُ الحقائقَ العلميةَ في عبارةٍ لا تخلو من أناقةٍ في اختيارِ ألفاظِها ، وإنْ كانتْ لا تصلُ في ذلك إلى الأسلوبِ الأدبيِّ .
    *-مثالُ الأسلوبِ العلميِّ البحتِ :
    « الثعابينُ زواحفُ معروفةٌ ، تمتازُ باستطالةِ جسمِها وخلوِّهِ من الأطرافِ ، وهيَ كثيرُ الانتشارِ في جميع أنحاءِ المعمورةِ ، ولا تخلو منها بقعةٌ في العالم إلا نيوزيلندة ، وبعضُ الأجزاء الأخرى ».
    *-مثالُ الأسلوبِ العلميِّ المتأدبِ :
    قال الجاحظُ في كتابه الحيوان يصفُ نوعاً من الثعابينِ :« زعموا أنها إذا انتصَفَ النهارُ واشتدَّ الحرُّ في رمالِ بلعنبرِ، وامتنَعتِ الأرضُ على الحافي والمنتعلِ، ورَمِض الجندبُ، غمستْ هذه الحيّةُ ذنبَها في الرَّمل، ثم انتصبَتْ كأنها رُمحٌ مركوزٌ، أو عودٌ ثابتٌ فيجيءُ الطائِرُ الصغيرُ أو الجرادةُ، فإذا رأى عوداً قائماً وكرِهَ الوُقُوعَ على الرَّملِ لشدَّة حرِّه، وقَعَ علَى رأسِ الحيَّة، على أنّها عُودٌ، فإذا وقَعَ على رأسها قبضَتْ عليهِ، فإنْ كان جرادةً أو جُعَلاً أو بَعْضَ ما لا يُشْبعها مثلُهُ، ابتلعتْهُ وبقيتْ على انتصابِها، وإنْ كان الواقعُ على رأسِها طائراً يُشبِعها مثلُه أكلتْهُ وانصرفَتْ.. » .
    *-الأسلوبُ الأدبيُّ :
    الجمالُ أبرزُ صفاتهِ، وأظهرُ مُمَيزاتهِ، ومنشَأُ جمالِه، لما فيه من خيالٍ رائعٍ، وتصويرٍ دقيقٍ، وتلَمُّسٍ لوجوه الشّبهِ البعيدةِ بينَ الأشياء، وإلباسِ المعنويِّ ثوبَ المحسوسِ، وإظهارَ المحسوسِ في صورةِ المعنويِّ.
    *- أهمُّ مميزاتِ الأسلوبِ الأدبيِّ :
    1. هدفُه إثارةُ عاطفةِ السامع أو القارئِ والتأثيُر في نفسه
    2. يمتازُ باختيارِ الألفاظ ِوالتأثيرِ فيها
    3. ويمتازُ بامتزاجِ الفكرةِ بالعاطفةِ
    4. ويمتازُ بالعنايةِ بصورِ البيانِ من تشبيهٍ واستعارةٍ وكناية ٍ
    5. ويمتازُ بالحرصِ على موسيقيةِ العبارةِ ، لتصوِّرَ الإحساسَ وتهزَّ المشاعرَ
    *-نموذجٌ من الأسلوبِ الأدبيِّ :
    يقول البحتريُّ واصفاً البركةَ في قصرِ الخليفة العباسيِّ المتوكلِ :
    إذا النُّجُومُ تَرَاءَتْ في جَوَانِبِهَا لَيْلاً حَسِبْتَ سَمَاءً رُكّبتْ فيهَا
    لا يَبلُغُ السّمَكُ المَحصُورُ غَايَتَهَا لِبُعْدِ ما بَيْنَ قاصِيهَا وَدَانِيهَا
    يَعُمْنَ فيهَا بِأوْسَاطٍ مُجَنَّحَةٍ كالطّيرِ تَنقَضُّ في جَوٍّ خَوَافيهَا
    لَهُنّ صَحْنٌ رَحِيبٌ في أسَافِلِهَا، إذا انحَطَطْنَ، وَبَهْوٌ في أعَاليهَا
    صُورٌ إلى صُورَةِ الدُّلْفِينِ، يُؤنِسُها مِنْهُ انْزِوَاءٌ بِعَيْنَيْهِ يُوَازِيهَا
    تَغنَى بَسَاتِينُهَا القُصْوَى بِرُؤيَتِهَا عَنِ السّحَائِبِ، مُنْحَلاًّ عَزَاليهَا
    كأنّهَا، حِينَ لَجّتْ في تَدَفّقِهَا، يَدُ الخَليفَةِ لَمّا سَالَ وَادِيهَا
    وَزَادَها رُتبةً مِنْ بَعْدِ رُتْبَتِهَا، أنّ اسْمَهُ حِيْنَ يُدْعَى من أسامِيهَا
    مَحْفُوفَةٌ بِرِياضٍ، لا تَزَالُ تَرَى رِيشَ الطّوَاوِيسِ تَحكِيهِ وَتحكيهَا
    وَدَكّتَينِ كَمِثْلِ الشِّعرَيَينِ غَدَتْ إحداهُمَا بإزَا الأخرَى تُسَامِيهَا
    إذا مَسَاعي أمِيرِ المُؤمِنِينَ بَدَتْ للوَاصِفِينَ، فَلا وَصْفٌ يُدانِيهَا
    مثالٌ آخرُ على الأسلوبِ الأدبيِّ، قالَ أميرُ الشعراء أحمدُ شوقي- رحمه الله - في نهجِ البردةِ :
    ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ
    يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ
    يا نَفسُ دُنياكِ تُخفى كُلَّ مُبكِيَةٍ وَإِن بَدا لَكِ مِنها حُسنُ مُبتَسَمِ
    صَلاحُ أَمرِكَ لِلأَخلاقِ مَرجِعُهُ فَقَوِّمِ النَفسَ بِالأَخلاقِ تَستَقِمِ
    وَالنَفسُ مِن خَيرِها في خَيرِ عافِيَةٍ وَالنَفسُ مِن شَرِّها في مَرتَعٍ وَخِمِ
    تَطغى إِذا مُكِّنَت مِن لَذَّةٍ وَهَوًى طَغيَ الجِيادِ إِذا عَضَّت عَلى الشُكُمِ
    إِن جَلَّ ذَنبي عَنِ الغُفرانِ لي أَمَلٌ في اللَهِ يَجعَلُني في خَيرِ مُعتَصِمِ
    أَلقى رَجائي إِذا عَزَّ المُجيرُ عَلى مُفَرِّجِ الكَرَبِ في الدارَينِ وَالغَمَمِ
    إِذا خَفَضتُ جَناحَ الذُلِّ أَسأَلُهُ عِزَّ الشَفاعَةِ لَم أَسأَل سِوى أُمَمِ
    وَإِن تَقَدَّمَ ذو تَقوى بِصالِحَةٍ قَدَّمتُ بَينَ يَدَيهِ عَبرَةَ النَدَمِ
    *- الأسلوبُ الخطابيُّ:
    هنا تَبْرُزُ قوةُ المعاني والألفاظِ، وقوةُ الحجَّةِ والبرهانِ، وقوة ُالعقلِ الخصيبِ، وهنا يتحدثُ الخطيبُ إلى إرادةِ سامعيهِ، لإثارةِ عزائمهِم واستنهاضِ هممهِم، ولجمالِ هذا الأُسلوبِ ووضوحهِ شأْنٌ كبيرٌ في تأْثيره ِووصولهِ إلى قرارةِ النفوسِ، ومما يزيدُ في تأْثير هذا الأُسلوبِ منزلةُ الخطيبِ في نفوسِ سامعيهِ، وقوةُ عارضتِه، وسطوعُ حجَّتهِ، ونبَراتُ صوتهِ، وحسنُ إِلقائهِ، ومُحْكَم ُإِشارتهِ.
    *-أهمُّ مميزاتِ الأسلوبِ الخطابيِّ:
    1-من أظهرِ مميزاتِ هذا الأُسلوبِ التكرارُ، واستعمالُ المترادفاتِ، وضربُ الأمثالِ
    2- اختيارُ الكلماتِ الجزلةِ ، ذاتِ الرنينِ
    3- تعاقبُ ضروبِ التعبيرِ ، من إِخبارٍ إلى استفهامٍ إلى تعجبٍ إلى استنكارِ
    4- مواطنُ الوقفِ فيه قويةٌ شافيةٌ للنفسِ، واضحةً قَوِيّةً.
    مثال على الأسلوبِ الخطابيٍّ: خطبةُ أبي بكر ٍ رضي الله عنه لمَّا بويع بالخلافة ِ بعدَ أنْ حَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِاَلّذِي هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ: « أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي ؛ وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي ؛ الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ وَالضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيّ عِنْدِي حَتّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقّهُ إنْ شَاءَ اللّهُ وَالْقَوِيّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتّى آخُذَ الْحَقّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللّهُ، لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا ضَرَبَهُمْ اللّهُ بِالذّلّ ،وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطّ إلّا عَمّهُمْ اللّهُ بِالْبَلَاءِ ،أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ . قُومُوا إلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمُكُمْ اللّهُ » .
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:03



    البابُ الثاني
    في علم المعاني


    المبحثُ الأول- مقدمات ٌ

    إنَّ الكلامَ البليغَ: هو الذي يُصورُِّه المتكلِّمُ بصورةٍ تناسبُ أحوال المخاطبين، وإذاً لابُدَّ لطالبِ البلاغة أن يدرس هذه الأحوال، ويَعرفَ ما يجبُ أن يُصَوَّرَ به كلامهُ في كل حالةٍ، فيجعلَ لكلِّ مقامٍ مقَالاً.
    وقد اتفقَ رجالُ البيانِ على تسميةِ العلم الذي تُعرَفُ به أحوالُ اللّفظِ العربيَّ التي بها يُطابقُ اقتضاءَ الحال: باسمِ «علمِ المعاني » .
    تعريفُ علمِ المعاني، وموضوعُه وواضعُهُ :
    (1) علمُ المعاني أصولٌ وقوَاعِد يُعرَف بها أحوالُ الكلامِ العربيِّ التي يكونُ بها مُطابقاً لِمقتضَى الحال، بحيثُ يكونُ وفقَ الغَرَضِ الذيِ سِيقَ لهُ.
    فذكاءُ المُخاطَب: حالٌ تَقتضي إيجازَ القول، فإذا أوَجزتَ في خطابهِ كان كلامُك مطابقاً لمقتضَى الحالِ، وغباوتُه حالٌ تقتضي الإطنابَ والإطالةَ ، فإذا جاءَ كلامُك في مخاطبتهِ مطنباً: فهو مطابقٌ لمُقتضَى الحال، ويكونُ كلامُك في الحالين بليغاً، وَلو أنكَ عكستَ لانتفتْ منْ كلامِك صفةُ البلاغةِ.
    (2) وَموضوعُه – اللَّفظُ العربيُّ، من حيثُ إفادتُه المعاني الثَّواني التي هي الأغراضُ المقصودةُ للمتكلّم، من جعلِ الكلام مشتملاً على تلك اللَّطائفَ والخصوصيّاتِ، التي بها يُطابقُ مُقتضَى الحال.
    (3) وفائدتُهُ:
    (ا)- معرفةُ إعجازِ القرآن الكريمِ، من جهةِ ما خصَّهُ اللهُ به من جودةِ السبَّكِ، وحُسن الوصفِ، وبَراعةِ التَّراكيبِ ، ولُطفِ الإيجاز ،وما اشتملَ عليه من سُهولةِ الترَّكيبِ، وجزالةِ كلماتهِ، وعُذوبِة ألفاظهِ وسلامتِها ، إلى غير ذلك من محاسنهِ التي أقعدتِ العربَ عن مناهضتِه، وحارتَ عقولهُم أمامَ فصاحتهِ وبلاغتهِ.
    وكذلكَ معرفة أسرارِ كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فهو أبلغُ البلغاءِ ، وأفضلُ من نطقَ بالضادِ ، وذلك ليصارَ للعملِ بها ، ولاقتفاء أثره في ذلكَ .
    (ب) -الوقوفُ على أسرارِ البلاغةِ والفصاحةِ- في مَنثورِ كلامِ العرب ومنظومِه- كي تحتذيَ حذوهُ، وتَنسُجَ على منوالهِ، وتَفرِّقَ بين جَيِّدِ الكلام ورديئِهِ.
    (4) وواضعه – الشيخُ (عبدُ القاهرِ الجُرجانيِّ) المُتوفَّى سنة 471 هـ
    (5) واستمدادُه – من الكتابِ الشَّريفِ، والحديث النَّبويِّ وكلامِ العربِ.


    المبحثُ الثاني - الخبرُ

    *-تعريفُه :
    كلامٌ يحتملُ الصدقَ والكذبَ لذاتهِ ،وإن شئتَ فقل :«الخبرُ هو ما يتحقّقُ مدلولهُ في الخارجِ بدون النطقِ به» نحو: العلمُ نافعٌ . فقد أثبتنا صفةَ النفعِ للعلم، وتلكَ الصفةُ ثابتةٌ له، سواءٌ تلفظتَ بالجملةِ السابقة أمْ لم تتلفظْ.
    لأنَّ نفعَ العلمِ أمرٌ حاصلٌ في الحقيقةِ والواقعِ، وإنما أنتَ تحكي ما اتفقَ عليه الناسُ قاطبةً، وقضَتْ به الشرائعُ، وهديتْ إليه العقولُ، بدونِ نظر ٍإلى إثباتٍ جديدٍ.
    والمرادُ: بصدقِ الخبر مُطابقتُه للواقعِ ونفسِ الأمر ،والمرادُ بكذبهِ عدمُ مطابقتهِ له، فجملةُ: العلمُ نافعٌ – إن كانتْ نسبتُه الكلاميَّة ُ(وهي ثبوتُ النفعِ المفهومةِ من تلك الجملةِ) مطابقةً للنسبةِ الخارجيّةِ – أي موافقةً لما في الخارجِ والواقعِ «فصدْقٌ» وإلا «فكذِبٌ» ، نحو «الجهلُ نافعٌ» فنسبتهُ الكلاميةُ ليستْ مطابقةً وموافقةً للنسبةِ الخارجيةِ
    *-المقاصد والأغراض التي من أجلها يُلقى الخبر
    الأصلُ في الخبر أن يلقَى لأحدِ غرضينِ :
    (أ)- إمَّا إفادةُ المخاطبِ الحكمَ الذي تضمنتْهُ الجملةُ، إذا كان جاهلاً له، ويسمَّى هذا النوع ُ« فائدةُ الخبرِ» نحو قولِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم « الدِّينُ النَّصِيحَةُ » .
    (ب)- وإمَّا إفادةُ المخاطبِ أنَّ المتكلمَ عالمٌ أيضاً بأنهُ يعلمُ الخبرَ، كما تقولُ لتلميذٍ أخفَى عليكَ نجاحُه في الامتحانِ – وعلمتَه من طريقٍ آخرَ: أنتَ نجحتَ في الامتحانِ، ويسمَّى هذا النوعُ « لازمَ الفائدةِ» ، لأنه يلزم ُ في كلِّ خبرٍ أن يكونَ المخبَرُ به عنده علمٌ أو ظَن بهِ.
    وقد يخرجُ الخبرُ عن الغرضينِ السابقينِ إلى أغراضٍ أخرى تُستفادُ بالقرائنَ، ومنْ سياقِ الكلامِ.
    أهمها:
    (1) - الاسترحامُ والاستعطافُ، نحو: إني فقيرٌ إلى عفوِ ربِّي .
    (2)- تحريكُ الهمةِ إلى ما يلزمُ تحصيلُه، نحو قول الشاعر :
    سَلي إنْ جهلتِ النَّاسَ عنَّا وعنكمُ ... وليسَ سواءٌ عالمٌ وجهُولُ
    (3) -إظهارُ الضعفِ والخشوعِ، نحو قولهِ تعالى على لسان النبي زكريا عليه السلامُ : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم/4]).
    (4) -إظهارُ التحُّسرِ على شيءٍ محبوبٍ نحو قوله تعالى على لسان أمِّ مريمَ عليها السلامُ : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى [آل عمران/36]).
    (5) -إظهارُ الفرحِ بمقبلٍ ، والشماتةِ بمدبرٍ، نحو قوله تعالى : (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) [الإسراء/81]).
    (6) -التوبيخُ كقولكِ: للعاثرِ: (الشمسُ طالعةٌ) .
    (7)- التَّذكيرُ بما بين المراتبِ من التَّفاوتِ – نحو قوله تعالى :{ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)} [الحشر/20، 21]، ونحو قولنا : (لا يستوي كسلانٌ ونشيطٌ).
    (Cool- التحذيرُ – نحو قولهِ صلى الله عليه وسلَّم : « أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلَى اللَّهِ الطَّلاَقُ » .
    (9) الفخرُ نحو قولِ النبي صلى الله عليه وسلم : « أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
    (10) المدحُ كقول النابغةِ في المديحِ :
    فإِنَّكَ شَمْسٌ والمُلُوكُ كَواكِبٌ ... إِذا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهنَّ كَوْكَبُ
    وقد يجيءُ لأغراضٍ أخرى – والمرجعُ في معرفة ذلك إلى الذوقِ والعقلِ السليمِ.



    المبحثُ الثالثُ -أضربُ الخبرِ


    حيثُ كان الغرضُ من الكلام الإفصاحَ والإظهارَ، يجبُ أن يكونَ المتكلمُ مع المخاطَبِ كالطبيبِ مع المريضِ، يشخِّصُ حالتَهُ، ويعطيهِ ما يناسبُها.
    فحقُّ الكلامِ:، أن يكونَ بقدرِ الحاجةِ، لا زائداً عنها، لِئلا يكونَ عبثاً، ولا ناقصاً عنها، لئلا يُخِلَّ بالغرضِ، وهو: الإفصاحُ والبيانُ.
    لهذا – تختلفُ صورُ الخبرِ في أساليب اللغةِ باختلافِ أحوالِ المخاطبِ الذي يعتريهِ ثلاثةُ أحوالٍ:
    أولا – أنْ يكونَ المخاطبُ خاليَ الذهنِ من الخبرِ، غيرَ مترددٍ فيه.ولا منكرٍ له – وفي هذه الحالِ لا يؤكدُ له الكلامُ، لعدم الحاجةِ إلى التوكيد نحو قوله تعالى : « الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» [الكهف/46].
    ويسمَّى هذا الضربُ من الخبرِ (ابتدائياً) ، ويستعملُ هذا الضربُ حين يكون المخاطبُ خاليَ الذهنِ من مدلولِ الخبرِ ، فيتمكنُ فيه لمصادفتهِ إياهُ خالياً .
    ثانياً – أنْ يكونَ المخاطبُ متردداً في الخبرِ، طالباً الوصولَ لمعرفتهِ، والوقوفَ على حقيقته، فيستحسنُ تأكيدُ الكلامِ المُلقَى إليه تقويةً للحُكم، ليتمكَّنَ من نفسهِ، ويطرحَ الخلافَ وراء ظهرهِ، نحو : إنَّ الأميرَ منتصرٌ.
    ويسمَّى هذا الضربُ من الخبرِ (طلبياً) ويؤتَى بالخبرِ من هذا الضربِ حين يكونُ المخاطبُ شاكَّا في مدلولِ الخبرِ، طالباً التثبُّتَ من صدقهِ.
    ثالثاً – أنْ يكونَ المخاطَبُ منكراً للخبرِ الذي يرادُ إلقاؤهُ إليه، معتقداً خلافَهُ، فيجبُ تأكيدُ الكلامِ له بمؤكدٍ أو مؤكدينِ أو أكثرَ، على حسبِ حالهِ من الإنكارِ، قوةً وضعفاً ، نحو: إنَّ أخاك قادمٌ – أو إنهُ لقادمٌ – أو واللهِ إنه لقادمٌ، أو لعمري إنَّ الحقَ يعلو ولا يُعلَى عليهِ.وكقوله تعالى :{ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى }[البقرة/120]،وكقوله تعالى عن النبي يعقوب عليه السلام : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ }[يوسف/68]
    ويسمَّى هذا الضربُ من الخبر (إنكارياً)، ويؤتَى بالخبرِ من هذا الضربِ حين يكونُ المخاطَبُ مُنكراً، واعلمْ أنهُ كما يكونُ التأكيد في الإثباتِ، يكون في النفي أيضاً، نحو: ما المقتصدُ بمفتقرٍ، ونحو: واللهِ ما المُستشيرُ بنادمٍ.
    *- لتوكيدِ الخبر أدوات كثيرة، أشهرُها إنَّ، وأنَّ، ولام الابتداءِ، وأحرفَ التنبيه، والقسمِ، ونونا التوكيد، والحروف َالزائدة (كتفعل واستفعل) والتكرارَ، وقدْ، وأمَّا الشرطيةُ، وإنما واسميةُ الجملةِ، وضميرَ الفصل، وتقديمَ الفاعل المعنويِّ.
    *-خروجُ الخبر عن مقتضَى الظاهرِ :
    قدْ تقتضي الأحوالُ العدولَ عن مقتضَى الظاهرِ، ويورَدُ الكلامُ على خلافهِ لاعتباراتٍ يلحظُها المتكلِّمُ ومنها :
    (1)- تنزيلُ خالي الذهنِ منزلةَ السائلِ المترددِ، إذا تقدمَ في الكلام ما يشيرُ إلى حكمِ الخبر ،كقوله تعالى على لسان النبي يوسف عليه السلامُ : (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف/53]) فمدخولُ إنَّ مؤكدُ لمضمونِ ما تقدَّمه، لإشعارهِ بالترددِ، فيما تضمنَهُ مدخولُها– وكقوله تعالى مخاطبا النبي نوح عليه السلامُ: « وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) » [هود/37]، لما أمرَ المولى « نوحاًعليه السلامُ » أوّلاً بصنعِ الفلك، ونهاهُ ثانياً عن مخاطبتهِ بالشفاعةِ فيهم، صارَ مع كونهِ غير َ سائلِ في مقام السائلِ المترددِ،هل حكَمَ اللهُ عليهم بالإغراقِ فأجيبَ بقوله تعالى : « إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ » .
    (2) - تنزيلُ غيرِ المنُكِر منزلةَ المنكِر: إذا ظهرَ عليه شيءٌ من أماراتِ الإنكارِ، كقول حَجَل بن نضلَة القيسيِّ « من أولادِ عَمِّ شقيقٍ» :
    جاءَ شقيقٌ عارضاً رُمْحَهُ ... إنّ بَني عمِّكَ فيهم رِماحْ
    (فشقيقٌ) رَجلٌ لا يُنكرُ رماحَ بني عمّه، ولكنَّ مجيئهُ على صورةِ المعجَبِ بشجاعتهِ، واضعاً رُمحَه على فخذيهِ بالعرضِ- وهو راكبٌ- أو حَاملاً له عرضاً على كتفهِ في جهةِ العدُوِّ بدون اكتراثهِ به، بمنزلةِ إنكارهِ أنَّ لبني عمّهِ رماحاً، ولنْ يجدَ منهم مُقاوماً له ،كأنهم كلَّهم في نظرهِ عُزَّلٌ، ليسَ مع أحد منهم رمحٌ.
    فأكَد له الكلامَ استهزاءً به، وخُوطبَ خطابَ التفاتٍ بعد غيبةٍ تهكُّماً به، ورمياً لهُ بالنزَّقِ وخرقِ الرَّأي.
    (3)- تنزيلُ المنكِرِ منزلةُ الخالي، إذا كانَ لديه دلائلُ وشواهدُ لو تأمَّلها لارتدعَ وزال إنكارُه، كقوله تعالى : (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) [البقرة/163])، وكقولكَ لمن ينكرُ منفعةَ الطبِّ (الطبُّ نافعٌ).
    (4)- تنزيلُ المترددِ منزلةُ الخالي، كقولكَ للمترددِ في قدومِ مسافرٍ معَ شهرته:قدِمَ الأميرُ.
    (5)- تنزيلُ المترددِ منزلةَ المنكرِ، كقولكَ للسائلِ المستبعِدِ لحصولِ الفرجِ: إنَّ الفرجَ لقريبٌ. ونحو قوله الله تعالى : {.. أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (214) سورة البقرة


    .
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:06



    المبحثُ الرابعُ
    في تقسيمِ الخبر إلى جملةٍ فعليةٍ وجملةٍ اسميةٍ

    (
    أ)- الجملةُ الفعليةُ:هي ما تركبتْ من فعلٍ وفاعلٍ، أو من فعلٍ ونائبَ فاعلٍ:
    وهي موضوعةٌ لإفادةِ التّجددِ والحدوثِ في زمنٍ معينٍّ مع الاختصار ِ، نحو: يعيشُ البخيلُ عيشةَ الفقراءِ، ويحاسب ُفي الآخرةِ حسابَ الأغنياءِ. ونحو أشرقتِ الشمسُ وقدْ ولَّى الظلامُ هارباً .
    فلا يستفادُ من ذلكَ إلاّ ثبوتُ الإشراقِ للشمسِ، وذهابُ الظّلامِ في الزّمانِ الماضي.
    (ب) -الجملةُ الاسميةُ: هي ما تركبتْ من مبتدأٍ وخبرٍ، وهيَ تفيدُ بأصلِ وضعها ثبوتَ شيءٍ لشيءٍ ليسَ إلَّا – بدونِ نظرٍ إلى تجدّدٍ ولا استمرارٍ – نحو: الأرضُ متحركةٌ – فلا يستفادُ منها سوى ثبوتِ الحركةِ للأرضِ.



    المبحثُ الخامس
    في حقيقةِ الإنشاءِ وتقسيمِه


    *- الإنشاءُ لغةً: الإيجادُ.
    وفي الاصطلاحِ: ما لا يحتملُ صدقاً ولا كذباً، كالأمرِ والنهيِ والاستفهامِ والتمنِّي والنداءِ وغيرها، فإنكَ إذا قلتَ: (اللّهُمَّ ارحمْني) لا يصحُّ أن يقالَ لك: صادقٌ أو كاذبٌ، نعمْ يصحُّ ذلك بالنسبةِ إلى الخبرِ الضمنيِّ المستفادِ من الكلامِ، وهو أنكَ طالبٌ للمغفرةِ.
    تعريف آخر للإنشاء: هو مالا يحصلُ مضمونهُ ولا يتحققُ إلا إذا تلفظتَ بهِ.
    فطلبُ الفعلِ في: افعَلْ، وطلبُ الكفِّ في لاَ تَفْعَلْ، وطلبُ المحبوبِ في: الَّتمَنِّي، وطلبُ الفهم في: الاستفهامِ، وطلبُ الإقبالِ في النِّداء،كلُّ ذلك ما حصلَ إلا بنفسِ الصّيغِ المتلَفظِ بها.
    أقسامُ الإنشاءِ
    الإنشاءُ ينقسمُ إلى (طلبيٍّ) و(غيرِ طلبيٍّ).
    *- الإنشاءُ غيرُ الطلبيِّ:
    ما لا يستدعي مطلوباً غيرَ حاصلٍ وقتَ الطلبِ، وهو على أقسامٍ:
    1- المدحُ والذمُّ:
    ويكونان بـ ( نعْمَ) و(حبَّذا) و(ساءَ) و( بئسَ) و( لا حبَّذا)، نحو قوله تعالى عن النبي أيوب عليه السلامُ : {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (30) سورة ص، ونحو: ( نعمَ الرجلُ زيدٌ) و ونحو قوله تعالى :{... وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} (151) سورة آل عمران ، ونحو :( بئستِ المرأة ُأمُّ جميلٍ). ونحو قوله صلى الله عليه وسلم- « إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ وَسَتَصِيرُ حَسْرَةً وَنَدَامَةً ، نِعْمَتِ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ » .
    2 - ألفاظُ العقودِ:
    سواءٌ كانتْ بلفظِ الماضي، نحو: (بعتُ) و(وهبتُ) أم بغيره، نحو: (امرأتي طالقٌّ) و(عبدي حرٌّ).
    3 – القَسَمُ:
    سواءٌ كان بالواو أو بغيرِها، نحو: (واللهِ) و(لعمرُك). ونحو قوله تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء ، وكقوله تعالى : {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (72) سورة الحجر.
    4 - التعجّبُ، ويأتي قياساً بصيغةِ (ما أفعلَه) و(أفعلْ بهِ) كقوله تعالى : {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ..} (38) سورة مريم ،و نحو: (ما أحسنَ الرجلَ) و( أكرمْ بالصِّدِّيقِ)
    وكقول الصِّمَّة بنُ عَبْدِ الله :
    بنفسي تلْكَ الأرض ما أَطْيَب الرُّبَا! … ومَا أَحْسَنَ اَلْمُصْطَافَ والمتَرَبَّعَا
    وسماعاً بغيرهِما، نحو قوله تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ) [البقرة/28]
    5 - الرجاءُ:
    ويأتي بـ (عسَى) و(حرَى) و(اخلولقَ) نحو قولهِ تعالى : ( فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ )[المائدة/52]


    *-الإنشاءُ الطلبيُّ:
    هو الذي يستدعِي مطلوباً غيرَ حاصلٍ وقتَ الطلبَ -حسبَ اعتقادِ المتكلِّمِ - وهو المبحوثُ عنه في علمِ المعاني، لما فيه منَ اللطائفَ البلاغيّةِ، وأنواعُه خمسةٌ الأمرُ، والنهيُ، والاستفهامُ، والتمنيِّ، والنداءُ .


    الفصلُ الأولُ - في الأمرِ

    *- تعريفُه: هو طلبُ حصولِ الفعل من المخاطَبِ على سبيلِ الاستعلاءِ، وهو إمَّا:
    1 - بفعلِ الأمرِ نحو قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) [الإسراء/78]
    2 - أو بالمضارعِ المجزومِ بلام الأمر نحو: قوله تعالى (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ) [البقرة/282]، ومثله الجملةُ نحو قولنا لمنْ ترك ركناً أو شرطاً من شروط صحةِ الصلاةِ: (يعيدُ الصلاةَ).
    3 - أو باسمِ فعلِ الأمر ِنحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)[المائدة/105].
    4 - أو بالمصدرِ النائبِ عن فعلِ الأمرِ: نحو قوله تعالى : {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ ..} (4) سورة محمد، ونحو قولنا: (ذهاباً إلى بيتِ اللهِ).
    وقد تخرجُ صيغةُ الأمرِ عن معناها الأصليِّ ـ المتقدمِ ـ فيرادُ منها أحدُ المعاني الآتيةِ بالقرينةِ، لكنَّ الظاهر أنها مستعملةٌ في معناها الحقيقيِّ، وإنما تختلفُ الدواعي :
    1 - الدُّعاءُ، نحو قوله تعالى : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ )[النمل/19] .
    2- الالتماسُ، نحو: (اذهبْ إلى الدار) تقوله لمنْ يساويكَ.
    3 - الإرشادُ، نحو قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) [البقرة/282] ، ونحو قوله صلى الله عليه وسلم- « إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا ». قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ قَالَ « الْمَسَاجِدُ ». قُلْتُ وَمَا الرَّتْعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ »( أخرجه الترمذي ) .
    4 ـ التهديدُ، نحو قوله تعالى: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) [فصلت/40، 41].
    5 ـ التعجيزُ، نحو قوله تعالى: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ )[البقرة/23] .
    6 ـ الإباحةُ، نحو قوله تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) [البقرة/187].
    7 ـ التسويةُ، نحو قوله تعالى : ( فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا )[الطور/16]
    8 ـ الإكرامُ، نحو قوله تعالى : (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ) [الحجر/46]، وقوله تعالى : {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (34) سورة ق .
    9 - الامتنانُ، نحو قوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ) [النحل/114]
    10 - الإهانةُ والتحقيرُ ، نحو قوله تعالى : ( قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ) [الإسراء/50]، أو نحو قول جرير يهجو الشاعرَ النميريَّ :
    فَغضَ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلا كَعْباً بَلَغْتَ وَلا كِلابَا
    11 ـ الدوامُ، نحو قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) [الفاتحة/6].
    12 ـ التمنِّي، كقول امرئ القيس :
    ألا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انْجَلِي بِصُبْحِ وَمَا الإصباحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
    13 ـ الاعتبارُ، نحو قوله تعالى : (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ) [الأنعام/99]، ونحو قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،:«إِذَا مَرَرْتُمْ عَلَى أَرْضٍ قَدْ أُهْلِكَ أَهْلُهَا فَاعْدُوا السَّيْرَ».( أخرجه الطبراني)
    14 ـ الإذنُ، نحو قولك: (ادخلْ) لمن طرقَ الباب. ونحو قوله تعالى لأهل الجنة : {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ} (46) سورة الحجر . وقوله تعالى : {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (34) سورة ق .
    15 ـ التكوينُ، نحو قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (82) سورة يــس – التكوينُ: الخلقُ .
    16 ـ التخييرُ، نحو قوله تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً )[النساء/3]، وقوله تعالى : {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (33) سورة المائدة .
    17 ـ التأديبُ، نحو قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة :« يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ »(أخرجه الشيخان) .
    18 ـ التعجّبُ، نحو قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) [الإسراء/48]


    .


    عدل سابقا من قبل ضي القمر في 21.12.10 17:35 عدل 1 مرات
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:08

    الفصلُ الثاني - في النَّهي

    *- تعريفُه: هو طلبُ المتكلِّمِ من المخاطبِ الكفَّ عن الفعلِ، على سبيلِ الاستعلاءِ.
    أدواتُه وهي إمَّا:
    1 - بصيغةِ المضارعِ المدخولِ عليها بلا الناهيةِ، كقوله تعالى: ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) [البقرة/188] .
    2 -أو بالجملةِ الدالةِ على ذلك، كقولكَ: (حرامٌ أن تفعلَ كذا)أو بلفظ نهَى .نحو قول عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ - رضى اللهُ عنه -: إِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِى يَمِينِهِ وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِى شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ « إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِى » (أخرجه أبو داود) . ونحو قول أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلاَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ . (أخرجه البخاري) .
    وقد يردُ بلفظ اللعنِ نحو قوله صلى الله عليه وسلم : « لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ » يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا" (أخرجه البخاري) .
    وقد يُستفادُ من النهيِ معانٍ أخرَ مجازاً بالقرينة، على ما يلي:
    1 - الدعاءُ ،كقوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) [البقرة/286]
    2 - الالتماسُ، كقولك لأخيكَ: (لا تفعلْ خلافَ رضايَ).
    3 - الإرشادُ ،كقوله تعالى: ( لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) المائدة: 101.
    4 - الدوامُ، كقوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) [إبراهيم/42].
    5 - بيانُ العاقبةِ، كقوله تعالى: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169) سورة آل عمران .
    6 - التيئيسُ، كقوله تعالى عن المنافقين: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )[التوبة/66]
    7 - التمنّي، كقول الشاعرِ :
    طلعنا ندلّي الضحى ذاتَ يومٍ ونهتفُ : يا شمسُ لا تغربي
    8 - التهديدُ، كقولك لولدك مهدداً: (لا تذهبْ إلى مجالسِ البطالينَ).
    9 - الكراهةُ، نحو (لا تشْتمَّ الريحان َفي يومِ الصومِ).
    10 - التوبيخُ، كقول أبي الأسود الدؤلي :
    لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
    11 - الإيناسُ، كقوله تعالى: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا 000} (40) سورة التوبة
    12 - التحقيرُ، كقول الحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر :
    دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها واقْعُدْ فإنَّك أنتَ الطَّاعِمُ الكاسي
    13- الاعتبارُ – نحو قوله صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ :« لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ، أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ » . ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ ، وَهْوَ عَلَى الرَّحْلِ » (أخرجه البخاري)

    .
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:12

    الفصلُ الثالث - في الاستفهامِ

    *- تعريفُه: هو طلبُ الفهم، فيما يكونُ المستفهَمُ عنه مجهولاً لدى المتكلّم، وقد يكونُ لغيرِ ذلك كما سيأتي، ويقعُ الاستفهام بهذهِ الأدواتِ:
    1 - الهمزةُ ،كقوله تعالى: ( قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ )[مريم/46]
    2 ـ هلْ، كقوله تعالى: ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )[المائدة/91]
    3 ـ ما، كقوله تعالى: (أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [النمل/84]
    4 ـ مَنْ، كقوله تعالى: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا )[الأنبياء/59]
    5 ـ أيّانَ، كقوله تعالى: (يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ )[الذاريات/12]
    6 ـ أينَ، كقوله تعالى: (أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) [الأنعام/22]
    7 ـ كيفَ، كقوله تعالى: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [البقرة/28]
    8 ـ أنَّى، كقوله تعالى : {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ..} (259) سورة البقرة .
    9 ـ كمْ، كقوله تعالى: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) [المؤمنون/112]
    10 ـ أيُّ، كقوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (73) سورة مريم


    المطلبُ الأول - أقسامُ أدواتِ الاستفهامِ

    تنقسمُ أدواتُ الاستفهام إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
    1- ما يطلَبُ به التصوّرُ.
    2 - ما يطلبُ به التَّصديقُ.
    3 -ما يطلبُ به التصوّرُ مرةً، والتصديقُ أخرَى.
    والتصوّرُ، هو إدراكُ المفردِ، بمعنى أنْ لا يكونَ هناك نسبةٌ، فـ (زيدٌ) و(عمروٌ) و(القرآنُ) و(اللهُ).. ونحوها كلُّها مفردٌ، فهي تصوراتٌ.
    والتصديقُ: هو إدراكُ النسبةِ، أي نسبةُ الفعل إلى فاعلهِ أو المبتدأُ إلى خبرهِ، فـ (زيدٌ قائمٌ) و(اللهُ عالمٌ) و(محمدٌ- صلى الله عليه وسلم- نبيٌّ).. ونحوها كلُّها نسبةٌ، فهي تصديقاتٌ.
    وجملةُ القول: إنَّ العلم َإنْ كانَ إذعاناً للنسبةِ فتصديقٌ، وإلا فتصوُّرٌ.
    والتصديقُ كما يكونُ في الإثباتِ، نحوَ (محمدٌ رسولُ الله ) كذلكَ يكونُ في النفيِ، نحو (أبو جهلٍ فاسقٌ).


    المطلبُ الثاني -همزةُ الاستفهامِ

    منْ أدواتِ الاستفهام الهمزةُ، وهي مشتركةٌ، فتأتي تارةً لطلبِ التصورِ، وأخرى لطلبِ التصديقِ.
    1- أمَّا ما كانَ لطلبِ التصوّرِ، فيلي الهمزةَ المسئولُ عنهُ، والسؤالُ حينئذٍ عن المفرد لا النسبةِ، بمعنى: أنَّ السائلَ يعلمُ بالنسبةِ، وإنما لا يعلمُ شيئاً من أطرافِها.
    مثلاً يعلمُ أنهُ وقعَ فعلٌ ما، لكنهُ لا يعرفُ المسنَد، أو المسنَد إليه، أو المفعولَ، أو الحالَ، أو الظرفَ، أو الصفةَ.. أو نحوها.
    ففي نحو: (ضربَ زيدٌ عمراً، راكباً، في الصحراءِ) يقعُ المجهولُ بعد همزة الاستفهامِ.
    فتقولُ في الجهلِ بالفعلِ: (أضربَهُ أمْ قتلَهُ)؟
    وتقولُ في الجهلِ بالفاعلِ: (أزيدٌ الضاربُ أمْ بكرٌ)؟
    وتقولُ في الجهلِ بالمفعول: (أعمراً المضروبَ أمْ محمداً) ؟
    وتقولُ في الجهلِ بالصفة: (أعمراً القائدُ أمِ التاجرُ)؟
    وتقولُ في الجهل بالحالِ: (أراكباً كانَ زيدٌ أمْ راجلاً)؟
    وتقول ُفي الجهلِ بالظرفِ: (أفي الصحراءِ أمْ في البلدِ)؟
    وهكذا..
    وقد علِم من هذه الأمثلة: أنَّ النسبةَ معلومةٌ، وإنما المجهولُ مفردٌ من المفرداتِ.
    2 ـ وأمَّا ما كانَ لطلبِ التصديقِ، فالهمزةُ تدخلُ على الجملةِ، والسؤالُ يقع عن النسبةِ، كقولكَ: (أجاءَ زيدٌ؟) فيما لم تعلمْ بالمجيء.
    ثمّ إنَّ الغالبَ أن يؤتَى للهمزةِ التي لطلبِ التصور بمعادلٍ، كما عرفتَ في الأمثلة: من معادلةِ (أمْ) للهمزة.
    بخلافِ طلب التصديقِ فلا يؤتَى للهمزة بمعادلِ، كما تقدَّم في المثال.
    ثمَّ إنَّ جوابَ الهمزة التي لطلبِ التصور: تعيينُ أحدِ الشِّقين:
    فتقولُ في السؤال الأول: (ضربَهُ).
    وتقولُ في السؤال الثاني: (زيدٌ).
    وتقولُ في السؤال الثالث: (عمراً).
    وهكذا...
    بخلاف الهمزةِ التي لطلبِ التصديق، فالجوابُ: (نعمْ) أو (لا).


    المطلبُ الثالث- هل الاستفهامية

    من أدواتِ الاستفهامِ هلْ، وهي مختصةٌ بطلبِ التصديقِ، فيرادُ بها معرفةُ وقوع النسبةِ وعدم وقوعها، ولذا لا يذكرُ معها معادلٌ، كما يكون ُجوابها: (نعمْ) أو (لا).
    تقولُ: (هلْ قامَ زيدٌ)؟ والجواب: (نعم) أو: (لا).
    وتنقسمُ هلْ إلى:
    1- بسيطةِ، وهي أن يكون المستَفهََمُ عنه بها وجودَ الشيء وعدمَه، كما تقولُ: (هل العنقاء موجودة)؟ الجواب : لا ، ونحو: هلِ الخلُّ الوفيُّ موجودٌ؟
    2- مركبةٌ، وهي أن يكون المستفهَمُ عنه بها صفةَ زائدةَ على الوجودِ، كما تقول: (هلِ الخفاشُ يبصرُ)؟ ونحو هلِ النَّباتُ حسَّاسٌ؟
    المطلبُ الرابع- بقيةُ أدواتِ الاستفهام
    1- (مَنْ): موضوعةٌ للاستفهامِ عن العقلاء، كقوله تعالى:(مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا ) [الأنبياء/59]
    وقد ينعكسُ، فتستعملُ (ما) للعاقلِ، و(مَن) لغيرهِ.
    2- (ما ) تكونُ للاستفهام عن غير العقلاءِ وهي أقسام ٌ:
    الأول: إيضاحُ الاسمِ، نحو ما الْعَسْجَدُ؟ فيقال في الجواب: إنه ذهبٌ.
    الثاني: بيانُ حقيقةِ الشيء، مثلاً يقال: (ما الأسدُ)؟ فيقالُ في الجواب: (حيوانٌ مفترسٌ). و نحو: ما الشمسُ؟ فيجابُ بأنها كوكبٌ نهاريٌّ.
    الثالث: بيانُ صفةِ الشيءِ، مثلاً يقالُ: (ما الحيوانُ)؟ فيقال في الجواب: (حساسٌ متحركٌ بالإرادةِ). أونحو: ما خليلٌ؟ ـ وجوابهُ طويلٌ أو قصيرٌ: مثلاً.
    3 - (متَى): موضوعةٌ للاستفهامِ عن الزمانِ، مستقبلاً كان أم ماضياً،نحو قوله تعالى : {..مَتَى نَصْرُ اللّهِ ..} (214) سورة البقرة ، وقوله تعالى : {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } (48) سورة يونس,و نحو: (متى توفيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟)
    4 - (أيّانَ): موضوعةٌ للاستفهامِ عن زمان المستقبلِ فقط، قال تعالى: ( يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ )[القيامة/6] . وقال تعالى : {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (21) سورة النحل .
    5 -(كيفَ): موضـــوعــــةٌ للاستفـــهامِ عن الحالِ، قــــال تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) [النساء/41]. وقال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (25) سورة آل عمران .
    6 -(أينَ): موضوعةٌ للاستفهام عن المكانِ، قال تعالى: (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ )[الأنعام/22] ، وقال تعالى : {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} (10) سورة القيامة .
    7- (أتّى): موضوعةٌ للاستفهامِ، وتأتي بمعنَى:
    أ - كيفَ، كقوله تعالى: ( أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) [البقرة/259]
    ب - وبمعنى من أينَ، كقوله تعالى: ( يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا ) [آل عمران/37]
    ج- وبمعنى متَى، تقول: (زرْهُ أنَّى شئتَ؟).
    8- (كم): موضوعةٌ للاستفهام عن عددٍ مبهمٍ، كقوله تعالى: ( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) [المؤمنون/112]
    9- (أيُّ) موضوعةٌ للاستفهام عن تمييزِ أحد المتشارِكينِ في أمرٍ يعمُّهما: شخصاً، أو زماناً أو مكاناً، أو حالاً، أو عدداً، عاقلاً أو غيره، قال تعالى: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) [مريم/73]


    المطلبُ الخامس- خروجُ أدواتِ الاستفهامِ عن معانيها الحقيقيةِ

    قد تخرجُ ألفاظُ الاستفهامِ عن معناها الأصليِّ: وهو طلبُ الفهمِ من الجهلِ، فيستفهَمُ بها عن الشيءِ مع العلمِ به لأغراضٍ أخرى، وأهمُّها أمورٌ:
    1 - الأمرُ، كقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة/91] أي انتهوا.
    2 - النهيُ، كقوله تعالى: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [التوبة/13].. أي لا تخشوهم.
    3 - التسويةُ، كقوله تعالى: (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [يس/10]
    4 - النفيُ، كقوله تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) [الرحمن/60]
    5 - الإنكارُ، كقوله تعالى:( أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ )[الأنعام/40]
    6 - التشويقُ، كقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف/10، 11]
    7 - الاستئناسُ، كقوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ) [طه/17].
    8 - التقريرُ، كقوله تعالى:( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) [الشرح/1]
    9 - التهويلُ، كقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ )[الحاقة/3]
    10 - الاستبعادُ، كقوله تعالى: (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ) [الدخان/13]
    11 – التعظيمُ، كقوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) [البقرة/255]
    12 - التحقيرُ، كقوله تعالى: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ ) [الأنبياء/36]
    13 ـ التعجّبُ، كقوله تعالى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ )[الفرقان/7]
    14 ـ التهكّمُ، كقوله تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ )[هود/87]
    15 - الوعيدُ، كقوله تعالى:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ) [الفجر/6]
    16 - الاستبطاءُ، كقوله تعالى:( مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) [البقرة/214]
    17 - التنبيهُ على الخطأ، كقوله تعالى:( أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ) [البقرة/61]
    18 - التنبيهُ على ضلال الطريق، كقوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ) [التكوير/25، 26]،
    19- التنبيهُ على الباطلِ، كقوله تعالى: (أفأنْتَ تسمع الصُّمَّ أوْ تَهْدِي العُمْي)[الزخرف: 140].
    20 - التحسّرُ، كقوله تعالى: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) [غافر/41]
    20 - التكثيرُ، كقول أبي العَلاَء المعرِّي :
    صاحِ هذي قُبورُنا تملأُ الرُّحبَ فأين القُبورُ من عهَدِ عادِ ؟


    .


    عدل سابقا من قبل ضي القمر في 21.12.10 17:36 عدل 1 مرات
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:13

    الفصلُ الرابعُ - في النداءِ

    *- تعريفُه: هو طلبُ توجّهِ المخاطَبِ إلى المتكلّمِ بحرفٍ يفيد معنَى: (أنادي).
    وحروفُ النداءِ: الْهَمْزَةُ، و"أي"، و"يَا"، و"آ"، و"آي" و"أَيا"، و"هيَا"، و"وا".
    1 -الهمزةُ: كقوله: (أسيدُ القومِ إنّي لست متّكلاً...).
    2- يا: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) [الأحزاب/1]
    3 - أيُّ: قال الشاعر :
    أَيُّها السائِلُ عنْهُم وعَنِّي .... لَسْتُ من قَيْسٍ ولا قَيْسُ مِنِّي
    4-أيْ: كقوله: (أيْ ربِّ قوِّ المسلمينَ...). ونحو : أيْ زيدُ أقبلْ
    5- أيا: كقوله: (أيا مَنْ لستُ أنساهُ...). ونحو قولنا : أيَا زَيْدُ أقْبِلْ
    6 -هيا: كقول الشاعر :
    فأصاخَ يرجُو أن يكون حَياً ... ويقول من طَمَع: هَيَا رَبَّا
    7 -وا: كقولِ الشاعرِ :
    فوا عجباً كم يدعي الفضل ناقصٌ؟ ... ووا أسفاً كم يظهر ُالنقصَ فاضلُ؟
    ثم إنهم اختلفوا في هذه الحروف، والمرجحُّ: أنَّ (الهمزة) و(أيُّ) لنداءِ القريب، والباقي لنداءِ البعيد.
    وقد يُنزلُ البعيدُ منزلةَ القريب – فينادَى بالهمزةِ وأيِّ، إشارةً إلى أنه لشدةِ استحضارهِ في ذهن المتكلّمِ صارَ كالحاضرِ معه، لا يغيبُ عن القلبِ، وكأنهُ ماثلٌ أمامَ العين – قال الشاعرُ :
    أَسُكَّانَ نَعْمَانِ الأَرَاكِ تَيَقَّنُوا بأنَّكمْ في ربعِ قلبيَ سكَّانُ
    وقد يُنزَّلُ القريبُ منزلةَ البعيدِ – فينادَى بغيرِ «الهمزةِ، وأي» لأمور منها:
    «أ»- إشارةً إلى عُلُوّ مرتبتهِ، فيجعلُ بعدُ المنزلة ِكأنه بُعدِ في المكانِ كقوله: « أيا مولايَ» وأنتَ معه للدلالةِ على أنَّ المنادَى عظيمُ القدر، رفيعُ الشأن.
    «ب»- أو إشارةً إلى انحطاطِ منزلتهِ ودرجتهِ – كقولك :« أ يا هذا» لمنْ هو معكَ.
    «جـ»- أو إشارةً إلى أنّ السامعَ لغفلتهِ وشُرود ذهنهِ كأنّهُ غيرُ حاضرٍ كقولك للساهي: « أيا فلانُ »، وكقولِ البارودي :
    يا أيُّها السَّادرُ المزْوَرُّ منْ صَلفٍ مَهْلاً، فإنك بالأيام مُنْخَدعُ
    ------------
    وقد تخرجُ ألفاظُ الندَاء عن معناها الأصليِّ إلى معانٍ أخرى، تُفهَمُ من السِّياق بمعونةِ القرائنِ، ومن أهمِّ ذلكَ:
    (1)- الإغراءُ – نحو قولكَ لمن أقبل يتظَّلمُ: يا مظلومُ.
    (2)- الاستغاثةُ – نحو: ياللهِ للمُؤْمنينَ.
    (3)- الندبةُ – نحو قول الشاعر :
    فواعجباً كم يدَّعي الفضلَ ناقصٌ وَوَا أسفاً كم يظهرُ النقصَ فاضلُ
    (4) -التّعجبُ – كقول الشاعر :
    يا لكِ من قُبَّرةٍ بمعمرِ ... خَلا لكِ الجوُّ فبيضي واصْفُري
    (5) -الزجرُ – كقول الشاعر :
    يا قلبُ ويْحكَ ما سمعتَ لنَاصِحٍ …لَمَّا ارْتَميْتَ ولا اتقَيْتَ ملامًا
    (6) -التحسُّر والتَّوجُّع – كقوله تعالى ( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [النبأ/40] وقوله تعالى : {..يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (56) سورة الزمر
    وكقول الشاعرِ :
    أيا قبرَ مَعن كيف واريت جودَهُ وقد كانَ منه البرُّ وَالبحر مُترعاً
    (7) -التَّذكرُ كقول ذي الرِّمة :
    أَمَنْزِلَتَيْ مَيٍّ سلامٌ عليكما هلِ الأَزْمُنُ اللاَّئي مَضَيْنَ رَواجِعُ ؟!
    (8) -التحيرُّ والتضجُّر – نحو قول الشاعر :
    أيا مَنازلَ سلمَى أينَ سلماكِ؟ منْ أجلِ هذا بكيناها بكيناكِ
    ويكثر هذا في نداء الأطلال والمطايا: ونحوها
    (9) -الاختصاصُ– هو ذكرُ اسمٍ ظاهرٍ بعد ضميرٍ لأجلِ بيانهِ، نحو قوله تعالى: « رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود/73] »، ونحو قوله صلى الله عليه وسلم لا:« إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُعَجِّلَ الإِفْطَارَ»
    وهو يأتي :
    «أ»- إمَّا للتَّفاخرِ – نحو: أنا أكرمُ الضيفَ أيها الرجلُ.
    «ب»- وإما للتَّواضُعِ – نحو: أنا الفقيرُ المسكين ُ أيّها الرجلُ ، ونحو: اللهم اغفر لنا أيَّتُها العصابَةَ

    .


    عدل سابقا من قبل ضي القمر في 21.12.10 17:37 عدل 1 مرات
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:16

    المبحث ُالسادسُ - في أحوال المسنَد والمسنَد إليه

    الفصلُ الأول – الذِّكرُ
    *-ذكرُ المسنَدِ إليه :
    الأصلُ ذكرُ المسنَدِ إليه، لتوقُّفِ فهمِ الكلام ِعليه، لكنهُ قدْ يجوزُ حذفُه لوجودِ قرينةٍ تدلُّ عليه، وحينئذ فالراجحُ ذكرهُ لأمورٍ:
    1- زيادةُ التقريرِ والإيضاحِ، كقوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [البقرة/5] فإنَّ ذكرَ (أولئك) لزيادة الإيضاحِ.
    2- التلذّذُ بذكرِ المحبوبِ، كقوله: (حبيبتي هيَ بدرٌ، حبيبتي هيَ شمسٌ...).
    3 - بسطُ الكلامِ حيثُ الإصغاءُ مطلوبٌ، كقوله تعالى: (قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ) [طه/18] .
    *-ذكرُ المسنَدِ :
    1-كونُه الأصليُّ ولا داعيَ للعدولِ عنه، قال تعالى: {.. آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (59) سورة النمل
    2 - إذا ضعفَ الاعتمادُ على القرينةِ ، كقوله: (خير مال المرء ما أنفقه...).
    3 - الردُّ على المخاطَبِ، فيكونُ الذكرُ أحسنَ، قال تعالى حكايةً عن منكرِ البعثِ: (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس/78] ؟!
    فردَّه اللهُ تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [يس/79]
    4- زيادةُ التقريرِ والإيضاحِ مثلُ: نبيلٌ هو الذي فعلَ تلك الفعلةَ القبيحةَ ، هذا الجوابُ ردٌّ على سؤالِ السائل ِمَنْ فعلَ تلكَ الفعلةَ القبيحةَ ؟
    5- ضعفُ تنبهِ السامعِ، نحو: (زيدٌ قائمٌ وعمروٌ قائمٌ).
    6- إفادةُ التجدُّدِ بإتيانِ الفعلِ، كقوله: (يَحمدُ اللهَ كلُّ عبدٍ فقيهٍ...).
    7- إفادةُ الثُّبوتِ والدوامِ بإتيانِ الاسمِ، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (9) سورة الرعد


    الفصلُ الثاني- الحذفُ
    *-حذفُ (المسنَدِ إليه) :
    خلافُ الأصلِ كما عرفتَ، لكنْ إذا كانتْ هناك قرينةٌ، وكان في حذفهِ غرضٌ رجِّحَ حذفُهُ، وأهمُّ الأغراضِ:
    1- الاحترازُ عن العبثِ - بناءً على الظاهرِ -كقولهِ: (زيدٌ أتى ثمَّ ذهبَ) ولم يقلْ (زيدٌ ذهبَ).
    2 - ضيقُ الصَّدرِ عن إطالةِ الكلامِ ، بسببِ ما يُعرض للمتكلِّمِ من ضجرٍ أو حزنٍ ، كقول الشاعر :
    قَالَ لِي كَيْفَ أنْتَ قُلْتُ عَلِيلُ سَهرٌ دَائِمٌ وَحُزْن طَوِيلُ
    ولم يقل: (أنا عليلٌ) تضجّراً منْ علَّتهِ.
    3- اتباعُ الاستعمالِ الواردِ عن العربِ ، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (31) سورة سبأ، أي: لولا أنتمْ موجودونَ. ، وكقولهِم: (رميةٌ منْ غيرِ رامٍ) أي هذهِ رميةٌ.
    ونحو: نِعْم البطلُ خالدٌ: أيْ هو خالدٌ.
    4- ظهورُهُ بدَلالةِ القرائن عليهِ: نحو قوله تعالى : (فَصكتْ وجْهَهَا وَقَالَتْ عجوز عَقِيم) [الذاريات: 29]. أي أنا عجوزٌ.
    5- إخفاءُ الأمرِ عن غيرِ الُمخَاطَبِ: نحو أقبلَ، تُريدُ عليّاً مثلاً.
    6- تَيَسُّر الإنكار ِإن مَسَّتْ إليه الحاجةُ: نحو «لئيمٌ خسيسٌ» بعد ذكر شخصٍ، لا تذكرُ اسمهُ ليتَأتَّى لكَ عند الحاجةِ أن تقولَ ما أردتُهُ ولا قصدتُهُ.
    7- الحَذرُ من فواتِ فرصةٍ سانحةٍ: كقولِ مُنَبِّهِ الصَّياد: «غَزالٌ»، أيْ: هذا غزالٌ.
    8- اختبارُ تَنبُّهِ السامعِ له عندَ القرينةِ، أو مِقدارُ تَنبُّهه: نحو نُورهُ مُسْتفادٌ من نورِ الشمسِ، أو هو واسطةُ عِقدِ الكواكبِ أيْ «القمرُ» في كلٍّ منَ المثالينِ.
    9- المحافظةُ على السَّجَعِ نحو: منْ طابَتْ سريرتُهُ، حُمِدَتْ سيرتُهُ
    10- الُمحافظةُ على قافيةٍ كقول لبيد :
    وما المالُ والأهْلُونَ إلا ودَائعٌ ولاَبُدَّ يوماً أن تُرَدَّ الوَدائعُ
    11- الُمحافظةُ على وزنٍ كقول الشاعرِ :
    على أنّني راضٍ بأنْ أحْمِلَ الهَوى ... وأخْلُصَ منْهُ لا عليّ ولا لِيا
    12- كونُ المسندِ إليه مُعيّناً معلوماً حقيقةً نحو قوله تعالى : (عالمُ الغَيْبِ والشَّهادة)[الأنعام: 73، التوبة: 94] أي اللهُ، أو معلوماً ادَّعاءً ، نحو: وهَّابُ الألوفِ أيْ فلانٌ.
    13- إشعارٌ أنَّ في تركهِ تَطهيراً لهُ عن لسانِك، أو تطهيراً للسانكَ عنهُ، مثالُ الأولِ: (مُقَرِّرٌ للشرائعَ مُوَضحٌ للدّلائلَ) تريدُ صاحبَ الشريعةِ ، ومثالُ الثاني قوله تعالى عن الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (18) سورة البقرة .
    14- تكثيرُ الفائدةِ: نحو قوله تعالى : {.. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (18) سورة يوسف ، أي فأمرِي صَبرٌ جميلٌ.
    15- تَعيُّنهُ بالعهديّةِ: نحو قوله تعالى : (وَاسْتَوتْ على الْجُودِيِّ)(97)[هود: 44] أي السّفينةُ ، ونحو قوله تعالى : {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (32) سورة ص، أي الشمسُ.
    وغير ذلكَ ، ومرجعهُ إلى الذوقِ الأدبيِّ: فهو الذي يُوحِي إليكَ بما في القولِ من بلاغةٍ وحسنِ بيانٍ.


    *-حذفُ المسنَدِ :
    1 - الاحترازُ عن العبثِ، لقرينة مذكورة، قال تعالى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) [التوبة/3] أي رسوله بريءٌ أيضاً.
    2 - ضيقُ المقامِ عن الإطالة، كقول الشاعر ِ :
    نَحنُ بما عندَنا وأنتَ بما ... عندَك راضٍ، والرّأيُ مُختلفُ
    أي: نحنُ بما عندنا راضونَ ، وأنتَ بما عندك راضٍ .
    4 - اتباعُ الاستعمال ِالوارد عن العربِ ، قال تعالى: {.. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (31) سورة سبأ ،أي: لولا أنتم موجودونَ.


    *-تقديمُ المسند إليه ِ :
    مرتبةُ المسندِ إليه التقديمُ ،وذلك لأنَّ مدلولَه هو الذي يخطرُ أولاً في الذهنِ، لأنهُ المحكومُ عليهِ، والمحكومُ عليه سابقٌ للحكمِ طبعاً.فاستحقَّ التقديمَ وضعاً، ولتقديمهِ دواعٍ شتَّى منها :
    1 -تعجيلُ المسَرَّة ِ ،نحو: العفوُ عنكَ صدرَ بهِ الأمرُ.
    2- تعجيلُ المساءَةِ ، نحو: القصَاصُ حكَمَ بهِ القاضي.
    3 -التشْويقُ إلى المتأخرِ إذا كانَ المتقدِّمُ مشعراً بغرابةٍ كقول أبي العلاء المعرِّي :
    والَّذِي حَارَتِ البريةُ فِيه ... حَيَوانٌ مُسْتَحدَثٌ من جَمَادِ
    4- التلذذُ بالمسندِ إليه، نحو: ليلى وصلتْ، وسلمَى هجرَتْ.
    5 - التبركُ بالتقديمِ ،: نحو: اسمُ اللهِ اهتديتُ بهِ. ونحو محمّدٌ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رسولٌ حقُّ
    6 - النصُّ على عمومِ السلبِ (النفي) ، أو النصُّ على سلب ِالعمومِ.
    فعمومُ السلبِ يكونُ بتقديم أداةِ العمومِ ،ككُلٍّ وجميعٍ على أداةِ النفي،نحو: كلُّ ظالم ٍلا يفلِحُ، المعنى: لا يفلحُ أحدٌ من الظلَمةِ.ونحو: كلُّ ذلكَ لم يكنْ: أي لم يقعْ هذا ولا ذاكَ.ونحو: كلُّ تلميذٍ لم يقصِّر في واجبهِ، ويسمَّى شمولَ النَّفي.
    واعلمْ أنَّ عمومَ السَّلبِ يكونُ النفيُ فيه لكلِّ فردٍ،وتوضيحُ ذلكَ أنكَ إذا بدأتَ بلفظةِ كلٍّ، كنتَ قد سلطَّتَ الكليةَ على النفي، وأعملتَْها فيهِ ، وذلك يقضي ألا يشذَّ عنه شيءٌ.
    وسلبُ العمومِ يكونُ بتقديمِ أداةِ النَّفي على أداةِ العمومِ، نحو: لم يكنْ كلّ ُذلكِ، أي لم يقعِ المجموعُ، فيحتملُ ثبوتَ البعضِ، ويحتملُ نفيَ كلِّ فردٍ، لأنَّ النفيَ يوجَّهُ إلى الشُّمولِ خاصةً، دونَ أصلِ الفعلِ،ويسمَّى نفيَ الشُّمولِ.
    واعلمْ أنَّ سلبَ العمومِ يكونُ النفيُ فيه للمجموعِ غالباً، كقول المتنبي :
    ما كلُّ رأيِ الفَتَى يَدْعُو إلى رَشَدٍ ... إذَا بَدَا لكَ رأْيٌ مشكِلٌ فقفِ
    وقد جاءَ لعمومِ النفي قليلاً نحو قوله تعالى: (إنَّ الله لا يُحِبُّ كلَّ مختال فخور) [لقمان: 18 ]،ودليلُ ذلك: الذوقُ والاستعمالُ.
    7 - إفادةُ التخصيصِ قطعاً إذا كانَ المسندُ إليه مسبوقاً بنفي، والمسندُ فعلاً ،نحو: ما أنا قلتُ هذا، أيْ: لم أقلْهُ، وهو مقولٌ لغيري.
    (ولذا لا يصحُّ أن يقالَ: ما أنا قلتُ هذا ولا غيري، لأنَّ مفهومَ ما أنا قلتُ، أنّه مقولٌ للغيرِ، ومنطوقٌ، ولا غيري كونُه غيرَ مقولٍ للغيرِ، فيحصل التناقضُ سلباً وإيجاباً)
    وإذا لم يسبقِ المسندَ إليهِ نفيٌ كان تقديمهُ محتملاً لتخصيصِ الحكمِ به أو تقويتهِ ، إذا كان المسندُ فعلاً ، نحو : أنتَ لا تبخلُ، وهو يهبُ الألوفَ ،فإنَّ فيه الإسنادَ مرتينِ ،إسنادُ الفعلِ إلى ضميرِ المخاطبِ في المثال الأوَّلِ ،وإسنادُ الجملةِ إلى ضمير الغائب في المثالِ الثاني .
    8 - مُراعاةُ الترتيبِ الوُجوديِّ، نحو: (لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ) [البقرة: 255].
    9- ـ كونُ المقدَّمِ محلَّ الإنكارِ، كقول الشاعر :
    أخوفٌ ونومٌ، إنَّ ذا لعجيبُ ... ثكلتك من قلبٍ فأنتَ كذوبُ
    10- التدرّجُ في الحسنِ أو القبحِ أو ما شاكلَهما، كقوله: (أصحيحٌ ومفصِحٌ وبليغٌ)؟ فالصحّةُ مقدّمةٌ على الفصاحةِ، وهي َعلى البلاغةِ.وكقول الشاعر :
    نظرة ، فابتسامةٌ ، فسلامُ فكلامٌ ، فموعدٌ ، فَلِقاءُ
    *- تأخيرُ المسندِ إليه:
    يؤخرُ المسندُ إليه إنِ اقتضَى المقامُ تقديمَ المسندِ ،ولا نلتمسُ دواعيَ التقديمِ والتأخيرِ إلا إذا كانَ الاستعمالُ يبيحُ كليهِما
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:20

    الفصل الثالثُ- في التعريفِ
    *-تعريفُ المسنَدِ إليهِ:
    حقُّهُ أن يكونَ معرفةً، لأنهُ المحكومُ عليه الذي ينبغي أن يكونَ معلوماً، ليكونَ الحكمُ مفيداً.
    وتعريفُه إمّا: بالإضمارِ، وإمّا بالعلَميةِ، وإمَّا بالإشارةِ، وإمّا بالموصوليةِ، وإمّا بأل، وإمّا بالإضافةِ، وإمّا بالنداءِ.
    أمَّا تعريفُ المسنَدِ إليهِ بالإضمارِ فهو لأغراضٍ أهمُّها :
    1- كونُ الحديثِ في مقامِ التكلِّم، كقولِ الشاعر :
    أَنَا ابنُ دَارَةَ، مَعْروفاً بها نَسَبي.... وَهَلْ بِدارَةَ، يا للنَّاسِ مِنْ عارٍ
    2- أو في مقامِ الخطابِ، كقوله: (وأنتَ الذي في رحمةِ اللهِ تطمعُ...).
    3- أو في مقامِ الغيبةِ، كقوله تعالى: {.. هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ .. } (23) سورة الحشر.
    ولا بدَّ من تقدُّم ِذكرِ مرجعِ الضميرِ وذلك:
    1- إمّا لفظاً، كقوله تعالى: (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [الأعراف/87])
    2- وإمّا معنىً، كقوله تعالى: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )[المائدة/8]) . أي العدلُ المفهوم من قوله: (اعدلوا).
    3- وإمّا حُكماً، كقوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء/11]) أي أبوي الميّتِ، المفهومِ من السياق.
    ثمَّ إنَّ الأصلَ في الخطابِ أن يكونَ لمعيّنٍ مشاهَدٍ،وقد يأتي لغيرِ المعيَّنِ إذا قصِدُ التعميمُ، كقوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } (12) سورة السجدة.
    كما أنهُ قد يأتي لغيرِ المشاهَدِ، إذا نُزِّل منزلتهُ، نحو قوله تعالى : {..فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (87) سورة الأنبياء، لكونِ اللهِ تعالى معَ كلِّ أحدٍ بعلمه وقدرته وهيمنتهِ.


    تعريفُ المسنَدِ إليه بالعلَميَّةِ :
    يُؤتى بالمسندِ إليه علَماً: لإحضارِ معناهُ في ذهنِ السَّامعِ، ابتداءً باسمهِ الخاصِّ لِيمتازَ عمَّا عداهُ،قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) [البقرة/257] . وكقوله تعالى : كقوله تعالى: (وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْت وإسماعيلُ) [البقرة: 127].
    وقد يعرَضُ له إضافةً إلى امتيازهِ وجهٌ مرجِّحٌ آخر، وأهمُّ الوجوهِ:
    1 - المدح، فيما إذا كان الاسمُ مشعراً بذلك، قال تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) [الفتح/29] .و نحو: جاءَ نصرٌ .
    2 -الذمُّ والإهانةُ، قال تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) [إبراهيم/22]. ونحو : ذهبَ تأبَّطَ شرّاً.
    3 ـ التبرّكُ بذكرهِ، كقوله: (فليحكمِ القرآنُ في أبنائنا).و نحو: اللهُ أكرمني، في جوابِ: هلْ أكرمكَ اللهُ؟
    4 - التلذّذُ باسمهِ، كقول مجنون ليلى :
    بِاللّهِ يا ظَبَياتِ القَاعِ قُلْن لنا ... لَيْلايَ مِنكنَّ أَم لَيلَى من البَشَرِ
    5- التَّفاؤلُ، نحو: جاءَ سُرورٌ.
    6- التشاؤمُ، نحو: حربٌ في البلدِ.
    7- الكنايةُ عن معنى يَصْلحُ العلمُ لذلك المعنَى، بحسبِ معناهُ الأصليِّ قبل العلميَّة، نحو: أبو لهبٍ فعلَ كذا،.كِنايةً عن كونهِ جَهنَّمِيّاً.لأن اللهَبَ الحقيقيَّ هو لَهبُ جهنَّم، فيصحُّ أن يُلاحظَ فيه ذلكَ
    8 -التسجيلُ على السامعِ لئلا ينكرَ، كقوله: (أفهلْ علمتَ بأنَّ أحمدَ قد أتى)؟
    9 - طلبُ الإقرارِ بصريحِ الاسمِ، كقوله: ( قلْ: هل دريتَ بأنَّ يوسفَ حاكمٌ)؟


    وأمَّا تعريفُ المسنَدِ إليه باسمِ الإشارةِ فهو لأمورٍ :
    1 - أنْ لا يكونَ طريقٌ لإحضارهِ إلا باسمِ الإشارةِ، لجهلِ السامعِ باسمهِ وبصفاتهِ، كقوله: (جاءني هذا) مشيراً إلى زيدٍ، حيثُ لا يمكنُك إحضارُه باسمهِ أو صفتهِ في ذهنِ المخاطبِ.
    2 - بيانُ حالهِ في القربِ، قالَ تعالى: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ )[يس/63].
    3-بيانُ حالهِ في البعدِ، قالَ تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (42) سورة ق.
    وكثيراً ما يُشَارُ إلى القريبِ غير الْمُشَاهَدِ بإشارةِ البعيدِ، تنزيلاً للبُعدِ عن العيانِ، منزلةَ البعدِ عن المكانِ، نحو: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطع عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف: 82].
    4 - تعظيمُهُ بالقربِ، قالَ تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) [الإسراء/9].
    5-تحقيرهُ بالقربِ، قال تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} (99) سورة الأنبياء.
    6 - تعظيمُهُ بالبُعدِ، كقوله: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) [البقرة/2].
    7- تحقيرُهُ بالبُعدِ، قالَ تعالى: (فذلك الّذي يدعُّ اليتيم)(24).
    8 - تمييزُ المشارِ إليه أحسنَ تمييزٍ، كقول ِ الفرزدق :
    هذا ابنُ فاطمةَ إِنْ كُنتَ جاهِلَهُ ... بجَدِّهِ أَنْبِياءُ اللّهِ قد خُتِمُوا
    10- التعريضُ بغباوةِ المخاطبِ إيماءاً إلى أنهُ لا يعرفُ إلا المحسوسَ، كقول الفرزدقِ يهجو جريراً:
    أُولئكَ آبائِي، فَجِئْنِي بِمِثْلِهمْ ... إِذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجامِعُ
    11- إظهارُ الاستغرابِ كقول الشاعرِ :
    كم عاقلٍ أعيتْ مذاهبُهُ وجاهلِ جاهلٌ تلقاهُ مرزوقا


    وأمّا تعريفُ المسندِ إليهِ بالموصولِ فهو لأمورِ :
    يُؤْتَى بالمسندِ إليهِ اسمَ موصولٍ اذا تعيّنَ طريقاً لإحضارِ معناهُ.كقولكَ: الذي كانَ معنا أمسِ سافرَ، إذا لم تكنْ تَعرِفِ اسمَهُ.
    أمَّا إذا لم يَتَعَيَّنْ طريقاً لذلكَ; فيكونَ لأغراض أخرَى.
    1 - التشويقُ لكونِ مضمونِ الصلة أمراً غريباً، كقول الشاعر :
    والذي حارتِ البريّةُ فيهِ حيوانٌ مستحدثٌ منْ جمادِ
    3 - تعظيمُ شأنِ المسنَدِ إليه، كقول الفرزدق :
    إنَّ الذي سمكَ السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ
    4 - التهويلُ، تعظيماً أو تحقيراً، قال تعالى: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ) [طه/78]، ونحو: مَنْ لم يَدْرِ حقيقةَ الحالِ قالَ ما قالَ.
    5 - استهجانُ التصريح بالاسمِ، قال تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ) [يوسف/23] ، ونحو: الذي رَبانِي أبي .
    6 - التوبيخُ، نحو: الذي أحسنَ إليكَ قدْ أسأتَ إليهِ،وكقول الشاعر:
    أفيقوا أمنْ كـانَ يـحسنُ دائـماً إليكمْ؟ فهلْ هذا جزاءُ المفضِّلِ؟
    7- إخفاءُ الأمرِ عَنْ غير المخاطبِ، كقول الشاعر:
    وأخذتُ ما جاد الأميرُ بهِ وقضيتُ حاجاتي كما أهوَى
    8- التنبيهُ على خطأِ المخاطَبِ، نحو قوله تعالى : (إنَّ الذين تَدعونَ مِنْ دون الله عبادٌ أمثالكم)[الأعراف: 194]، وكقول الشاعر :
    إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكم ... يَشْفِي غَلِيلِ صُدُورهم أَنْ تُصْرَعُوا
    9- التنبيهُ على خطأ غيرِ الُمخاطَبِ، كقول الشاعر :
    إنَّ التي زَعَمَتْ فُؤَادَكَ مَلَّها خلقتْ هواكَ كما خلقتَ هوى ً لها
    10- الإشارةُ إلى الوجهِ الذي يُبنَى عليه الخبرُ من ثوابٍ أو عقابٍ ،كقوله تعالى: (فالذين آمنوا وَعَمِلوا الصالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم) [الحج: 50].
    11- الاستغراقُ ، نحو: الذينَ يأتونكَ أكْرِمْهُم.
    12- الإبهامُ، نحو: لكلِّ نفسٍ مَا قدَّمتْ.
    واعلمْ أنَّ التعريفَ بالموصوليَّة مبحثٌ دقيقُ المسلكِ، غريبُ النزعة يُوقِفُكَ على دقائقَ مِن البلاغةِ تؤنسُكَ إذا أنتَ نظرتَ إليها بثاقبِ فكرك، وتُثلجُ صدركَ إذا تأمَّلتها بصادقِ رأيكَ، فأسرارُ ولطائف التعريف بالموصوليّة لا يمكنُ ضبطُها، واعتبرْ في كلِّ مقامٍ ما تراهُ مناسباً.


    *-تعريفُ المسنَدِ إليه معرّفاً باللامِ :
    يُؤْتى بالمسند ِإليه مُعَرَّفاً بألْ الْعَهْدِيَّة أو أل الجنسيةَ لأغراض آتية :
    أما (أل) العهديةُ، فإنها تدخلُ على المسنَدِ إليه للإشارةِ إلى معهودٍ لدى المخاطبِ، والعهدُ على ثلاثةِ أقسامٍ:
    1- العهدُ الذكريُّ، وهو ما تقدمَ فيه ذكرُ المسندِ إليه صريحاً، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} (15) سورة المزمل ، فإنَّ (الرسولَ) تقدّمَ ذكره صريحاً، لكنَّ المثالَ ليس للمسندِ إليه، إذِ الرسولُ مفعولٌ في المقامِ، وإنما المثالُ المطابق قول الشاعر:
    أتاني شخصاً لابساً ثوبَ سؤددٍ وما الشخصُ إلا منْ كرامِ الأقاربِ
    2 - العهدُ الذهنيُّ، وهو ما تقدمَ فيه ذكر المسنَد إليهِ تلويحاً، قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (36) سورة آل عمران ،فإنه لم يسبق ذكر (الذكَر) صريحاً، وإنّما أشيرَ إليهِ في قوله تعالى : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (35) سورة آل عمران، فإنّ (ما) يرادُ منه الذكَرُ، لأنه القابلُ لخدمةِ المسجدِ. وقد كانوا لا يُحررون لخدمةِ بيتِ المقدس إلا الذكورَ، وهو المعنيُّ بـ «ما» ويسمَّى كنائياً.
    3 - العهدُ الحضوريُّ، وهو ما كان المسنَدُ إليه حاضراً بذاتهِ، قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة ، فإنَّ (اليومَ) وهو يومُ عرفة ـ الذي أكملَ اللهُ تعالى دينهُ في حجة الوداع ِ ، ومثلهُ ما بمنزلةِ الحاضرِ، نحو: هل انعقدَ المجلسُ؟ فيما كانَ المجلسُ في شرفِ الانعقادِ.
    أل الجنسيةُ: وتسمَّى لامَ الحقيقةِ: تدخلُ على المسنَدِ إليه لأغراضٍ أربعةٍ:
    1 – للإشارةِ إلى الحقيقةِ من حيثُ هي بقطعِ النظر عن عمومِها وخصوصِها، نحو: الإنسانُ حيوانٌ ناطقٌ.
    وتسمَّى لام َالجنسِ، لأنَّ الإشارةَ فيه إلى نفسِ الجنسِ، بقطعِ النظر عن الأفرادِ نحو: الذهبُ أثمنُ مِنَ الفضَّةِ.
    2 - أو للإشارةِ إلى الحقيقةِ في ضمن فردٍِ مُبهَمٍ، إذا قامتِ القرينةُ على ذلك، كقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} (13) سورة يوسف. ومدخولُها في المعنى كالنكرةِ فيُعامل مُعاملتَها.وتسمَّى لامَ العهدِ الذِّهنيِّ.
    3 - أو للإشارةِ إلى كلِّ الأفراد التي يتناولُها اللفظُ بحسب اللغةِ ،ولها حالتان:
    أ - بمعونة قرينةٍ حاليةٍ نحو قوله تعالى : (عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادة)[الأنعام: 73، التوبة: 94]. أيْ كلُّ غائبٍ وشاهدٍ.
    ب - أو بمعونةِ قرينةٍ لفظيةٍ نحو قوله تعالى : (إنَّ الإنسان لَفِي خِسْر) [العصر: 2]. أيْ كلُّ إنسانٍ بدليلِ الاستثناءِ بعده. ويسمَّى استغراقاً حقيقياً.
    4 - أوْ للإشارة ِإلى كلّ الأفرادِ مقيَّداً نحو: جمعَ الأميرُ التُّجارَ، وألقَى عليهم نصائحَه، أيْ جمعَ الأميرُ تجَّارَ مملكتهِ لا تجَّارَ العالَمِ أجمعَ. ويسمَّى استغراقاً عُرفياً.
    تنبيهاتٌ
    التنبيهُ الأولُ: علِمَ مما تقدمَ أنَّ أل التعريفيةَ قسمانِ: القسمُ الأولُ: لامُ العهد الخارجيِّ، وتحتهُ أنواعٌ ثلاثةٌ: صريحيُّ وكنائيٌّ وحضوريُّ.
    والقسمُ الثاني: لامُ الجنس: وتحتهُ أنواعٌ أربعةٌ: لامُ الحقيقةِ من حيثُ هي، ولامُ الحقيقة في ضمنِ فرد مبهَمٍ، ولامُ الاستغراقِ الحقيقيِّ، ولامُ الاستغراقِ العرفيِّ.
    التنبيهُ الثاني: استغراقُ المفردِ أشملُ من استغراق المثنَّى، والجمعِ، واسمِ الجمعِ.
    لأنَّ المفردَ يتناولُ كلَّ واحدٍ واحدٍ من الأفرادِ.والمثنَّى إنما يتناولُ كلَّ اثنينِ اثنينِ.والجمعُ إنما يتناولُ كلَّ جماعةٍ جماعةٍ بدليلِ صحةِ: لا رجالَ في الدارِ، إذا كان فيها رجلٌ أو رجلانِ، بخلافِ قولك: لا رجلَ، فإنه لا يصحُّ إذا كان فيها رجلٌ أو رجلانِ.
    وهذه القضيةُ ليستْ بصحيحةٍ على عمومِها، وإنما تصحُّ في النكرةِ المنفيةِ، دونَ الجمع المعرَّفِ باللام، لأنَّ المعرَّفَ بلامِ الاستغراقِ يتناولُ كلَّ واحدٍ من الأفرادِ نحو قوله تعالى : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء.. } (34) سورة النساء ،بل هو في المفردِ أقوى، كما دلَّ عليه الاستقراءُ وصرحَ به أئمةُ اللغةِ وعلماءُ التفسيرِ في كلِّ ما وقعَ في القرآنِ العزيزِ نحو قوله تعالى : {.. أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ..} (33) سورة البقرة ، {..وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134) سورة آل عمران ، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا..} (31) سورة البقرة ,إلى غير ذلك من آيِ الذكرِ الحكيمِ كما في المطولاتِ.


    وأمّا تعريفُ المسنَدِ إليهِ بالإضافةِ فهو لأمور :
    1- أنه أخصرُ طريقٍ لإحضارهِ في ذهنِ المخاطَب، كقوله: (زرتُ والدَكَ)؟
    2 -تعذّرُ التعدادِ، كقوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ )[الرحمن/26، 27].
    3 -تعسّرُ التعدادِ، كقوله: (زارني أصدقائي) لمنْ أصدقاؤُه كثيرونَ.
    4 - الخروجُ عن تبعةِ تقديمِ بعضٍ على بعضٍ، كقوله: (جاءُ أمراءُ الجيشِ).
    5 - تعظيمُ المضافِ، كقوله: (خادمُ السلطانِ يبغي مطلباً) تعظيماً للخادمِ بأنه خادمُ السلطانِ.
    6 - تعظيمُ المضافِ إليه، كقول الشاعر:
    إذا ما رأيتَ الكسائيَّ فقلْ صنيعُك أضحَى أميرَ البلادِ
    تعظيماً للكسائيِّ بأنَّ صنيعَه صارَ أميراً.
    7 -تعظيمُ غيرهِما نحو: (أخو السلطانِ صهري) تعظيماً للمتكلّم بأنَّ أخَ السلطانِ صهرَه..
    8 -تحقيرُ المضافِ، نحو: (ابنُ الجَبان حاضرٌ).
    9 -تحقيرُ المضافِ إليه، نحو: (عبدُ زيدٍ خائنٌ).
    10 - تحقيرُ غيرهِما، نحو: (أخو اللصِّ عندَكَ).
    11 - الاختصارُ لضيقِ المقامِ، كقوله: ( هوايَ منَ الركبِ اليمانيينِ مصعدٌ) فلفظ (هوايَ) أخصرُ من (الذي أهواهُ).
    12 - الاستهزاءُ، كقوله: (علمُك النافعُ لا علمَ جميعِ العلماءِ).


    *- تعريفُ المسنَدِ :
    1 - إفادةُ السامعِ حكماً معلوماً على أمرٍ معلوم، وذلك يفيدُ النسبةَ المجهولةَ، فمن عرفَ زيداً بشخصِه، وعرفَ أنّ له صديقاً، ولكنْ لم يعرفْ أنّ زيداً هو صديقُه، قيل لهُ: (زيدٌ صديقُك) وهذا يفيد النسبةَ، وإنْ لم يفدِ الخبرُ - لكونهِ معلوماً -.
    2 -قصرُ المسنَدِ على المسنَدِ إليه حقيقةً، كقولهِ: (عمرُ الفاروقُ أميرُ المؤمنينَ صريحةٌ...).
    3 - قصرُ المسنَدِ على المسنَدِ إليه ادّعاءً، كقوله: (وأخو كُليبٍ عالمُ الأنسابِ...).




    الفصلُ الخامس- التنكيرُ

    ينبغي أنْ يكونَ المسنَدُ إليه معرفةً، ولكنْ قد يؤتَى به نكرةً لأغراضٍ :
    1 - إذا لم يعلمِ المتكلمُ بجهةٍ من جهاتِ التعريفِ، حقيقةً أو ادعاءاً، كقوله: (جاءَ رجلٌ يسأل ُعنكَ).
    2 - إخفاءُ الأمرِ كقوله: (اتّهمَكَ رجلٌ) يخفي اسمَه حتى لا يكونَ شغباً.
    3 - قصدُ الإفرادِ، قال تعالى: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس/20]) أي: رجلٌ واحدٌ
    4 - قصدُ النوعيّةِ، نحو قول الشاعر :
    لكلِّ دَاءٍ دواءٌ يستطَبُّ به ... إلا الحماقةَ أَعْيَتْ مَن يُدَاويها
    5- التعظيمُ، قال تعالى: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) [البقرة/7] أي: غشاوةٌ عظيمةٌ.
    6 - التحقيرُ، قال تعالى: (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ )[الأنبياء/46]
    7 - التكثيرُ، قال تعالى: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ) [الحج/42]
    8 - التقليلُ، قال تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة/72]) أي: رضوانٌ قليلٌ أكبرُ من نعيمِ الجنّةِ


    وأمّا تنكيرُ المسنَدِ :
    فلأنَّ الأصلَ في المسندِ أن يكونَ نكرةً، لإفادةِ العلمِ بشيءٍ مجهولٍ، لكنْ قدْ يرجِّحُها أمورٌ:
    1 - إرادةُ عدمِ العهدِ والحصرِ، كقوله: (مجاهدٌ عبدٌ، وسلمى أمَةٌ...).
    2 -إرادةُ التفخيمِ، قال تعالى: (هدىً للمتَّقين) البقرة: 2. بناءً على كونهِ خبراً.
    3 - إرادةُ التحقيرِ، كقوله: ( وما هندة شيئاً، ولكن رجالها...).
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:23

    الفصلُ السادسُ- في القصْرِ

    *-تعريفُهُ :
    لغةً الحبسُ – قال الله تعالى :(حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ) [الرحمن/72]،واصطلاحاً: هو تخصيصُ شيءٍ بشيءٍ بطريقٍ مخصوصٍ.
    والشيءُ الأولُ هو المقصورُ، والشيءُ الثاني هو المقصورُ عليه.
    والطريقُ المخصوصُ لذلك التخصيصِ يكونُ بالطرقِ والأدواتِ الآتية،نحو: ما شوقي إلا شاعرٌ، فمعناهُ تخصيصُ (شوقي بالشِّعرِ) وقصرُهُ عليه، ونفيُ صِفةِ(الكتابةِ) عنه – (ردًّا على من ظنَّ أنَّهُ شاعرٌ وكاتبٌ) والذي دلَّ على هذا التخصيصِ هو النفيُ بكلمةِ ( ما) المتقدمةِ، والاستثناءُ بكلمةِ (إلا) التي قبلَ الخبرِ.
    فما قبلَ «إلا» وهو « شوقي» يُسمَى مقصوراً عليهِ، وما بعدها وهو (شاعرٌ) يسمَّى مقصوراً – (وما – وإلاّ) طريقُ القصرِ وأدواتُه.
    ولو قلتَ (شوقي شاعرٌ) بدونِ (نفيٍ واستثناءٍ) ما فُهِمَ هذا التخصيصُ،ولهذا يكونُ لكلِّ قصرٍ طرفانِ « مقصورٌ، ومقصورٌ عليه»،ويُعرَّفُ (المقصورُ) بأنّه هو الذي يُؤلفُ معَ (المقصورِ عليه) الجملةَ الأصليةَ في الكلام ِ
    ومنْ هذا تعلمُ أنَّ القصرَ: هو تخصيصُ الحكمِ بالمذكورِ في الكلام ِونفيُهُ عن سواهُ بطريقٍ من الطرقِ الآتيةِ:
    وفي هذا البابِ ستةُ مباحثَ
    المبحثُ الأولُ – في طرقِ القصرِ :

    *-للقصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ ،وأشهرُها في الاستعمال أربعةٌ وهي:
    أولاً-يكونُ القصرُ (بالنفي والاستثناءِ) كقوله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ ..ْ}(144) سورة آل عمران، ونحو :ما شوقي إلا شاعرٌ أو: ما شاعرٌ إلاَّ شوقي. فالمقصور عليهِ « في النفي والاستثناء» هو المذكور بعد أداةِ الاستثناء – نحو قوله تعالى: ) وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ) [هود/88]
    ثانياً- يكونُ القصرُ (بإنَّما) – نحو قوله تعالى : « إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر/28] »
    وكقول الشاعر :
    إنما يشتري المحامدَ حُرٌّ طابَ نفساً لهُنَّ بالأثمانِ
    ثالثاً- يكونُ القصرُ (بالعطف بلا – وبلْ – ولكنْ) – نحو: الأرضُ متحركةٌ لا ثابتةٌ، وكقول الشاعر :
    عمرُ الفتى ذِكْرُه لا طولُ مُدّته ... وموتُه حزنُه لا يومُه الداني
    وكقول الشاعر :
    ما نالَ في دُنياهُ وإنْ بُغيةً لكنْ أخو حزمٍ يَجدُّ ويَعمَلُ
    رابعاً- يكونُ القصرُ (بتقديمِ ما حقّهُ التأخيرُ) نحو قوله تعالى :{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ْ}[الفاتحة/5] – أي: نخصُّك بالعبادةِ والاستعانةِ.
    - فالمقصورُ عليه في النفي والاستثناءِ هو المذكورُ بعد أداة ِالاستثناءِ نحو: وما توفيقي إلا بالله.
    - والمقصورُ عليه مع إنما هو المذكور بعدها، ويكون ُمؤخَّراً في الجملةِ وجوباً، نحو قول الشاعر :
    إِنَّمَا الدُّنْيَا غُرُورٌ لمْ تدعْ طفلاً وَ كهلا
    - والمقصورُ عليه مع لا العاطفةِ هو المذكورُ قبلهاوالمُقابلُ لما بعدها،نحو: الفخرُ بالعلمِ لا بالمالِ.
    - والمقصورُ عليه مع بَلْ ولكنْ، العاطفتين هو المذكور بعدهما نحو: ما الفخرُ بالمالِ بلْ بالعلمِ، ونحو: ما الفخرُ بالنَّسَبِ لكنْ بالتقوَى.
    - والمقصورُ عليه في تقديمِ ما حقَّهَ التأخيرُ هو المذكورُ المتقدِّمُ ،نحو: على اللهِ توكلَّنا، وكقول المتنبي :
    وَمَنَ البَلِيّة عَذلُ مَنْ لا يَرْعوِي ... عن جَهلِهِ وَخِطَابُ مَنْ لا يَفْهمُ
    *-أمورٌ ترتبطُ بالقصرِ:
    هناك أمورٌ ترتبط بالقصر أهمها:
    1 - القصرُ يحدّدُ المعاني تحديداً كاملاً، ولذا كثيراً ما يستفادُ منه في التعريفاتِ العلميةِ وغيرها.
    2 - القصرُ من ضروبِ الإيجازِ ، وهو من أهمِّ أركانِ البلاغةِ، فجملةُ القصر تقومُ مقامَ جملتين: مثبتةٌ ومنفيةٌ.
    3 - يفهمُ من (إنما) حكمانِ: إثباتٌ للشيءِ والنفيُ عن غيرهِ دفعةٌ واحدةٌ، بينما يُفهم من العطفِ الإثباتُ أوّلاً والنفيُ ثانياً، أو بالعكسِ، ففي المثال السابقِ: الخشيةُ للعلماءِ دون غيرهم، والفخرُ للتقوى لا للنَّسب، مع وضوحِ الدفعةِ في الأولِ، والترتّبِ في الثاني.
    4 - في النفي والاستثناءِ يكونُ النفي بغيرِ (ما) أيضاً، قال تعالى: {..وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (31) سورة يوسف.
    ويكون الاستثناء بغير (إلا) أيضاً، كقوله:لم يبقَ سواكَ نلوذُ بهِ مما نخشاهُ منَ المحنِ
    5 -ـ يشترطُ في كلٍّ منْ (بل) و(لكنْ) أنْ تسبَقَ بنفيٍ أو نهيٍ، وأنْ يكونَ المعطوفُ بهما مفرداً، وأنْ لا تقترنَ (لكنْ) بالواو، وفي (لا) أنْ تسبقَ بإثباتٍ، وأن يكونَ معطوفُها مفرداً وغير داخلٍ في عمومِ ما قبلها.
    6 - يدلُّ التقديمُ على القصرِ بالذوق، بينما الثلاثة الباقية تدلُّ على القصرِ بالوضع، أعني: (الأدوات).
    7 -سبقَ أنَّ الأصلَ هو أن يتأخّرَ المعمولُ عن عاملهِ إلاّ لضرورةٍ، أهمُّها إفادةُ القصرِ، فإنَّ منْ تتبعَ كلامَ البلغاء في تقديمِ ما حقَّهُ التأخيرُ، وجدهُم يريدونَ به القصرَ والتخصيصَ عادةً.


    المبحثُ الثاني- في تقسيمِ القصرِ باعتبار الحقيقةِ والواقع إلى قسمين :
    (أ)- قصرٌ حقيقيٌّ: هو أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسبِ الحقيقةِ والواقع، بألا يتعدَّاهُ إلى غيره أصلاً ، نحو: لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
    (ب)- قصرٌ إضافيٌّ : هو أنْ يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليهِ بحسبِ الإضافةِ والنسبة إلى شيءٍ آخرَ معينٍ، لا لجميعِ ما عداهُ، نحو: ما خليلٌ إلا مسافرٌ، فإنكَ تقصدُ قصرَ السفر عليه بالنسبة لشخصٍ غيرهِ، كمحمودٍ مثلاً وليسَ قصدُك أنهُ لا يوجدُ مُسافرٌ سواهُ، إذِ الواقعُ يشهدُ ببطلانهِ.


    المبحثُ الثالثُ -في تقسيم القصر باعتبار طَرَفيه

    *-ينقسمُ القصرُ باعتبار طرفيه (المقصُورُ والمقصورُ عليه) سواءٌ أكانَ القصر حقيقياً أم إضافياً إلى نوعينِ:
    (أ)- قصرُ صفةٍ على موصوفٍ: هو أن تحبسَ الصفةُ على موصوفِها وتختصَّ به، فلا يتَّصفُ بها غيرُه، وقد يتَّصفُ هذا الموصوفُ بغيرها من الصفات،مثاله منِ الحقيقيِّ :(لا رازقَ إلا اللهُ) ، ومثاله منَ الإضافيِّ، نحو: لا شجاعَ إلا خالدٌ .
    (ب)- قصرُ موصوفٍ على صفةٍ: هو أن يحبسَ الموصوفُ على الصفةِ ويختصَّ بها، دون غيرها، وقدْ يشاركُه غيرهُ فيها، مثاله منَ الحقيقيِّ، نحو: ما اللهُ إلا خالقُ كلِّ شيءٍ ، ومثاله من الإضافيِّ، قوله تعالى : (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )[آل عمران/144].
    واعلمْ أنَّ المرادَ بالصفةِ هنا الصِّفةُ المعنويةُ، الّتي تدلُّ على معنًى قائمٍ بشيءٍ، سواءٌ أكانَ اللفظُ الدالُّ عليه جامداً أو مشتقاً، فعلاً أو غيرَ فعلٍ، فالمرادُ بالصِّفةِ :ما يحتاج ُإلى غيرهِ ليقومَ به ،كالفعلِ و نحوهِ ، وليس المرادُ بها الصفةَ النحويةَ، المسماةَ بالنَّعتِ.

    المبحث الرابعُ -في تقسيم القصرِ الإضافيِّ

    *- ينقسمُ القصرُ الإضافيُّ -بنوعيه السابقينِ على حسبِ حالِ المخاطَبِ -إلى ثلاثةِ أنواعٍ:
    (أ)- قصرُ إفرادٍ : إذا اعتقدَ المخاطبُ الشركةَ، نحو قوله تعالى : {.. إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ..} (171) سورة النساء ،رداً على من اعتقد أنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ .
    (ب)- قصرُ قَلبٍ : إذا اعتقدَ المخاطبُ عكسَ الحكمِ الذي تثبتُه، نحو: ما سافرَ إلا عليٌّ ، رداً على منِ اعتقدَ أنَّ المسافرَ خليلٌ لا عليٌّ، فقد قلبتَ وعكستَ عليه اعتقادَه.
    (جـ)- قصر تعيين :إذا كان المخاطبُ يتردّدُ في الحكم، كما إذا كان متردّداً في كونِ الأرضِ متحركةً أو ثابتةُ، فتقول ُله: الأرضُ متحركةٌ لا ثابتةٌ ، ردًّا على منْ شكَّ وترددَ في ذلك الحُكمِ

    المبحثُ الخامسُ- في مواقع القصر :
    اعلمْ أنَّ القصرَ بنوعيهِ يقعُ بين المبتدأِ والخبرِ، وبين الفعلِ والفاعلِ، وبين الفاعلِ والمفعولِ به، وبين الحالِ وصاحبِها ، وغير ذلك من المتعلقاتِ، ولا يقعُ القصرُ مع المفعولِ معَهُ.
    1. بين المبتدأ والخبر ، نحو قول له تعالى :{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } (144) سورة آل عمران
    2. بين الفعلِ والفاعلِ، نحو : ما صدقَ إلا محمدٌ .
    3. بينَ الفاعلِ والمفعولِ به ، نحو: ما لقيتُ إلا محموداً .
    4. بينَ المفعولينِ، نحو : ما منحتُ الفقيرَ إلا درهماً .
    5. بين المتعلقاتِ كالحالِ، نحو : ما جاءَ راكباً إلا محمدٌ .


    المبحثُ السادسُ-في مواقع المقصورِ عليهِ

    الأغلبُ أنْ يؤخرَ المقصورُ عليه عنِ المقصورِ في الاستثناءِ، بحيثُ يقعُ بعدَ أداتهِ إلا أو غيرها، ويقلُّ تقديمُ المقصورِ عليه مع أداةِ الاستثناءِ على المقصورِ، نحو :ما لقيَ إلا عمرَ محمدٌ .
    وكذلكَ يؤخَّرُ المقصورُ عليهِ- غالباً- على المقصورِ في إنما، كما هو الحال في الاستثناءِ كقولنا: ( إنما لقيَ عمرا زيدٌ) .
    والقصرُ من ضروبِ الإيجازِ الذي هو أعظمُ ركنٍ من أركانِ البلاغةِ، إذْ أنَّ جملةَ القصر ِفي مقامِ جملتينِ، فقولك (ما كاملَ إلا اللهٌ) تعادلُ قولَك: الكمالُ لله، وليسَ كاملا غيرَه.
    وأيضاً القصرُ يحددُ المعانيَ تحديداً كاملاً، ويكثرُ ذلك في المسائل العلميةِ وما يماثلُها

    .


    عدل سابقا من قبل ضي القمر في 21.12.10 17:37 عدل 1 مرات
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:51

    الفصلُ السابعُ - في الإيجازِ والإطنابِ والمساواةِ

    كلُّ ما يجُولُ في الصَّدرِ منَ المعاني، ويَخطُر ببالكَ معنًى منها ،لا يعدُو التعبيرُ عنهُ طريقاً من طرقٍ ثلاثٍ:
    أولاً – إذا جاء التعبيرُ على قدرِ المعنَى، بحيثُ يكونُ اللفظُ مساوياً لأصلِ ذلك المعنَى – فهذا هو «المساواةُ»
    وهي الأصلُ الذي يكونُ أكثرَ الكلامِ على صورتهِ، والدستورُ الذي يقاسُ عليه.
    ثانياً – إذا زادَ التعبيرُ على قدرِ المعنَى لفائدةٍ، فذاكَ هو « الإطنابُ»، فإنْ لم تكنِ الزيادةُ لفائدةٍ فهيَ حشوٌ: أو تطويلٌ.
    ثالثا- إذا نقصَ التعبيرُ على قدرِ المعنَى الكثيرِ، فذلكَ هو «الإيجازُ» .
    فكلُّ ما يخطرُ ببال المتكلمِ من المعاني فلهُ في التعبيرِ عنه بإحدى هذه الطرقِ الثلاث، فتارةً (يوجزُ) وتارةً (يُسهبُ)، وتارةً يأتي بالعبارةِ (بينَ بينَ) ولا يُعدُّ الكلامُ في صورة ٍمن هذه الصورِ بليغاً إلا إذا كانَ مطابقاً لمُقتضَى حال ِالمخاطَبِ، ويدعو إليه مواطنُ الخطابِ، فإذا كان المقامُ للأطنابِ مثلا، وعدلتَ عنه إلى: الإيجازِ، أو المساواةِ لم يكنْ كلامُك بليغاً- وفي هذا الباب ثلاثةُ مباحثَ.

    المبحثُ الأول -الإيجازُ
    *-تعريفُه:
    هو وضعُ المعاني الكثيرةِ في ألفاظٍ أقلَّ منها، وافيةٍ بالغرضِ المقصودِ، مع الإبانةِ والإفصاحِ، كقوله تعالى :{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف
    فهذه الآيةُ القصيرةُ جمعتْ مكارم َالأخلاقِ بأسرها ، وكقوله تعالى :(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) [الأعراف/54] وكقوله عليه الصلاة والسلام : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ » .
    فإذا لم تفِ العبارةُ بالغرضِ سميَ إخلالاً وحذفاً رديئاً ،كقول اليشكريِّ :
    والعيشُ خيرٌ في ظِلا ... لِ النوكِ ممنْ عاَش كدَّا
    مرادهُ: أنَّ العيشَ الناعمَ الرَّغدَ في حال الحمقِ والجهلِ، خيرٌ من العيشِ الشاقِّ في حالِ العقلِ، لكنَّ كلامَه لا يعدُّ صحيحاً مقبولاً.
    ومثالُ التطويلِ، قول ابن مالكِ في ألفيته :
    كَذَا إِذَا عَادَ عَلَيْهِ مُضْمَرُ مِمَّا بِهِ عَنْهُ مُبِيناً يُخْبَرُ
    أي يجبُ تقديمِ الخبرِ إذا عادَ عليه ضميرٌ من المبتدأِ،
    وينقسمُ الإيجازُ إلى قسمينِ: إيجازُ قصرٍ وإيجازُ حذف ِ:
    (فإيجازُ القصرِ) «و يسمَّى إيجازَ البلاغةِ» : يكونُ بتضمينِ المعاني الكثيرة ِفي ألفاظَ قليلةٍ من غيرِ حذفٍ، كقوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) [البقرة/179] ، فإنَّ معناهُ كثيرٌ، ولفظهُ يسيرُ، إذِ المرادُ بأنَّ الإنسانَ إذا علم أنه متى قتلَ قُتلَ امتنعَ عن القتلِ، وفي ذلك حياتُه وحياةُ غيره، لأنَّ القتلَ أنفَى للقتلِ وبذلك تطولُ الأعمارُ، وتكثرُ الذريةُ، ويقبِلُ كلُّ واحدٍ على ما يعودُ عليهِ بالنفعِ، ويتمُّ النظامُ، ويكثرُ العمرانُ ، فالقصاصُ هو سببُ ابتعادِ الناسِ عن القتلِ، فهو الحافظُ للحياةِ.
    و كقوله تعالى: {.. وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (72) سورة الفرقان ،فإنَّ مقتضَى الكرامةِ في كلِّ مقامٍ شيءٌ، ففي مقامِ الإعراض: الإعراضُ، وفي مقامِ النهي: النهيُ، وفي مقام النصحِ: النصحُ، وهكذا.. وهكذا..
    وهذا القسْمُ مطمحُ نظرِ البلغاءِ، وبه تتفاوتُ أقدارُهم، حتى أنَّ بعضَهم سُئلَ عن (البلاغةِ) فقال: « هي إيجازُ القصرِ» .
    (وإيجازُ الحذفِ) يكونُ بحذف شيءٍ من العبارةِ لا يخلُّ بالفهْم، عند وجودِ ما يدل ُّعلى المحذوفِ، من قرينة لفظيةٍ أو معنويةٍ ،وذلك المحذوفُ إمَّا أنْ يكونَ:
    (1)- حرفاً – كقوله تعالى : ( قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم/20]) – أصلُه: ولم أكنْ
    (2)- أو اسماً مضافاً ،نحو قوله تعالى : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج/78]) أي: في سبيلِ الله
    (3)- أو اسماً مضافاً إليه – نحو قوله تعالى : (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف/142]) أْي: بعشر ليالٍ.
    (4)- أو اسماً موصوفاً – كقوله تعالى :(وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) [الفرقان/71]) أي: عملاً صالحاً.
    (5)- أو اسماً صفةً – نحو قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ )[التوبة/125] أي: مضافاً إلى رجسِهم.
    (6)- أو شرطاً – نحو قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [آل عمران/31] أي: فإنْ تتبعوني.
    (7)- أو جوابَ شرط ٍ– نحو قوله تعالى : (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [الأنعام/27] أي: لرأيتَ أمراً فظيعاً.
    (8)- أو مسنَداً – نحو قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [العنكبوت/61] أي: خلقهُنَّ اللهُ.
    (9)- أو مسنداً إليهِ – كما في قول حاتم الطائي :
    أَمَاوِيَّ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عنِ الْفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوْماً وضاقً بها الصَّدْرُ
    أي إذا حشرجتِ النفسُ يوماً
    (10)- أو مُتعلِّقا – نحو قوله تعالى : (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء/23]) أي عمّا يفعلونَ
    (11)- أو جملةً – نحو قوله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة/213]) أي فاختلُفوا: فبعثَ.
    (12)- أو جُمَلاً – كقوله تعالى : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ [يوسف/45، 46]) ،أي فأرسلوني إلى يوسفَ لأستعبرَه الرؤيا، فأرسلوه فأتاه، وقال له: يوسفُ أيها الصِّدِّيقُ .
    واعلم أنَّ دواعيَ الإيجازِ كثيرةٌ- منها الاختصارُ، وتسهيلُ الحفظ وتقريبُ الفهم، وضيقُ المقام، وإخفاءُ الأمر على غير السَّامع، والضجرُ والسآمةُ، وتحصيلُ المعنى الكثيرِ باللفظ اليسيرِ – الخ.
    ويُستحسنُ «الإيجازُ»في الأمور التالية :
    1 ـ الشكرُ على النّعم.2 ـ الاعتذارُ.3 ـ الوعدُ.4 ـ الوعيدُ5 ـ العتابُ.6 ـ التوبيخُ.7 ـ التعزيةُ.8 ـ شكوَى الحالِ.9 ـ الاستعطافُ.10 ـ أوامرُ الملوك ونواهِيهم.
    ومرجعكَ في إدراكِ أسرارِ البلاغةِ إلى الذوقِ الأدبيِّ والإحساسِ الروحيِّ .

    المبحثُ الثاني-الإطنابُ

    *-تعريفُه: زيادةُ اللفظِ على المعنى لفائدةٍ، أو هو تأديةُ المعنَى بعبارةٍ زائدةٍ عن متعارفِ أوساطِ البلغاءِ، لفائدةِ تقويتِه وتوكيدِه – نحو قوله تعالى : (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مريم/4]) ، أي: كبرتُ، فإذا لم تكنْ في الزيادةِ فائدةٌ، يسمَّى « تطويلاً» إنْ كانتِ الزيادةُ في الكلام ِ متعيِّنةً.
    ويسمَّى «حشواً» إنْ كانتِ الزيادة ُفي الكلامِ غيرَ متعينةٍ لا يفسدُ بها المعنَى ،
    فالتطويلُ – كقولِ عديِّ العباديِّ في جذيمةَ الأبرش :
    وقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهَشْيه ... وأَلْفَى قوْلَها كَذِباً ومَيْنَا
    فالمينُ والكذبُ بمعنى واحدٍ. ولم يتعينِ الزائدُ منهما، لأنَّ العطفَ بالواو لا يفيدُ ترتيباً ولا تعقيباً ولا معيةُ، فلا يتغيرُ المعنى بإسقاطِ أيهما شئتَ.
    والحشوُ – كقول زهير بن أبي سلمَى :
    وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِي
    فإنَّ كلمةَ (قبلَه) زائدةٌ لوضوحِ أنَّ الأمسِ قبلَ اليومِ.
    وكلٌّ منَ الحشوِ والتطويلِ معيبٌ في البيانِ، وكلاهُما بمعزلٍ عن مراتبِ البلاغةِ
    واعلمْ أنَّ دواعيَ الإطنابِ كثيرةٌ، منها تثبيتُ المعنى، وتوضيحُ المراد، والتوكيدُ، ودفعُ الإيهام، وإثارةُ الحمية – وغيرُ ذلك ،
    أنواع الإطناب كثيرة منها :
    (1)- ذِكْرُ الخَاصِّ بَعْدَ العام لِلتَّنبيهِ عَلَى فَضْلِ الْخَاصِّ: كقوله تعالى : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة/238])، وفائدتُه التنبيهُ على مزيةٍ وفضلٍ في الخاصِّ ،حتى كأنَّه لفضلهِ ورفعتهِ جزءٌ آخرُ، مغايرٌ لما قبلهُ، ولهذا خصَّ الصلاةَ الوسطى (وهي العصرُ على الصحيحِ ) بالذكرِ لزيادةِ فضلِها.
    (2)- ذِكْرُ العَامِّ بَعدَ الخَاصِّ ،لإفادَةِ العُمُومِ معَ الْعِنايةِ بشَأن الخاصِّ، كقوله تعالى :(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) [نوح/28].وفائدتُه شمولُ بقيةِ الأفراد، والاهتمامُ بالخاصِّ لذكرهِ ثانياً في عنوان عامٍّ، بعد ذكرهِ أولاً في عنوانٍ خاصٍّ.
    (3)- الإِيضاحُ بَعْدَ الإبهامِ، لتقريرِ الْمَعْنى في ذهنِ السامِع بذكرهِ مرتين، مرةً على سبيل الإبهام ِوالإجمالِ، ومرّةً على سبيلِ التفصيلِ والإيضاحِ، فيزيدُه ذلك نبلاً وشرفاً، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف/10، 11]) ، وكقوله تعالى :( وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر/66])، فقوله تعالى :( أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ) تفسيرٌ وتوضيحٌ لذلك (الأمرِ) المبهمِ وفائدتُه توجيهُ الذهنِ إلى معرفتهِ، وتفخيمُ شأنِ المبيَّنِ، وتمكينهِ في النفسِ، فأبهمَ في كلمةِ (الأمرِ) ثمَّ وضَّحهُ بعدَ ذلك تهويلاً لأمرِ العذابِ.
    (4) – التوشيعُ: هو أن يؤتَى في آخرِ الكلامِ بمثنَّى مفسَّرٍ بمفردينِ ليُرى المعنى في صورتينِ، يخرجُ فيهما من الخفاءِ المستوحِشِ إلى الظهورِ المأنوسِ، نحو: العلمُ علمانِ، علمُ الأبدانِ، وعلمُ الأديانِ.
    (5)– التكرارُ لِدَاع : هو ذكرُ الشيء مرتينِ أو أكثرَ – لأغراضَ عديدة:
    الأوّلُ – التأكيدُ وتقريرُ المعنَى في النَّفس ،كقوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر/3، 4] )، وكقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح/5، 6])
    الثاني – طولُ الفصلِ – لئلا يجيءَ مبتوراً ليسَ له طلاوةٌ، كقوله تعالى : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (4) سورة يوسف ،فكّررَ (رأيتُ) لطولِ الفصل ِ، ومن هذا القبيلِ قولُ الشاعر :
    وإنَّ امرَأً دَامَت مواثِيقُ عهدِهِ ... على كلِّ ما لاقيتُهُ لكَرِيمُ
    الثالثُ – قصدُ الاستيعابِ، نحو : قرأتُ الكتابَ باباً باباً ، وفهمتُه كلمةً كلمةً .
    الرابعُ – زيادةُ الترغيبِ في العفوِ ، كقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [التغابن/14]).
    الخامسُ – الترغيبُ في قبولِ النصحِ باستمالةِ المخاطبِ لقبولِ الخطاب ِ ،كقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر/38، 39]) ، ففي تكريرِ (يا قومِ) تعطيفٌ لقلوبهِم، حتى لا يشكُّوا في إخلاصِه لهم في نصحِه.
    السادسُ – التنويهُ بشأنِ المخاطبِ، نحو قوله صلى الله عليه وسلم : « الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمِ السَّلاَمُ »أخرجه البخاري .
    السابعُ – الترّديدُ: وهو تكرارُ اللفظِ متعلقاً بغيرِ ما تعلَّقَ به أولاً ،كما وردَ في الأثرِ : « السَّخِىُّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ»
    الثامنُ – التلذذُ بذكرهِ، نحو قول مروان بن أبي حفصةَ :
    سقى الله نجداً والسلامُ على نجد وياحبذا نجدٌ على القُربِ والبعدِ
    التاسعُ – الإرشادُ إلى الطريقةِ المثلَى، كقوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة/34، 35]) .
    (6)– الاعْتِرَاضُ، وهُو أنْ يؤْتَى في أثْناءَ الكلاَمِ أوْ بَيْنَ كلاميْنِ مُتَّصِلَيْنِ في المعنى بجُمْلَةٍ أوْ أكْثرَ لا مَحَلَّ
    لها منَ الإعرابِ –وذلك لأغراضٍ يرمي إليها البليغُ – غيرَ دَفعِ الإيهام :
    (أ)- كالدعاءِ ، نحو: إني - حفظكَ اللهُ- مريضٌ ، وكقول عوف بن محلم الشيبانيِّ :
    إِنَّ الثَّمانِينَ، وبُلِّغْتَها ... قد أَحْوَجَتْ سَمْعِي إِلى تُرْجُمانْ
    (ب) -التنبيهُ على فضيلةِ العلمِ ، كقول الشاعر :
    واعلمْ، فَعِلْمُ الْمَرء يَنْفَعُهُ... أن سَوْفَ يأْتي كُلُّ ما قُدِرا
    (جـ) -التّنزيهُ ، كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل/57])
    (د) -زيادةُ التأكيد ، كقوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان/14])
    (هـ) -الاستعطافُ ، كقول المتنبي :
    وَخُفوقُ قَلْبٍ لَوْ رَأيتِ لَهِيبَهُ يا جَنّتي لَظَنَنْتِ فيهِ جَهَنّمَا
    (و) -التهويلُ ، نحو قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة/76])
    (7)- الإيغالُ ،وهو ختمُ الكلام ِبما يُفيد نُكتةً يتمُّ المعنى بدونها، كالمبالغةِ في قول الخنساء :
    وإنَّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ بهِ ... كأنَّهُ علمٌ في رأسهِ نارُ
    فقولها: «كأنه علمٌ» وافٍ بالمقصودِ، لكنها أعقبتُه بقولها « في رأسهِ نارٌ» لزيادةِ المبالغةِ، ونحو قوله تعالى : (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة/212]).
    (8)- التَّذْييلُ، وهوَ تَعقيبُ الجملِ بجمْلَةٍ أخْرَى تَشْتَمِلُ على مَعْنَاهَا تَوْكيدًا لها ، تأكيداً لمنطوق الأولى، أو لمفهومِها ، نحو قوله تعالى : (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء/81]).
    ونحو قوله تعالى :{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (17) سورة سبأ
    والتَّذييلُ قسمانِ: قسمٌ يستقلُّ بمعناهُ، لجريانهِ مجرى المثلِ، وقسمٌ لا يستقلُّ بمعناه، لعدم جريانه مجرَى المثلِ، فالأولُ الجاري مجرَى الأمثال، لاستقلالِ معناهُ، واستغنائهِ عما قبلَه كقولِ طرفةَ :
    كُلُّ خَلِيلٍ كنتُ خالَلْتُه ... لا تَرَكَ اللهُ لهُ واضِحَهْ
    كلُّهُمُ أَرْوَغُ منْ ثَعْلَبٍ ... ما أَشْبَهَ الليلةَ بالبارِحَه
    والثاني غيْرُ جَارٍ مجرَى المَثَل إن لَم يَسْتَغن عَما قَبلَهُ ، ولعدمِ استقلالهِ بإفادة المعنَى المراد، كقول النّابغة :
    لم يبقِ جودُكَ لي شيئاً أؤملُه ... تركتني أصحبُ الدنيا بلا أملِِ
    فالشطر الثاني مؤكدٌ للأولِ، وليسَ مستقلاً عنه، فلم يجرِ مجرَى المثلِ.
    (9)- الاحتراسُ، وَيَكُونُ حِيَنما يأتي المتكلمُ بمَعْنى يُمكِنُ أنْ يَدخلَ عَلَيْهِ فيه لَوْمٌ، فَيَفْطِنُ لذلكَ ويأتي بما يُخَلِّصُهُ منْهُ ، ويقالُ له التكميلُ ، سواءٌ أوقعَ الاحتراسُ في وسطِ الكلامِ،كقول طرَفةَ بن العبد :
    فسَقَى دِيَارَك غَيْرَ مُفْسِدِهَا ... صَوْبُ الرَّبِيعِ وَدِيمَةٌ تَهْمِي
    فقوله غيرَ مفسدِها: للاحتراسِ .
    أو وقعَ الاحتراسُ في آخرهِ، نحو قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) [الإنسان/8] أي: معَ حبِّ الطعامِ واشتهائهِم لهُ، وذلكَ أبلغُ في الكرمِ، فلفظُ على حبِّهِ فضلةُ للاحتراسِ ولزيادةِ التحسينِ في المعنَى، وكقولِ أعرابيةٍ لرجلٍ : (أذلَّ اللهُ كلَّ عدوٍّ لكَ إلا نفسَكَ).
    (10) - التَّتميمُ :وهو زيادةُ فضلةِ، كمفعولٍ أو حالٍ أو تمييزٍ أو جارٍ ومجرورٍ، توجِدُ في المعنَى حُسناً بحيثُ لو حذفتْ صارَ الكلامُ مبتذلاً كقول ابن المعتزِّ يصف فرساً :
    صَبَبْنَا علَيْهَا ظَالِمِينَ سِيَاطَنَا ... فطَارَتْ بها أَيْدٍ سِرَاعٌ وأَرجُلُ
    إذ لو حذفَ (ظالمينَ) لكانَ الكلامُ مُبتذلاً، لا رقَّةَ فيهِ ولا طلاوةَ، وتوهَّم أنها بليدةٌ تستحقُّ الضربَ، ويُستحسنُ الإطنابُ في الصلحِ بين العشائرِ، والمدحِ، والثناءِ، والذّمِ والهجاءِ، والوعظِ، والإرشادِ، والخطابةِ في أمرٍ من الأمورِ العامةِ، والتهنئةِ ومنشوراتِ الحكومةِ إلى الأمةِ، وكتبِ الولاةِ إلى الملوكِ، لإخبارهِم بما يحدثُ لديهم من مَهامِّ الأمورِ، وهناكَ أنواعٌ أخرى من الإطنابِ، كما تقولُ في الشيءِ المستبعدِ: رأيتُهُ بعيني، وسمعتُهُ بأذني، وذقتُه بفمي، تقولُ ذلك لتأكيدِ المعنَى وتقريرِه،وكقوله تعالى :(فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ) [النحل/26]، والسقف ُلا يخرُّ طبعاً إلا من فوقِ، ولكنهُ دلَّ بقولهِ (منْ فوقهِم) على الإحاطةِ والشمولِ
    واعلمْ أنِّ الأطنابَ أرجحُ عندَ بعضهِم منَ الإيجازِ، وحُجَتُه في ذلك أنَّ المنطقَ إنما هو البيانُ، والبيانُ لا يكونُ إلا بالإشباعِ، والإشباعُ لا يقعُ إلا بالإقناعِ، وأفضلُ الكلامِ أبينُهُ، وأبينُهُ أشدُّه ُإحاطةً بالمعاني ، ولا يحاطُ بالمعاني إحاطةً تامةً،إلا بالاستقصاءِ والإطنابِ.
    والمختارُ: أنَّ الحاجةَ إلى كلٍّ منَ الإطنابِ، والإيجازِ، ماسةٌ: وكلُّ موضعٍ لا يسدُّ أحدهُما مكانَ الآخرِ فيه ،وللذوقِ السليمِ القولُ الفصلُ في موطنِ كلٍّ منهُما.

    المبحثُ الثالث - في المُساواةِ
    *-تعريفُها : هي تأديةُ المعنى المرادِ بعبارةٍ مساويةٍ له، بأن تكونَ الألفاظ ُعلى قدر المعاني، لا يزيدُ بعضُها على بعضٍ، ولسنا بحاجةِ إلى الكلام على المساواةِ، فإنها هي الأصلُ المقيسُ عليه، والدستورُ الذي يُعتمدُ عليه، كقوله تعالى : (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة/110])، وكقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) [الطور/21] ،وكقوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم/44])، وكقوله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » ، فإنَّ اللفظ فيه على قدرِ المعنى، لا ينقصُ عنه، ولا يزيدُ عليهِ، وكقول طرفةَ بن العبد :
    سَتُبْدِي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهِلاً ... ويأْتِيكَ بالأَخْبارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
    هذه أمثلةٌ للمساواةٍ، لا يستغني الكلامُ فيها عن لفظٍ منه، ولو حُذفَ منه شيءٌ لأخلَّ بمعناهُ.
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 15:54

    البابُ الثاني - مواضعُ الفصلِ

    الأصلُ في الجملِ المتناسقةِ المتتاليةِ أنْ تعطفَ بالواوِ، تنظيماً للّفظٍ ، فأحياناً تتقاربُ الجُملُ في معناها تقارباً تامًّا، حتى تكونَ الجملةُ الثانيةُ كأنها الجملةُ الأولى، وقد تنقطعُ الصَّلةُ بينهما، إمَّا لاختلافهِما في الصورةِ، كأن تكونَ إحدى الجملتينِ إنشائيةً والأخرى خبريةً.وإمّا لتباعدِ معناهُما، بحيثُ لا يكونُ بين المعنيينِ مُناسبةٌ.
    وفي هذهِ الأحوالِ يجبُ الفصلُ في كلِّ موضعٍ من المواضعِ الخمسةِ الآتيةِ وهي:

    الموضعُ الأولُ - « كمالُ الاتصالِ» وهو اتحادُ الجملتيِن اتحاداً تاماً وامتزاجاً معنوياً ، بحيث تُنزَّلُ الثانيةُ من الأولى منزلةَ نفسِها كما في الحالات التالية :
    «أ»- بأنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ بمنزلةِ البدل من الجملة ِالأولى، نحو قوله تعالى : {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} (133) سورة الشعراء .
    « ب»- أو بأنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ بياناً لإبهامٍ في الجملةِ الأولى، كقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه/120] ، فجملةُ (قال يا آدمُ): بيانٌ لما وسوسَ به الشيطانُ إليه.
    «جـ»- أو بأنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ مؤكدةً للجملةِ الأولى بما يشبهُ أنْ يكونَ توكيداً لفظياً أو معنوياً، كقوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) [الطارق/17] ،وكقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة/8، 9])، فالمانعُ من العطفِ في هذا الموضعِ اتحادُ الجملتينِ اتحاداً تاماً يمنعُ عطفَ الشيءِ على نفسِه ، ويوجبُ الفصلَ.

    الموضعُ الثاني - « كمالُ الانقطاعِ» وهو اختلافُ الجملتينِ اختلافاً تاماً، كما في الحالتين الآتيتين :
    «أ»- بأنْ يختلفا خبراً وإنشاءً، لفظاً ومعناً، أو معنًى فقط، نحو: حضرَ الأميرُ حفظَهُ اللهُ، ونحو: تكلَّمْ إني مصغٍ إليكَ ، وكقول الشاعر :
    وَقَالَ رَائِدُهم أرْسُوا نُزَاوِلُهَا وكل حَتْفِ امرِئِ يجري بمقدارِ
    «ب»- أو بألا تكونَ بينَ الجملتينِ مناسبةٌ في المعنَى ولا ارتباطٌ، بل كلٌّ منهما مستقلٌّ بنفسِه ، كقولك: زيدٌ كاتبٌ ، الحمامُ طائرٌ، فإنه لا مناسبةَ بين كتابةِ زيدٍ وطيرانِ الحمامِ.
    وكقول الشاعر :
    إنّما المرءُ بأصغريهِ كلٌّ امرئٍ رهنٌ بما لديهِ
    فالمانعُ منَ العطفِ في هذا الموضع «أمرٌ ذاتيٌّ» لا يمكنُ دفعهُ أصلا ًوهو التباينُ بين الجملتينِ، ولهذا وجبَ الفصلُ، وترك َالعطفُ،لأنَّ العطفَ يكون للربطِ، ولا ربطَ بين جملتينِ في شدَّةِ التباعدِ وكمال الانقطاعِ.

    الموضعُ الثالثُ - « شبهُ كمالِ الاتصالِ» وهو كونُ الجملةِ الثانيةِ قويةَ الارتباطِ بالأولى، لوقوعِها جواباً عن سؤالٍ يفهمُ من الجملةِ الأولى فتُفصلُ عنها، كما يفصَلُ الجوابُ عن السؤال ، كقوله تعالى على لسان النبي يوسف عليه السلامُ: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ) [يوسف/53]، ونحو قول الشاعر :
    زعَمَ العَواذلُ أنني في غَمْرَةٍ ... صَدَقوا ولكنْ غْمَرتي لا تَنْجَلي
    كأنه سئلَ: أصدقوا في زعمهِم أم كذبوا ؟ فأجاب: صدَقوا
    ونحو قول أبي تمام :
    السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ في حدِّهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
    فكأنه استفَْهِمَ، وقال: لمَ كانَ السيفُ أصدقَ؟: فأجابَ بقولهِ: في حدِّه: الخ ،فالمانعُ من العطفِ في هذا الموضعِ وجودُ الرابطةِ القويةِ بين الجملتينِ، فأشبهتْ حالةَاتحادِ الجملتين ، ولهذا وجبَ أيضاً الفصلُ .

    الموضعُ الرابعُ- « شبهُ كمالِ الانقطاعِ» وهو أنْ تُسبقَ جملةٌ بجملتينِ يصحُّ عطفُها على الأولَى لوجودِ المناسبة، ولكنْ في عطفِها على الثانيةِ فسادٌ في المعنَى، فيُتركُ العطفُ بالمرَّةِ دفعاً لتوهّمِ أنه معطوفٌ على الثانيةِ ، نحو قول الشاعر :
    وتَظُنُّ سَلمى أنني أبغي بها ... بَدَلاً أراها في الضلال تهيمُ
    فجملةُ « أُراها» يصحُّ عطفُها على جملةِ « تظنُّ» لكنْ يمنعُ من هذا توهّمُ العطفِ على جملةِ « أبغي بها» فتكونُ الجملةُ الثالثةُ من مظنوناتِ سلمَى مع أنه غيرُ المقصودِ ، ولهذا امتنعَ العطفُ بتاتاً ،ووجبَ أيضاً الفصلُ ، والمانعُ من العطفِ في هذا الموضعِ « أمرٌ خارجيٌّ احتماليٌّ» يمكنُ دفعُه بمعونةِ قرينةٍ» .
    ومن هذا وممّا سبقَ، يُفهمُ الفرقُ بين كلٍّ منْ « كمالِ الانقطاعِ – وشبهِ كمالِ الانقطاعِ» .

    الموضعُ الخامسُ – التَّوسطُ بين الكمالينِ مع قيامِ المانعِ» وهو كونُ الجملتينِ مُتناسبتينِ، وبينهما رابطةٌ قويةٌ ، لكنْ يمنعُ منَ العطفِ مانعٌ، وهو عدمُ قصدِ التشريكِ في الحُكم ، كقوله تعالى :{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[البقرة/14، 15]،
    فجملةُ « اللهُ يستهزئُ بهم» لا يصحُّ عطفُها على جملةِ « إنّا معكم» لاقتضائهِ أنه منْ مقولِ المنافقينِ ، والحالُ أنهُ من مقولِهِ تعالى « دعاءً عليهِم» ولا على جملةِ « قالوا» لئلا يُتوهمَ مشاركتهُ له في التقييدِ بالظرفِ ، وأنَّ استهزاءَ اللهِ بهم مقيدٌ بحالِ خُلوّهِم إلى شياطينِهم ، والواقعُ أن استهزاءَ اللهِ بالمنافقينَ غيرُ مقيدٍ بحال ٍمن الأحوالِ ، ولهذا وجبَ أيضاً الفصلُ .

    *-تنبيهانِ :
    الأولُ – لمّا كانتِ الحالُ تجيءُ جملةً، وقد تقترنُ بالواو، وقد لا تقترنُ، فأشبهتِ الوصلَ والفصلَ، ولهذا يجبُ وصلُ الجملةِ الحاليةِ بما قبلها بالواو إذا خلتْ من ضميرِ صاحبتِها ، نحو: جاءَ فؤادٌ والشَّمسُ طالعةٌ .
    ويجبُ فصلُها في ثلاثةِ مواضعَ :
    (1)- إذا كان فعلُها ماضياً تالياً « إلا» ، أو وقعَ ذلك الماضي قبل «أو» التي للتسوية ِ، نحو:ما تكلّمَ فؤادٌ إلا قالَ : خيراً ، وكقول الشاعر :
    كُنْ لِلخَليلِ نَصيراً، جارَ أوْ عَدَلاَ ... وَلاَ تَشُحَّ علَيْهِ. جادَ أَوْ بَخِلاَ
    (2)- إذا كان فعلُها مضارعاً مُثبتاً أو منفياً « بما – أو – لا» ، نحو قوله تعالى : (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ ) [يوسف/16] ،ونحو قوله تعالى : (وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ ) [المائدة/84] ونحو قول الشاعر :
    عَهْدْتُكَ ما تَصْبُو، وفيكَ شَبيبةٌ .... فَما لَكَ بَعْدَ الشَّيْبِ صَبًّا مُتَيَّما؟
    (3)- إذا كانتْ جملةً اسميةً واقعةً بعد حرفِ عطفٍ ، أو كانتِ اسميةً مؤكِّدةً لمضمونِ ما قبلها ، كقوله تعالى :(فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ) [الأعراف/4] ،وكقوله تعالى : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) [البقرة/2] .
    الثاني – عُلِمَ مما تقدّمَ أنَّ منْ مواضعِ الوصلِ اتفاقَ الجملتينِ في الخبريةِ والإنشائية ، ولابدَّ مع اتفاقهِما من جهةِ بها يتجاذبانِ، وأمرٍ جامعٍ بهِ يتآخذانِ، وذلك الجامعُ : إمَّا عقليٌّ ،نحو: زيدٌ يصلِّي ويصومُ ، أو وهميٌّ ، كشبهِ التماثلِ الذي بين نحوِ لوني البياض والصفرة ، أو: خياليٌّ: كالقلم والدواة، والقرطاس في خيال الكاتبِ
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 16:16

    البابُ الثالثُ
    علمُ البيانِ

    *-البيانُ لغةً : الكشفُ، والإيضاحُ، والظهُّورُ
    واصطلاحاً: أصولٌ وقواعدُ، يعرفُ بها إيرادُ المعنَى الواحدِ، بطرقٍ يختلفُ بعضُها عن بعضٍ، في وُضوحِ الدّلالةِ العقليةِ على نفسِ ذلك المعنَى، فالمعنَى الواحدُ يُستطاعُ أداؤهُ بأساليبَ مُختلفةٍ، في وضوحِ الدّلالةِ عليه فإنكَ تقرأُ في بيانِ فضلِ العلمِ - مثلا – قولَ الشاعر :
    العلمُ ينهضُ بالخسيسِ إلى العلَى والجهلُ يقعدُ بالفتَى المنسوبِِ
    وكقول الشاعر :
    تَعَلَّمْ، فَلَيْسَ المَرْءُ يُولَدُ عالِماً ... ولَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كمَنْ هو جاهِلُ
    ثمَّ تقرأُ في المعنى نفسِه،ما نسبَ للإمامِ عليٍّ رضي الله عنه : العلمُ نهرٌ، والحكمةُ بحرٌ، والعلماءُ حولَ النهّرَ يطوفونَ،والحكماءُ وسطَ البحرِ يغوصونَ، والعارفونَ في سفنِ النّجاةِ يسيرونَ.
    فتجدُ أنَّ بعضَ هذه التراكيبَ أوضحُ من بعضٍ، كما تراه يضعُ أمام عينيكَ مشهداً حسياً، يقرَّبُ إلى فهمك ما يُريدُ الكلام عنه من فضلِ العلمِ.
    فهو: يشبِّههُ بنهرٍ، ويشبِّهُ الحكمةَ ببحرِ.
    ويصورُ لك أشخاصاً طائفين حول ذلك النهرِ همُ العلماءُ.
    ويصورُ لك أشخاصاً غائصينَ وسطَ ذلك البحر ِهمُ الحكماءُ.
    ويصورُ لك أشخاصاً راكبين سفناً ماخرةً في ذلك البحرِ للنجاةِ من مخاطرِ هذا العالمِ هم أربابُ المعرفةِ.
    ولا شكَّ أنَّ هذا المشهدَ البديعَ يستوقفُ نظركَ، ويستثيرُ إعجابكَ من شدَّةِ الرَّوعةِ والجمالِ المُستمدَّةِ من التشبيهِ، بفضل البيانِ الذي هو سرُّ البلاغةِ.
    *- وموضوع ُ هذا العلمِ: الألفاظُ العربيةُ، من حيثُ التشبيهُ، والمجازُ، والكنايةُ.
    *- وواضعُهُ: أبو عبيدةَ الذي دَوّنَ مسائلَ هذا العلمِ في كتابهِ المُسمَّى مجازَ القرآنِ، وما زال ينمو شيئاً فشيئاً، حتى وصلَ إلى عبد القاهر الجرجانيِّ فأحكمَ أساسَهُ، وشيَّدَ بناءَه، ورتَّبَ قواعدَهُ، وتبعَهٌ الجاحظُ، وابنُ المعتزّ وقُدَامةُ بن جعفر وأبو هلالٍ العسكريِّ.
    *- وثمرتُهٌ: الوقوفُ على أسرارِ كلامِ العربِ منثورِه ومنظومِه ،ومعرفةُ ما فيه من تفاوتٍ في فنونِ الفصاحةِ، وتبايُنٍ في درجاتِ البلاغةِ التي يصلُ بها إلى مرتبةِ إعجازِ القرآنِ الكريمِ، الذي حارَ الجنُّ والإنسُ في مُحاكاتهِ وعجزوا عن الإتيانِ بمثلهِ.
    وفي هذا الفنِّ أبوابٌ ومباحثُ.

    الفصلُ الأولُ - في التشبيهِ

    *-تمهيدٌ :
    للتّشبيهِ روعةٌ وجمالٌ، وموقعٌ حسنٌ في البلاغةِ، وذلكَ لإخراجهِ الخفيَّ إلى الجليِّ، وإدنائهِ البعيدَ منَ القريبِ، يزيدُ المعاني رفعةً ووضوحاً، ويكسبُها جمالاً وفضلاً، ويكسوها شرفاً ونُبلاً، فهو فنٌّ واسعُ النطاقِ، فسيحُ الخطوِ، ممتدُ الحواشي، مُتَشعبُ الأطرافِ ، مُتوعرُ المسلكِ، غامضُ المدركِ، دقيقُ المجرَى ،غزيرُ الجدَوى.
    ومنْ أساليبِ البيانِ أنكَ إذا أردتَ إثباتَ صفةٍ لموصوفٍ، مع التوضيحِ، أو وجهٍ من المبالغةِ، عمدتَ إلى شيءٍ آخرَ، تكونُ هذه الصفةُ واضحةً فيه، وعقدتَ بين الاثنينِ مماثلةً، تجعلُها وسيلةً لتوضيحِ الصفةِ، أو المبالغةِ في إثباتها ، لهذا كان التشبيهُ أولَ طريقةٍ تدلُّ عليهِ الطبيعةُ لبيانِ المعنَى.
    *-تعريفُ التشبيهِ :
    التشبيهُ: لغةً التمثيل ُ ، قالَ: هذا شبهُ هذا ومثيلُه .
    والتشبيهُ اصطلاحاً: عقدُ مماثلةٍ بينَ أمرينِ أو أكثرَ ، قصِدَ اشتراكهُما في صفةٍ أو أكثرَ، بأداةٍ لغرضٍ يقصُدهُ المتكلِّمُ للعلمِ، قال المَعَرِّى في الْمَديح :
    أَنْتَ كالشَّمْس في الضِّياءِ وإِن جا … …وَزْتَ كيوانَ فِي عُلُوّ المكانِ
    وأركانُ التشبيهِ أربعةٌ:
    (1)- المُشبَّهُ: هو الأمر ُالذي يُرادُ إلحاقَهُ بغيرهِ ،
    (2)- المُشبَّهُ به: هو الأمرُ الذي يُلحَقُ بهِ المشبَّهُ، وهذانِ الركنانِ يسميانِ طرفي التشبيهِ .
    (3)- وجهُ الشبهِ: هو الوصفُ المشترَكُ بينَ الطرفينِ، ويكونُ في المشبَّهِ به أقوَى منهُ في المشبَّهِ ، وقد يُذكرُ وجهُ الشَّبهِ في الكلامِ، وقد يُحذَفُ كما سيأتي توضيحُه.
    (4)- أداة ُالتَّشبيهِ: هي اللفظُ الذي يدلُّ على التشبيهِ، ويربطُ المشبَّهَ بالمشبَّهِ به، وقد تَُذكرُ الأداةُ في التشبيهِ، نحو: كان عمرُ في رعيَّتهِ كالميزان ِفي العدلِ، وكان فيهم كالوالدِ في الرحمةِ والعطفِ.
    وقدْ تحذفُ الأداةُ ، نحو: خالدٌ أسدٌ في الشجاعةِ.

    المبحثُ الأولُ -في تقسيمِ طرفي التشبيهِ إلى حِسيٍّ وعقليٍّ :
    طرفا التشبيهِ، المشبَّهُ والمشبَّهُ به.
    إمَّا حسيَّانِ ،أي مدركانِ بإحدى الحواسِّ الخمسِ الظاهرةِ، نحو: أنتَ كالشمسِ في الضياءِ.
    وإمَّاعقليانِ ،أيْ مدركانِ بالعقلِ، نحو: العلمُ كالحياةِ، ونحو: الضلالُ عن الحقِّ كالعمَى ونحو: الجهلُ كالموتِ.
    وإمَّامختلفانِ ، بأنْ يكونَ المشبَّهُ حسيٌّ، والمشبَّهُ بهِ عقليٌّ، نحو: طبيبُ السوءِ كالموتِ، أو بأنْ يكونَ المشبَّهُ عقليٌّ والمشبَّهُ به حسيٌّ، نحو : العلمُ كالنورِ.
    واعلمْ أنَّ العقليَّ هو ما عدا الحسيِّ، فيشملُ المدركُ ذهناً: كالرأيِ، والخلقِ، والحظِّ، والأملِ، والعلمِ، والذكاءِ، والشجاعةِ.
    ويشملُ أيضاً الوهميَّ، وهو ما لا وجودَ لهُ، ولا لأجزائهِ كلِّها، أو بعضِها في الخارجِ، ولو وُجدَ لكانَ مدركاً بإحدَى الحواسِّ.
    ويشملُ الوجدانيَّ: وهو ما يدركُ بالقوى الباطنةِ، كالغمِّ، والفرحِ، والشبعِ، والجوعِ، والعطشِ، والريِّ.
    فالحسيانِ يشتركانِ في الأمور التالية :
    1 - في صفةٍ مبصرةٍ، كتشبيهِ المرأةِ بالنهارِ في الإشراقِ، والشَّعرِ بالليلِ في الظلمةِ والسوادِ، كما في قولِ الشاعر :
    فرعاءُ تسحبُ من قيامٍ شعرَها وتغيبُ فيهِ وهو ليلٌ أسحمُ
    فكأنها فيه نهارٌ مشرقٌ وكأنه ليلٌ عليها مظلِمُ
    2 - أو في صفةٍ مسموعةٍ، نحو: غرَّدَ تغريدَ الطيورِ، ونحو: سجعَ سجعَ القمريِّ ،ونحو:أنِّ أنينَ الثكلَى، ونحو: أسمعُ دويًّا كدويِّ النحلِ، وكتشبيهِ إنقاض الرحلِ بصوتِ الفراريجِ في قول الشاعر :
    كَأَنَّ أَصْوَاتَ مِنْ إِيغَالِهِنَّ بِنَا أَوَاخِرِ الْمَيْسِ إِنْقَاضُ الْفَرَارِيجِ
    وكتشبيهِ الأصواتِ الحسنةِ في قراءة القرآن الكريمِ بالمزاميرِ.
    3- أو في صفةٍ مذوقةٍ، كتشبيهِ الفواكهِ الحلوةِ بالعسلِ
    4 - أو في صفةٍ ملموسةٍ، كتشبيهِ الجسمِ بالحريرِ ، كما في قول ذي الرمة :
    لها بَشَرٌ مثلُ الحَريرِ ومَنْطِقٌ ... رَخِيمُ الحَوَاشِي لا هُرَاءٌ ولا نَزْرُ
    6- أو في صفةٍ مشمومةٍ، كتشبيهِ الريحان بالمسكِ، والنكهةِ بالعنبرِ.

    المبحث الثاني -في تقسيم طرفي التشبيهِ: باعتبارِ الإفرادِ، والتركيبِ
    طرفا التشبيهِ، المشبَّهُ والمشبَّهُ به:
    1 - إمَّا مفردانِ مطلقانِ ، نحو: ضوءُهُ كالشمسِ،وخدُّه ُكالوردِ.
    أو مقيَّدانِ ،نحو: الساعي بغيرِ طائل ٍ كالرَّاقمِ على الماءِ.
    أو مختلفان ،ِنحو: ثَغرهُ كاللؤلؤِ المنظومِ، ونحو: العين ُالزرقاءُ كالسنانِ.
    وإمَّا مركبانِ تركيباً لم يمكنْ إفرادُ أجزائهما، بحيثُ يكون المركَّبُ هيئةً حاصلةً من شيئينِ، أو منْ أشياءَ تلاصقتْ حتى اعتبرها المتكلِّمُ شيئاً واحداً، وإذا انتُزعَ الوجهُ من بعضِها دون بعضٍ، اختلَّ قصدُ المتكلِّمِ من التشبيهِ، كقول الشاعر :
    كأنّ سُهَيْلاً والنجومَ أمامَهُ ... يعارِضُها راعٍ وراءَ قَطِيع
    إذا قيل: كأن سهيلا أمام، وكأن النجوم قطيعٌ، لذهبتْ فائدة ُالتشبيهِِ.
    2 - أو مركبانِ تركيباً إذا أُفردتْ أجزاؤهُ زالَ المقصودُ من هيئة ِ«المشبَّهِ بهِ» ،كما ترى في قول الشاعر الآتي حيثُ شبَّهَ النجومَ اللامعةَ في كبدِ السماءِ، بدرِّ منتثرٍ على بساطٍ أزرقَ.
    وكأنَّ أجرامَ السماء لوامعا دررٌ نثرن على بساط أزْرق
    إذ لو قيلَ: كأنَّ النجومَ دُررٌ، وكأنَّ السماءَ بساطٌ أزرقُ، كان التشبيهُ مقبولاً، لكنهُ قد زالَ منه المقصودُ بهيئةِ المشبَّهِ به.
    3 - وإمَّا مفردٌ بمركبٍ: كقول الخنساء :
    أغرُّ أبلجُ تأتمُّ الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ
    4- وإمَّا مركَّبٌ بمفردٍ، نحو: الماءُ المالحُ كالسُّمِّ .
    واعلمْ أنهُ متى رُكِّبَ أحدُ الطرفينِ لا يكادُ يكون الآخرُ مفرداً مطلقاً، بل يكونُ مركباً،أو مفرداً مقيَّداً، ومتى كان هناك تقييدٌ أو تركيبٌ كان الوجهُ مركباً،ضرورةَ انتزاعه من المركَّبِ، أو من القيد والمقيَّد.

    المبحثُ الثالث -في تقسيم طرفي التشبيه: باعتبار تعددهما
    ينقسِمُ طرفا التشبيهِ، المشبَّهِ والمشبَّهِ به باعتبارِ تعدُّدِهما، أو تعدُّدِ أحدهِما،إلى أربعةِ أقسامٍ: ملفوفٌ، ومفروقٌ، وتسويةٌ، وجمعٌ.
    1 - فالتشبيهُ الملفوفُ: هو جمعُ كلِّ طرفٍ منهما مع مثلِه، كجمعِ المشبَّهِ مع المشبَّهِ، والمشبَّهِ به معَ المشبَّهِ به، بحيثُ يؤتَى بالمشبَّهاتِ معاً على طريقِ العطفِ، أو غيره، ثم يؤتَى بالمشبَّهات بها كذلك أو بالعكسِ ،كقول الشاعر :
    ليلٌ وبدرٌ وغصنٌ شعرٌ ووجهٌ وقدَُّ
    خمرٌ ودرٌّ و وردٌ ريقٌ وثغرٌ وخدُّ
    وكقول البحتريِّ :
    تَبَسّمٌ، وَقُطوبٌ، في نَدًى وَوَغًى، كالبرْقِ وَالرّعدِ وَسطَ العارِض البرِدِ
    وكقول الشعر :
    وضوء الشهب فوق الليل باد كأطراف الأسنة في الدروع
    فإنَّ المشابهةَ بين الكواكبِ والأزهارِ لا تغيبُ عن كثيرٍ من الناس، أما التشابهُ بين النجومِ وبين أطرافِ الأسنَّةِ اللامعةِ عند نفوذِها في الدروعِ لا يحومُ عليه إلا خيالٌ بارعٌ .
    2 - والتشبيهُ المفروقُ: هو جمعُ كلِّ مشبَّهٍ مع ما شُبِّهَ به، كقول الشاعر :
    النَّشْرُ: مِسْكٌ والوُجُوهُ دَنَا ... نِيرُ وأَطْرَافُ البَنَانِ عَنَمْ
    3 - وتشبيهُ التسويةِ: هو أن يتعددَ المشبَّهُ دون المشبَّهِ به ،كقول الشاعر :
    صُدْغُ الحَبيبِ وحالِي ... كِلاهُمَا كاللَّيَالي
    وثغرهُ في صفاءٍ ... وأدمعي كاللآلي
    سميَ بذلك: للتسويةِ فيه بين المشبَّهاتِ.
    4 - والتشبيهُ الجمعٌ: هو أن يتعددَ المشبَّهُ به دون المشبَّهِ، كقول البحتريِّ :
    كأنما يبسمُ عن لؤلؤٍ ... مُنَضُّدٍ أو بَرَدٍ أو أقاحْ
    سميَ بتشبيهِ الجمعِ للجمعِ فيه بين ثلاثِ مشبَّهاتٍ به ،وكقول الشاعر :
    بدَا ورَنَتْ لواحظُهُ دلالاً ... فما أَبهى الغَزالَةَ والغَزَالا

    المبحث الرابعُ- في تقسيمِ التشبيهِ باعتبارِ وَجهِ الشَّبهِوجهُ الشبهِ: هو الوصفُ الخاصُّ الذي يقصَدُ اشتراكُ الطرفين فيه، كالكرم في نحو: خليلٌ كحَاتِم، ونحو: له سيرةٌ كالمسكِ، وأخلاقُه كالعنبرِ.
    واشتراكُ الطرفينِ قد يكون ادِّعائياً بتنزيلِ التضادِّ منزلةَ التناسبِ، وإبرازِ الخسيسِ في صورةِ الشريفِ تهكُّماً أو تمليحاً ،ويظهرُ ذلك مِنَ المقامِ.
    وينقسمُ التشبيهُ باعتبارِ وجهِ الشبَّهِ إلى:
    1 - تشبيهُ تمثيلٍ: وهو ما كان وجهُ الشبَّهِ فيه وصفاً منتزَعاً من متعددٍ، حسِّياً كان أو غيرَ حسِّيٍّ، كقول الشاعر لبيد :
    وما المَرْءُ إِلاَ كالشِّهَابِ وضَوْئِهِ ... يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذْ هُوَ ساطِعُ
    فوجهُ الشبَّهِ سرعةُ الفناءِ انتزعَهُ الشاعرُ من أحوالِ القمرِ المتعددةِ، إذ يبدو هلالاً، فيصيرُ بدراً، ثم ينقصُ، حتى يدركَه المحَاقُ.ويسمَّى تشبيه التمثيل.
    2 -تشبيهٌ غيرُ تمثيلٍ: وهو ما لم يكنْ وجهُ الشبَّهِ فيه صورةً منتزعةً من متعددٍ، نحو: وجهُه كالبدرِ، ومثل قول الشاعر :
    لا تَطْلُبَنَّ بآلة لَكَ حاجةً … قَلمُ البليغ بغيْر حظٍّ مِغْزَلُ
    فوجهُ الشبَّهِ قلةُ الفائدةِ، وليسَ منتزعاً من متعددٍ.
    3 - مفصَّلٌ: وهو ما ذكر فيه وجهُ الشبَّهِ، أو ملزومُهُ، نحو: طبعُ فريدٍ كالنسيمِ رقَّةً، ويدُهُ كالبحرِ جوداً، وكلامُه كالدرِّ حسناً، وألفاظُهُ كالعسلِ حلاوةً، ومثل قول الشاعر :
    يا شبيهَ البدرِ حُسْناً ... وضياءً ومنالا
    وشبيهَ الغُصنِ ليناً ... وقواماً واعتدالا
    4 -مجمَلٌ: وهو مالا يذكَرُ فيهِ وجهُ الشبَّهِ، ولا ما يستلزمُه، نحو: النحوُ في الكلامِ كالملحِ في الطعامِ.
    فوجهُ الشبَّهِ هو الإصلاحُ في كلٍّ، ومثل قول الشاعر :
    إنما الدنيا بلاء ... ليس لدينا ثبوتُ
    إنما الدنيا كبيتٍ ... نسجتُه العنكبوتُ
    إنما يكفيك منها ... أيها الراغبُ قوتُ
    واعلمْ أنَّ وجهَ الشبَّهِ المجملِ: إمَّا أنْ يكونَ خفيًّا، وإمَّا أنْ يكونَ ظاهراً، ومنه ما وصِفَ فيه أحدُ الطرفينِ أو كلاهُما بوصفٍ يشعرُ بوجهِ الشبَّهِ، ومنه ما ليسَ كذلك.
    5 -قريبٌ مبتذَلٌ: وهو ما كان ظاهرُ الوجهِ يَنتقلُ فيه الذهنُ من المشبَّهِ إلى المشبَّهِ به، من غيرِ احتياجٍ إلى شدةِ نظرٍ وتأملٍ، لظهورِ وجهِه بادئَ الرأيِ،وذلك لكونِ وجهُهُ لا تفصيلَ فيه: كتشبيهِ الخدِّ بالوردِ في الحمرةِ، أو لكونِ وجهُهُ قليلَ التفصيلِ، كتشبيهِ الوجهِ بالبدرِ في الإشراق أو الاستدارةِ، أو العيونِ بالنرجسِ.
    وقد يتصرَّفُ في القريبِ بما يخرجُه عن ابتذالهِ إلى الغرابةِ، كقول الشاعر :
    لم تَلْقَ هَذا الوَجْهَ شَمسُ نَهارِنَا إلاّ بوَجْهٍ لَيسَ فيهِ حَيَاءُ
    فإنَّ تشبيهَ الوجهِ الحسنِ، بالشَّمسِ: مبتذلٌ، ولكنَّ حديثَ الحياءِ أخرجه إلى الغرابةِ.
    وقد يخرجُ وجهُ الشبَّهِ من الابتذالِ إلى الغرابةِ، وذلك بالجمعِ بين عدةِ تشبيهاتٍ، كقول الشاعر :
    كأنما يبسمُ عن لؤلؤٍ ... مُنَضُّدٍ أو بَرَدٍ أو أقاحْ
    أو باستعمالِ شرطٍ، كقول الشاعر :
    عَزَماتهُ مِثْلُ النُّجُوم ثَواقِباً ... لو لم يكن للثَّاقِبَاتِ أفُولُ
    6 - بعيدٌ غريبٌ: وهو ما احتاجَ في الانتقالِ من المشبَّهِ إلى المشبَّهِ به، إلى فكرٍ وتدقيقِ نظرٍ، لخفاءِ وجهِه بادئَ الرأي ، كقول ابن المعتزِا :
    والشَّمْسُ كالمِرْآة في كَفِّ الأَشَلّْ مُقَلدَّاتِ القِدِّ يَقْرُونَ الدَّغَلْ
    فإنَّ الوجهَ فيه: هو الهيئةُ الحاصلةُ من الاستدارةِ مع الإشراقِ، والحركةُ السريعةٌ المتصلةُ مع تموِّج الإشراقِ، حتى ترى الشعاعَ كأنه يهمُّ بأنْ ينبسطَ حتى يفيضَ من جوانبِ الدائرةِ; ثم يبدو له فيرجعُ إلى الانقباضِ.
    وحكمُ وجهِ الشبهِ أنْ يكونَ في المشبَّهِ به أقوى منهُ في المشبَّهِ، وإلا فلا فائدةَ في التشبيهِ.

    المبحثُ الخامسُ- في التشبيه التمثيليِّ*-تشبيهُ التمثيلِ: أبلغُ من غيره، لما في وجههِ من التفصيلِ الذي يحتاجُ إلى إمعانِ فكرٍ، وتدقيقِ نظرٍ، وهو أعظمُ أثراً في المعاني: يرفعُ قدرها، ويضاعفُ قواها في تحريكِ النفوس لها، فإنْ كان مدحاً كان أوقعَ، أو ذمًّا كان أوجعَ، أو بُرهانا كان أسطعَ، ومن ثَمَّ يحتاجُ إلى كدِّ الذهنِ في فهمِه، لاستخراجِ الصورةِ المنتزعَة من أمورٍ متعدِّدةٍ، حسِّيةٍ كانتْ أو غيرَ حسِّيةٍ، لتكوِّنَ (وجهَ الشبهِ) – كقول الشاعر :
    ولاحتِ الشمسُ تحكي عند مطلعِها مرِآةَ تبرٍ بدتْ في كفِّ مرتعِشِ
    فمثّلَ الشمسَ حين تطلُع حمراءً لامعةً مضطربةً، بمرآةٍ من ذهبٍ تضطربُ في كفِّ ترتعِشُ.
    وتشبيهُ التمثيلِ نوعانِ:
    الأولُ- ما كانَ ظاهرَ الأداةِ، نحو قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) [الجمعة/5] فالمشبَّهُ: همُ الذين حُمّلوا التوراةَ ولم يعقلوا ما بها: والمشبَّهُ به (الحمارُ) الذي يحملُ الكتبَ النافعةَ، دونَ استفادتهِ منها، والأداةُ الكافُ، ووجهُ الشبَّهِ (الهيئةُ الحاصلةُ منَ التعبِ في حملِ النافعِ دونَ فائدةٍ.
    الثاني- ما كانَ خفيَّ الأداةِ: كقولكَ للذي يتردّدُ في الشيء بينَ أن يفعلَهُ، وألاّ يفعلَهُ (أراكَ تقدِّمُ رِجلاً وتُؤخِّرُ أخرَى) ، إذِ الأصلُ أراكَ في ترددكَ مثلَ مَنْ يقدِّم ُرجلاً مرةً، ثم يؤخّرُها مرة ًأخرى، فالأداةُ محذوفةٌ، ووجهُ الشبهِ هيئةُ الإقدامِ والإحجامِ المصحوبينِ بالشَكَِّ.

    *- مواقعُ تشبيهِ التمثيلِ:
    لتشبيهِ التمثيلِ موقعانِ:
    (1)- أنْ يكونَ في مفتتحِ الكلامِ، فيكونُ قياساً موضِّحاً، وبرهانا مصاحِباً، وهو كثيرٌ جدًّاً في القرآن، نحو قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ [البقرة/261]).
    (2)- ما يجيءُ بعد تمامِ المعاني، لإيضاحِها وتقريرِها، فيُشبهُ البرهانَ الذي تثبتُ بهِ الدَّعوى، نحو قول الشاعر لبيد :
    وما المالُ والأَهْلوُنَ إلاّ وَدائِعٌ ... ولا بدَّ يوماً أَنْ تُرَدَّ الوَدائِعُ
    ونحو قول الشاعر :
    لا ينزلُ المجدُ في منازلنا كالنّومِ ليسَ له مأوَى سوى المقَلُ

    *- تأثيرُ تشبيهِ التمثيلِ في النفسِ :
    إذا وقعَ التمثيلُ في صدر القولِ: بعثَ المعنى إلى النفسِ بوضوحٍ وجلاءٍ مؤيَّدٍ بالبرهانِ، ليقنعَ السامعَ ، وإذا أتى بعد استيفاءِ المعاني كانَ :
    (1)- إمَّا دليلاً على إمكانِها، كقول المتنبي :
    وما أنا مِنْهُمُ بالعَيشِ فيهم ولكنْ مَعدِنُ الذّهَبِ الرَّغامُ
    لما ادَّعى أنه ليس منهم مع إقامتِه بينهم، وكان ذلك يكادُ يكونُ مستحيلاً في مجرى العادةِ، ضربَ لذلك المثلَ بالذهبِ، فإنَّ مقامَه في الترابِ، وهو أشرفُ منهُ .
    (2)- وإمَّا تأييداً للمعنَى الثابتِ، نحو قول أبي العتاهية :
    تَرجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ مَسالكهَا ... إنَّ السفينةََ لا تَجْري عَلَى اليَبَس
    وعلةُ هذا: أنَّ النفسَ تأنسُ إذا أخرجتَها من خفيٍّ إلى جليٍّ، ومما تجهلُه إلى ما هيَ به أعلمُ
    ولذا تجدُ النفسُ منَ الأريحيةِ ما لا تقدُر قدرهُ، إذا سمعتْ قول أبي تمام :
    وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ ...... لدِيباجَتَيهِ فاغتَرِبْ تَتَجَدَّدِ
    فإنّي رَأيتُ الشّمسَ زيدتْ مَحَبَّةً ... إلى النّاسِ أنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ بِسَرْمَدِ
    وبعدُ:
    فالتمثيلُ يكسبُ القولَ قوةً، فإنْ كان في المدح كانَ أهزَّ للعطفِ، وأنبلَ في النفسَ ، وإنْ كان في الذمِّ كان وقعُه أشدَّ، وإنْ كان وعظاً كان أشفَى للصدرِ، وأبلغَ في التنبيهِ والزجرِ، وإنْ كان افتخاراً كان شأوهُ أبعدَ، كقول مَنْ وصفَ كأساً علاها الحبابُ :
    وكأنها وكأنَّ حاملَ كأسِها إذ قام يجلوها على الندماءِ
    شمسُ الضُّحى رقصتْ فنقَّطَ وجهُها بدرُ الدُّجى بكواكبِ الجوزاءِ


    المبحثُ السادس – في أدوات التشبيه
    *-أدواتُ التشبيهِ : هي ألفاظٌ تدلُّ على المماثلةِ وهي مؤلفة من حرفِ واسمِ وفعلِ :
    1. الحرفُ وهو الكافُ وكأنَّ
    2. الاسمُ كمثلِ ومثيلِ وشبهِ وشبيهِ وغيرهِما
    3. الفعلُ ك يحكي، ويضاهي ،ويضارع، ويماثل ،ويساوي، ويشابه، وكذا أسماءُ فاعلها.
    وهي إمَّا ملفوظةٌ، وإمَّا ملحوظةٌ، نحو جمالُه كالبدرِ، وأخلاقُه في الرقةِ كالنَّسيمِ، ونحو اندفعَ الجيشُ اندفاعَ السيلِ، أي كاندفاعِه.
    الأصلُ في الكافِ، ومثلُ، وشبهُ، من الأسماءِ المضافة لما بعدها أن يليها المشبَّهُ به لفظاً أو تقديراً،نحو قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (23) سورة الواقعة، ونحو قوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } (24) سورة الرحمن ،وكقول الشاعر :
    فَالوَجهُ مثل الصُبحِ مبيضٌ والفَرعُ مِثلَ اللَيلِ مُسوَدُّ
    ضِدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ
    والأصل ُفي كأنَّ، وشابهَ، وماثلَ، وما يرادفها، أنْ يليه المشبَّهُ، نحو قوله تعالى : {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} (24) سورة الطور، وقوله تعالى : {تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} (20) سورة القمر . وقوله تتعالى : {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} (50) سورة المدثر ، وقوله تعالى : {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } (65) سورة الصافات،و مثل قول الشاعر :
    كأنَّ الثُرَيَّا راحَة ٌ تَشُبرُ الدُّجى لتعلمَ طالَ اللَّيلُ لي أَم تعرَّضا
    وكأنّ تفيدُ التشبيهَ إذا كانَ خبرُها جامداً، نحو: كأنَّ البحرَ مرآةٌ صافيةٌ.
    وتفيد الشكَّ إذا كان خبرُها مشتقًّاً، نحو: كأنكَ فاهمٌ، ومثل قول الشاعر :
    كأنكَ منْ كلِّ النفوسِ مُركبٌ ... فأنتَ إلى كلِّ النفوسِ حبيبُ
    وقد يغني عن أداةِ التشبيهِ فعلٌ يدلُّ على حال التشبيهِ، ولا يعْتبرُ أداةً ،فإنْ كان الفعلُ لليقين، أفادَ قربَ المشابهةِ، لما في فعلِ اليقينِ من الدلالة على تيقنِ الاتحادِ وتحققهِ، وهذا يفيد التشبيهَ مبالغةً، نحو قوله تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (24) سورة الأحقاف، ونحو: رأيت ُالدنيا سراباً غرّاراً.
    وإنْ كانَ الفعلُ للشكِّ أفادَ بُعدَها، لما في فعلِ الرجحانِ من الإشعارِ بعدمِ التحققِ، وهذا يفيد التشبيهُ ضعفاً،
    كقوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا } (19) سورة الإنسان .
    ونحو قول الشاعر :
    قومٌ إذا لبسوا الدروعَ حسبْتَها سُحُباً مزرَّرة ً على أقمارِ


    المبحث السابعُ -في تقسيم التشبيهِ باعتبار أداتهِ

    ينقسمُ التشبيهُ باعتبار أداتهِ إلى:
    أ - التشبيهُ المرسَلُ: هو ما ذكرِتْ فيه الأداةُ، كقول الشاعر :
    إنما الدنيا كبيتٍ ... نسجتْهُ العنكبوتُ
    ب ـ التشبيهُ المؤكَّدُ: هو ما حذفتْ منه أداته، نحو: يسجعُ سجعَ القمريِّ ،وكقول الشاعر :
    أَنْتَ نجْمٌ في رِفْعةٍ وضِياءٍ تجْتَليكَ الْعُيُونُ شَرْقاً وغَرْبا
    ومن المؤكدِ ما أضيفَ فيه المشبَّهُ به إلى المشبَّه، كقول الشاعر :
    وَالرِّيحُ تَعبَثُ بِالْغُصُونِ، وقَدْ جَرَى ... ذَهَبُ الأَصيلِ عَلى لُجَيْنِ الْمَاءِ
    أي أصيلٌ كالذهبِ على ماءِ كاللجَين.
    والمؤكَّدُ أوجزُ، وأبلغ، وأشدُّ وقعاً في النفس.أما أنه أوجز فلحذف أداته، وأما أنه أبلغ فلإيهامه أن المشبه عين المشبَّهِ به.
    ج-التشبيهُ البليغُ :هو ما حُذفتْ فيه أداةُ التشبيهِ ووجهُ الشبَّهِ، نحو قوله تعالى:{ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } [البقرة/187] وكقول الشاعر :
    فاقضُوا مآربَكُم عِجالاً إنما أعمارُكم سفَرٌ من َالأسفارِ
    ونحو قول الشاعر :
    عزماتهُم قُضُبٌ، وفيضُ أكفهم ... سحبٌ، وَبِيضُ وجوههم أقمارُ
    والتشبيهُ البليغُ ما بلغَ درجةَ القبولِ لحسنهِ،أو الطيِّبَ الحسنِ، فكلما كانَ وجهُ الشبهِ قليلَ الظهور، يحتاجُ في إدراكهِ إلى إعمالِ الفكر كانَ ذلك أفعلَ في النفسِ وأدعَى إلى تأثُّرِها واهتزازِها، لما هو مركوزٌ في الطبعِ، منْ أنَّ الشيءَ إذا نيلَ بعدَ الطلبِ له، والاشتياقِ إليه، ومعاناة ِالحنينِ نحوَه كان نيلُه أحلَى، وموقعُه في النفس أجلَّ و ألطفَ، وكانتْ به أضنَّ وأشغفَ، وما أشبهَ هذا الضربُ من المعاني، بالجوهر في الصَّدفِ، لا يبرزُ إلا أنْ تشقَّهُ.
    وسببُ هذه التسميةِ أنَّ ذكرَ الطرفينِ فقط، يوهمُ اتحادَهما، وعدمَ تفاضلهِما، فيعلو المشبَّهُ إلى مستوى المشبَّهِ به، وهذه هي المبالغةُ في قوةِ التشبيهِ.

    *-صورُ وقوعِ التشبيهِ البليغ :
    يقع التشبيهُ البليغُ على الصورِ الآتيةِ :
    1- أنَ يقعَ المشبَّهُ به خبراً، نحو : صدورُ الأحرارِ قبورُ الأسرار ِ .
    2- أنَ يقعَ مفعولاً ثانياً في بابِ علمتَ ،نحو : علمتُ بذيءَ اللسانِ كلباً عقوراً .
    3- أنَ يقعَ مصدراً مبيِّناً للنوعِ ، كقوله تعالى : {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ..} (88) سورة النمل .
    4- أنْ يقعَ حالاً ، نحو : كرَّ عليَّ أسداً .
    5- أنْ يقعَ مبيِّناً للمشبَّهِ، كقوله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة/187] .
    6- أن َيقعَ مضافاً على المشبَّهِ به ،نحو : عقيقُ الشفقِ وثوبُ العافيةِ


    المبحثُ الثامنُ - تشبيهٌ على غيرِ طرقهِ الأصليَّةِ

    أولاً-التشبيهُ الضمنيُّ :
    هو تشبيه ٌ لا يوضعُ فيه المشبَّهُ والمشبَّهُ به في صورةٍ من صورِ التشبيهِ المعروفةِ، بل يلمحُ المشبَّهُ والمشبَّهُ به، ويفهمانِ من المعنَى، ويكونُ المشبَّهُ به دائماً برهاناً على إمكانِ ما أُسندَ إلى المشبِّه، كقول المتنبي :
    مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
    أيْ أنَّ الذي اعتادَ الهوانَ، يسهلُ عليه تحمّلُه، ولا يتألمُ له، وليس هذا الادعاءُ باطلاً ،لأنَّ الميتَ إذا جرِحَ لا يتألمُ، وفي ذلك تلميحٌ بالتشبيهِ في غير صراحةٍ، وليس على صورةٍ من صورِ التشبيهِ المعروفة، بل إنه (تشابهٌ) يقتضي التَّساوي، وأمَّا (التشبيهُ) فيقتضي التفاوتَ.
    وكقول أبي فراس الحمداني :
    سَيذْكُرني قَوْمي إِذا جدّ جِدُّهمْ … …وفي اللَّيْلَة الظَّلْماءِ يٌفْتَقَدُ الْبَدْر

    *-بلاغةُ التشبيهِ الضمنيِّ :
    1- إنه دعوى مع البيِّنةِ والبرهانِ .
    2- إنه إبرازٌ لما يبدو غريباً ومستحيلاً .
    3- إنه جمعٌ بين أمرينِ متباعدينِ ،وجنسينِ غيرِ متقاربينِ .
    4- إنهُ دلالةٌ على التشبيهِ بالإشارةِ والكنايةِ ، لا بالوضوحِ والصراحةِ .

    ثانياً-التشبيهُ المقلوبُ :
    التشبيهُ المقلوبُ : هو جعلُ المشبَّهِ مشبَّهاً به بادِّعاءِ أِنَّ وجهَ الشبَّهِ فيه أَقوَى وأَظهرُ.ويسمَّى ذلك بالتشبيهِ المقلوبِ أو المعكوسِ، نحو: كأنَّ ضوءَ النهارِ جبينُهُ، ونحو:كأنَّ نشرَ الروضِ حسنُ سيرتِه، ونحو: كأنَّ الماءَ في الصفاءِ طباعُهُ، وكقول محمد بن وهيب الحميري :
    وبَدَا الصَّباحُ كأنَّ غرَّتَهُ … …وَجْهُ الخَليفةِ حِينَ يُمْتَدَحُ
    شبَّهَ غرَّةَ الصباح بوجهِ الخليفةِ، إيهاماً أنهُ أتمُّ منها في وجهِ الشَّبهِ .
    وكقول حافظ إبراهيم :
    أحِنُّ لَهُم ودُونَهُمُ فَلاةٌ … …كأنَّ فَسِيحَها صدْرُ الحَليمِ
    شُبِّهتِ الفلاةُ بصدرِ الحليمِ في الاتساعِ، وهذا أَيضاً تشبيهٌ مقلوبٌ.
    وهذا التشبيهُ مظهرٌ من مظاهرِ الافتنانِ والإبداعِ، كقوله تعالى حكايةً عن الكفار: { قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ..} (275) سورة البقرة ،في مقامِ أنَّ الرِّبا مثلُ البيعِ ،عكسوا ذلك لإيهامِ أنَّ الرِّبا عندهمْ أحلُّ من البيعِ، لأنَّ الغرضَ الربحُ ،وهو أثبتُ وجوداً في الرّبا منه في البيعِ، فيكونُ أحقَّ بالحلِّ على حدِّ زعمِهم .

    المبحثُ التاسعُ _ في تقسيم التشبيهِ باعتبار الغرَضِ إلى مقبول وإلى مردود

    ينقسمُ التشبيهُ باعتبار الغرضِ إلى حسنٍ مقبولٍ، وإلى قبيحٍ مردودٍ .
    1-الحسنُ المقبولُ: هو ما وفَّى بالأغراضِ السابقةِ، كأنْ يكونَ المشبَّهُ به أعرفَ من المشبَّهِ في وجه الشَّبهِ، إذا كان الغرضُ بيانَ حالِ المشبَّه، أو بيانَ المقدارِ، أو أنْ يكونَ أتم َّشيءٍ في وجه الشَّبه، إذا قصِدَ إلحاقَ الناقصِ بالكاملِ، أو أنْ يكونَ في بيانِ الإمكانِ مسلَّمَ الحكمِ، ومعروفاً عند المخاطبِ، إذا كان الغرضُ بيانَ إمكان الوجودِ، وهذا هو الأكثر في التشبيهاتِ، إذ هي جاريةٌ على الرشاقةِ، ساريةٌ على الدقةِ والمبالغةِ ثم إذا تساوَى الطرفانِ في وجه الشَّبهِ عند بيانِ المقدارِ كان التشبيهُ كاملاً في القبولِ، وإلا فكلَّما كان المشبَّهُ به أقربَ في المقدارِ إلى المشبَّهِ كان التشبيهُ أقربَ إلى الكمالِ والقبولِ.
    2 - القبيحُ المردودُ: هو ما لم يفِ بالغرض المطلوبِ منه، لعدمِ وجودِ وجهٍ بين المشبَّهِ والمشبَّهِ به، أو معَ وجودهِ لكنهُ بعيدٌ.


    *- تنبيهانِ:

    الأولُ- بعضُ أساليب التشبيهِ أقوى من بعضٍ في المبالغةِ، ووضوحِ الدلالةِ ولها مراتبُ ثلاثةٌ:
    أ - أعلاها وأبلغُها: ما حذفَ فيها الوجهُ والأداةُ، نحو: عليٌّ أسدٌ، وذلك أنكَ ادعيتَ الاتحادَ بينهما بحذف الأداةِ، وادعيتَ التشابهَ بينهما في كلِّ شيءٍ بحذفِ الوجهِ، ولذا سميَ هذا تشبيهاً بليغاً.
    ب - المتوسطةُ: ما تحذفُ فيها الأداةُ وحدها، كما تقولٌ :خالدٌ أسدٌ شجاعةً ، أو يحذف فيها وجهُ الشبهِ،فتقولُ : خالدٌ كالأسدِ،وبيانُ ذلك أنكَ بذكركِ الوجهَ حصرتَ التشابهَ،فلم تدعْ للخيالِ مجالاً في الظنِّ بأن التشابهَ في كثيرٍ من الصفاتِ، كما أنك بذكرِ الأداةِ نصصتَ على وجودِ التفاوتِ بين المشبِّهِ والمشبِّهِ به، ولم تتركْ باباً للمبالغةِ.
    جـ- أقلُّها: ما ذكرَ فيها الوجهُ والأداةُ، وحينئذ فقدتِ المزيتينِ السابقتينِ .نحو : خالدٌ كالأسدِ في الشجاعةِ
    الثاني- قد يكونُ الغرضُ من التشبيهِ حسناً جميلاً، وذلك هو النمطُ الذي تسمو إليه نفوسُ البلغاءِ، وقد أتوا فيه بكلِّ حسنٍ بديعٍ، كقول ابن نباتةَ في وصفِ فرسِ أغرَّ محجَّلٍ :
    وكأَنَّما لطَمَ الصَّباحُ جبينَهُ ... فاقْتَصَّ منهُ فخاضَ في أَحشائِهِ
    وقد لا يوفَّقُ المتكلِّمُ إلى وجهِ الشَّبهِ، أو يصلُ إليه مع بعدٍ، وما أخلقَ مثل هذا النوعَ بالاستكراهِ وأحقَّه بالذمِّ،لما فيه من القبحِ والشناعةِ، بحيثُ ينفرُ منه الطبعُ السليمُ.


    المبحثُ العاشرُ- في فوائدِ التشبيهِ

    *- الغرضُ من التشبيهِ والفائدةُ منه: هي الإيضاحُ والبيانُ في التشبيهِ غير المقلوبِ ، ويرجعُ ذلك الغرضُ إلى المُشبَّهِ والمشبَّهِ به
    أولاً- ما يعودُ على المشبَّهِ من أغراضٍ :
    1. تهويلُ المشبَّهِ وجعله مهاباَ، إذا كان المشبَّهُ به أخوفَ عندَ الناس كقول عنترةَ :
    وأنا المنيَّةُ حينَ تشتجرُ القنا ... والطّعنُ منِّي سابقُ الآجالِ
    2. بيانُ حالهِ إذا كان المشبَّهُ به معلوماً عند السامعِ بتلك الصفةِ التي يقصَدُ اشتراكُ الطرفين فيها، كما في قول النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: « إِنَّهُمَا مِنَ الدِّينِ كَالرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ» ، وكقوله النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ يَأْلَمُ الْمُؤْمِنُ لأَهْلِ الإِيمَانِ كَمَا يَأْلَمُ الْجَسَدُ لِمَا فِى الرَّأْسِ » .
    أو حينما يكونُ المشبَّهُ مبهماً غيرَ معروفِ الصفةِ، الّتي يراد إثباتُها له قبلَ التشبيهِ، فيفيدُه التشبيهُ الوصفُ، ويوضحُه المشبَّهُ به، نحو: شجرُ النارنجِ كشجرِ البرتقالِ ، ومثلُ قول الشاعر :
    إذا قامتْ لحاجتُها تَثَنَّتْ ... كأنّ عِظامَها منْ خَيزرانِ
    شبهَ عظامَها بالخيزرانِ بياناً لما فيها من اللينِ .
    3. بيانُ مقدار حالِ المشبَّهِ في القوةِ والضعفِ والزيادةِ والنقصانِ، وذلك إذا كانَ المشبَّهُ معلوماً معروفَ الصفةِ الّتي يرادُ إثباتُها له معرفةً إجماليةً قبلِ التشبيهِ ، بحيثُ يرادُ من ذلك التشبيهِ بيانُ مقدار نصيبِ المشبَّهِ من هذه الصفةِ، وذلك بأنْ يعمدَ المتكلِّمُ لأنْ يبينَ للسامعِ ما يعنيهِ من هذا المقدارِ ،كقوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً }[البقرة/74]، ومثل قول الأعشى :
    كأَنَّ مِشْيَتَها مِن بَيْتِ جارَتِها ... مَرُّ السَّحابَةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ
    وكتشبيهِ الماءِ بالثلجِ في شدةِ البرودةِ.
    4. تقريرُ حالهِ وتقويةُ شأنِها، و تمكينُه في ذهن السامعِ، بإبرازِها فيما هي فيه أظهرُ ، كما إذا كان ما أسنِدَ إلى المشبَّهِ يحتاجُ إلى التثبيتِ والإيضاحِ، فتأتي بمشبَّهٍ به حسيٍّ قريبِ التصوُّرِ، يزيدُ معنى المشبِّهِ إيضاحاً لما في المشبَّهِ به من قوةِ الظهورِ والتمامِ ،كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً [النور/39] }، ومثل : ( العِلمُ في الصِّغَرِ كالنَّقشِ في الحجَرِ )
    ومثلُ قول الشاعر :
    إِنّ القُلوبَ إذا تنافر ودُّها شِبْهُ الزُجَاجَة ِ كسْرُها لا يُشْعَبُ
    شبَّه تنافرَ القلوبِ بكسرِ الزجاجةِ، تثبيتاً لتعذرِ عودةِ القلوبِ إلى ما كانتْ عليه من الأنسِ والمودَّةِ.
    5. بيانُ إمكانِ المشبَّهِ ، وذلك حينَ يسنَدُ إليه أمرٌ مستغرب ٌ لا تزولُ غرابتُه إلا بذكر شبيهٍ له، معروفٍ واضحِ مسلَّمٍ به، ليثبتَ في ذهنِ السامعِ ويقررَ ، كقول المتنبي :
    فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأَنْتَ مِنهُم ... فإنَّ المسكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ
    يقولُ: إنْ فضلتَ الناسَ وأنتَ من جملتِهم فقدْ يفضلُ بعضُ الشيء جملتَه ،كالمسكِ وهو بعضُ دمِ الغزالِ ، وقد فضلهُ فضلاً كثيراً، أرادَ أنهُ فاقَ الأنامَ في الأوصافِ الفاضلة ِإلى حدٍّ بطلَ معه أن يكونَ واحداً منهم، بل صارَ نوعاً آخرَ برأسهِ أشرفَ من الإنسانِ .
    6. مدحهُ وتحسينُ حالهِ، ترغيباً فيه، أو تعظيماً له، بتصويرهِ بصورةٍ تهيِّجُ في النفسِ قوى الاستحسانِ، بأنْ يعمدَ المتكلِّمُ إلى ذكر مشبَّهِ بهِ مُعجبٍ، قد استقرَّ في النفسِ حُسنُه و حبٌّه فيصوِّرُ المشبَّهَ بصُورتِه ، كقول الشاعر :
    رُبّ سوْداءَ وهيَ بيضاءُ معنى ... نافَسَ المِسك في اسمِها الكافورُ
    مثلُ حبِّ العُيون يَحْسبهُ النّا ... سُ سواداً وإنما هوَ نورُ
    ونحو قول النابغة :
    فإِنَّكَ شَمْسٌ والمُلُوكُ كَواكِبٌ ... إِذا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهنَّ كَوْكَبُ
    7. تشويهُ المشبَّهِ وتقبيحُه، تنفيراً منه أو تحقيراً له، بأنْ تصوِّرَه بصورةٍ تمجُّها النفسُ، ويشمئزُّ منها الطبعُ ، كقول الشاعر :
    لها جِسم بُرْغوث وساقا بَعُوضةٍ ... ووَجْهٌ كَوَجْه القِرْد أو هو أقْبَحُ
    و كقول المتنبيِّ :
    وَإذا أشَارَ مُحَدّثاً فَكَأنّهُ قِرْدٌ يُقَهْقِهُ أوْ عَجوزٌ تَلْطِمُ
    8. استطرافُه: أيْ عدُّهُ طريفاً حديثاً، بحيثُ يجيءُ المشبَّهُ به طريفاً، غيرَ مألوفٍ للذهن؛إما لإبرازهِ في صورة الممتنعِ عادةً، كما في تشبيهِ فَحم ٌفيه جَمْرٌ متقدٌ ببحرٍ من المسكِ موجَّهِ الذهبِ ،ونحو قول الشاعر :
    وكأنَّ مُحْمرَّ الشَّقي ...قِ إِذا تصَوَّبَ أو تَصَعَّدْ
    أعلامُ ياقوتٍ نُشِرْ ... نَ عَلى رماح من زَبَرْجَدْ
    وإمَّا لندورِ حُضورِ المشبَّهِ به في الذهنِ عند حضورِ المشبَّه، كقول ابن المعتزِّ في الهلال :
    أنظرْ إليه كزورقٍ منْ فضَّةٍ قدْ أثقلته حُمولةٌ من عنبرِ
    ثانياً- ما يعودُ على المشبَّهِ به من الأغراضِ :
    1- المبالغةُ في شأنِ المشبَّهِ، كقول القائل : حجرٌ كقلبِ الظالمِ
    2- الاهتمام بشأن المشبه به كقول عنترة :
    وَلَقَد ذَكَرْتُكِ والرّمَاحُ نَواهِلٌ، ... مِنّي وبِيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دَمي
    فَوَدِدْتُ تَقبيلَ السّيُوفِ لأنّها ... لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ

    المبحثُ الحادي عشر- في بلاغةِ التشبيهِ

    تَنشأُ بلاغةُ التشبيهِ منْ أنهُ ينتقلُ بكَ من الشيءِ نفسِه، إلى شيءٍ طريفٍ يُشبهُهُ، أو صورةٍ بارعةٍ تُمثلُه.
    وكلما كانَ هذا الانتقال ُبعيداً، قليلَ الخطورِ بالبال، أو ممتزجاً بقليلِ أو كثيرٍ من الخيالِ، كان التشبيهُ أروعَ للنفس، وأدعَى إلى إعجابها واهتزازِها.
    فإذا قلتَ: فلانٌ يشبهُ فلاناً في الطولِ، أو إنَّ الأرضَ تشبهُ الكُرة َفي الشكلِ، لم يكنْ في هذه التشبيهاتِ أثرٌ للبلاغةِ، لظهورِ المشابهةِ، وعدمِ احتياجِ العثورِ عليها إلى براعةٍ، وجُهْدٍ أدبيٍّ، ولخلوّها من الخيالِ.
    وهذا الضربُ من التشبيهِ يُقْصَدُ به البيانُ والإيضاحُ، وتقريبُ الشيءِ إلى الأفهامِ، وأكثرُ ما يُستعملُ في العلوم والفنونِ.
    ولكنكَ تأخذُكَ رَوْعةُ التشبيهِ، حينما تسمعُ قول المعرّي يصفُ نجماً :
    يُسْرعُ اللمْح في احْمِرارٍ كما تُسْـ … …ـرِعُ في اللمْح مُقْلَةُ الغضبانِ
    فإنَّ تشبيهَ لمحاتِ النجمِ وتألقهِ مع احمرارِ ضوئه، بسرعةِ لمحةِ الغضبانِ من التشبيهاتِ النادرة، الّتي لا تنقادُ إلا لأديبٍ. ومن ذلك قولُ الشاعر :
    وكأن النجوم بينَ دجاها سُننٌ لاحَ بَينهُنَّ ابتداعُ
    فإنَّ جمالَ هذا التشبيهِ جاءَ من شعورِكَ ببراعةِ الشاعر، وحِذْقِه في عقدِ المشابهةِ بين حالتينِ، ما كانَ يخطرُ بالبالِ تشابهُهما، وهما حالةُ النجومِ في رُقعةِ الليل، بحالِ السُّننِ الدِّينية الصحيحةِ، متفرقةً بين البدَعِ الباطلةِ،ولهذا التشبيهِ روعةٌ أخرى، جاءت من أنَّ الشاعرَ تخيَّلَ أنَّ السُّننَ مضيئةٌ لمَّاعةٌ، وأنَّ البِدعَ مظلمةٌ قاتمةٌ.
    و من أبدعِ التشبيهاتِ قولُ المتنبي :
    بَليتُ بِلى الأطْلالِ إنْ لم أقِفْ بها وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُّرْبِ خاتمُهْ
    يدعو الشاُعر على نفسهِ بالبلى والفناءِ، إذا هو لم يقفْ بالأطلال، ليذكرَ عهدَ من كانوا بها، ثم أرادَ أن يصوِّرَ لك هيئةَ وقوفهِ،فقال: كما يقفُ شحيحٌ فقدَ خاتمهُ في التراب، من كان يُوَفَّقُ إلى تصويرِ حالِ الذَّاهلِ المتحيرِ المحزونِ، المطرقِ برأسه، المنتقلِ من مكانٍ إلى مكان ٍفي اضطرابٍ ودهشةٍ، بحالِ شحيحٍ فقد في الترابِ خاتماً ثميناً.
    هذه بلاغةُ التشبيهِ من حيثُ مَبلغُ طرافتهِ، وبُعد مرماه، ومقدار ما فيه من خَيالٍ.
    أما بلاغتهُ من حيثُ الصورةُ الكلاميةُ الّتي يوضع فيها، فمتفاوتةٌ أيضاً.
    فأقلُّ التشبيهاتِ مرتبة في البلاغة ما ذُكرتْ أركانهُ جميعُها، لأنَّ بلاغةَ التشبيهِ مبنيةٌ على ادعاءِ أنَّ المشبَّهَ عينُ المشبَّهِ به، ووجودَ الأداةِ، ووجهَ الشبه معاً، يَحُولانِ دُون هذا الادّعاءِ; فإذا حذفتِ الأداةُ وحدَها، أو وجهُ الشبَّهِ وحدَهُ، ارتفعتْ درجةُ التشبيهِ في البلاغةِ قليلاً، لأنَّ حذفَ أحدَ هذين يُقوّي ادعاءَ اتحادِ المشبَّه والمشبَّه به بعضَ التقويةِ ـ أمَّا أبلغُ أنواعِ التشبيهِ «فالتشبيهُ البليغُ»، لأنه مبنيٌّ على ادعاءِ أنَّ المشبَّهَ و المشبَّهَ به شيءٌ واحدٌ.
    هذا ـ وقد جرَى العربُ والمُحدَثون على تشبيهِ: الجوادِ بالبحرِ والمطرِ، والشجاعِ بالأسدِ، والوجهِ الحسنِ بالشمسِ و القمرِ، والشهمِ الماضي في الأمور بالأحلامِ ،والوجهِ الصبيحِ بالدينارِ، والشَّعرِ الفاحمِ بالليلِ، والماءِ بالسيفِ، والعالي المنزلةِ بالنَّجمِ، والحليمِ الرَّزينِ بالجبَلِ، والأمانِي الكاذبةِ بالعنقاءَ، والماءِ الصافي باللُّجَيْنِ، والليلِ بموجِ البحرِ، والجيشِ بالبحرِ الزَّاخرِ،والخَيْلِ بالرِّيحِ والبَرْقِ، والنجومِ بالدُّررِ والأزهارِ، والأسنانِ بالبَرَدِ واللؤلؤِ، والسفنِ بالجبالِ، والجداولِ بالحيَّاتِ المُلتويةِ، والشيبِ بالنهارِ ولَمعِ السيوفِ، وغُرَّةِ الفرسِ بالهلالِ، ويشبِّهونَ الجبانَ بالنَّعامةِ والذبابةِ، واللئيمَ بالثعلبِ، والطائشَ بالفرَاشِ، والذليلَ بالوَتدِ، والقاسيَِ بالحديدِ والصخرِ، والبليدِ بالحمارِ، والبخيلِ بالأرضِ الُمجْدِبةِ

    .
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 16:20

    الفصلُ الثاني - في المجازِ

    *-تمهيدٌ :
    المجازُ مُشتقٌّ من جازَ الشيء يَجوزُه إذا تَعَدَّاهُ ،سَمَّوا به اللّفظَ الذي نُقِلَ من معناهُ الأصلي، واستُعمِلَ ليدُلّ على معنى غيرهِ، مناسبٍ لهُ.
    والمجازُ من أحسنِ الوسائل البيانيَّةِ الّتي تهدي إليها الطبيعةُ; لإيضاحِ المعنى، إذْ به يخرجُ المعنى متَّصِفاً بصفةٍ حِسّيةٍ، تكادُ تعرضهُ على عيانِ السَّامعِ، لهذا شغفتِ العربُ باستعمالِ المجاز لميلِها إلى الاتساعِ في الكلام، وإلى الدلالةِ على كثرةِ معاني الألفاظِ، ولما فيه من الدِّقةِ في التعبيرِ، فيحصلُ للنفس به سرورٌ وأريحيَّةٌ، ولأمرٍ مَّا كثرَ في كلامِهم، حتى أتوا فيه بكلِّ معنًى رائقٍ، وزيّنوا به خُطبَهم وأشعارَهم.
    وفي هذا الباب مباحثٌ:

    المبحثُ الأولُ -في تعريف المجاز وأنواعه

    * تعريفُهُ :المجازُ هو اللفظُ المستعملُ في غير ما وضعَ له في اصطلاحِ التخاطَب لعلاقةٍ، مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة ِ المعنى الوضعيِّ.
    والعلاقةُ: هي المناسبةُ بين المعنَى الحقيقيِّ والمعنى المجازيِّ، قد تكونُ (المشابهةَ) بين المعنيينِ، وقد تكونُ غيرَها،فإذا كانتِ العلاقةُ (المشابهةَ) فالمجازُ (استعارةٌ)، وإلا فهو (مجازٌ مرسلٌ)
    والقرينةُ: هي المانعةُ من إرادة المعنى الحقيقيِّ، قد تكون لفظيةً، وقد تكونُ حاليةً – كما سيأتي-
    وينقسمُ المجازُ: إلى أربعةِ أقسامٍ – مجازٌ مفردٌ مرسلٌ، ومجازٌ مفردٌ بالاستعارةِ « ويجريانِ في الكلمةِ» ومجازٌ مركبٌ مرسلٌ، ومجازٌ مركبٌ بالاستعارةِ « ويجريانِ في الكلامِ»
    ثمّ إنّ المجازَ على قسمينِ:
    1 - لغويُّ، وهو استعمالُ اللفظ في غير ما وضع له لعلاقةٍ ، بمعنى مناسبةِ بين المعنى الحقيقيِّ والمعنى المجازيِّ ـ يكون الاستعمالُ لقرينةٍ مانعةٍ من إرادةِ المعنى الحقيقيِّ، وهي قد تكون لفظيّةً، وقد تكون حاليّةً، وكلّما أطلقَ المجازُ، انصرفَ إلى هذا المجازِ ، وهو المجازُ اللغويُّ. والمجازُ المرسلُ
    2 -عقليٌّ، وهو يجري في الإسنادِ، بمعنى أن يكونَ الإسنادُ إلى غير من هوَ لهُ، نحو: (شفَى الطبيبُ المريضَ)، فإنَّ الشفاءَ من الله تعالى، فإسنادهُ إلى الطبيبِ مجازٌ، ويتمُّ ذلك بوجودِ علاقةٍ مع قرينةٍ مانعةٍ من جريانِ الإسنادِ إلى من هوَ لهُ.فهذا المجازُ يسمَّى « المجازَ العقليَّ» .

    المبحثُ الثاني -في المجاز اللغويِّ المفردِ المُرسلِ وعلاقاتهِ

    *-المجازُ المفردُ المرسلُ: هو الكلمةُ المستعملةُ قصداً في غير معناها الأصليِّ لملاحظةِ علاقةٍ غيرِ (المشابهةِ) مع قرينةٍ دالّةٍ على عدمِ إرادة المعنى الوضعيِّ.
    وله علاقاتٌ كثيرةٌ أهمُّها :
    (1)- السببيَّةُ : هي كونُ الشيءِ المنقولِ عنه سبباً ومؤثراً في غيرهِ، وذلك فيما إذا ذكِرَ لفظُ السببِ، وأريدَ منه المسبِّبُ، نحو: رعتِ الماشيةُ الغيثَ – أي النباتَ، لأنَّ الغيثَ أيْ (المطرَ) سببٌ فيه،وقرينتُه (لفظيةٌ) وهي (رعَت) لأنَّ العلاقةَ تعتبرُ من جهةِ المعنى المنقولِ عنه، ونحو: لفلانٍ عليَّ يدٌ، تريدُ باليد النعمةَ، لأنها سببٌ فيها.
    (2) -المسببيَّةُ : هي أن يكونَ المنقولُ عنه مسبَّباً وأثراً لشيء آخر، وذلك فيما إذا ذكِرَ لفظُ المسبِّبِ، وأريدَ منه السببُ، نحو قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ) [غافر/13] أي: مطراً يسبِّبُ الرزقَ.
    (3) –الكليةُ : هي كونُ الشيءِ متضمناً للمقصود ولغيره، وذلك فيما إذا ذكرَ لفظُ الكلِّ، وأريدَ منه الجزءُ، نحو قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ) [البقرة/19] أي أناملَهم، والقرينةُ (حاليةٌ) وهي استحالةُ إدخالِ الأصبعِ كلِّه في الأذنِ، ونحو: شربتُ ماءَ النيل – والمرادُ بعضُهُ، بقرينةِ شربتُ.
    (4) -الجزئيةُ : هي كونُ المذكورِ ضمنَ شيءٍ آخر، وذلك فيما إذا ذكرَ لفظُ الجزءِ، وأريدَ منه الكلُّ، كقوله تعالى : {..وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً ..} (92) سورة النساء ،ونحو: نشرَ الحاكمُ عيونَهُ في المدينة، أي الجواسيسُ، فالعيونُ مجازٌ مرسلٌ، علاقتُه (الجزئيةُ) لأنَّ كلَّ عينٍ جزءٌ من جاسوسِها – والقرينةُ الاستحالةُ.
    (5) -الآليةُ : هي كونُ الشيء واسطةً لإيصالِ أثر شيءٍ إلى آخر، وذلك فيما إذا ذكرَ اسمُ الآلةِ، وأريدَ الأثرُ الذي ينتجُ عنه، نحو قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ) [الشعراء/84] أي ذكراً حسناً ، (فلسانٌ) بمعنى ذكرٍ حسنٍ مجازٌ مرسلٌ، علاقتُه (الآليةُ) لأنَّ اللسانَ آلةٌ في الذكرِ الحسنِ.
    (6) -اعتبارُ ما كانَ : هو النظرُ إلى الماضي، أيْ تسميةُ الشيءِ باسم ما كانَ عليه، نحو قوله تعالى : (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) [النساء/2]، أي الذين كانوا يتامَى ثم بلغوا، فاليتامَى: مجازٌ مرسلٌ، علاقتُه (اعتبارُ ما كانَ)، وهذا إذا جرينا على أنِّ دلالةَ الصفةِ على الحاضرِ حقيقةٌ، وعلى ما عداهُ مجازٌ.
    (7) -اعتبارُ ما يكونُ : هو النظرُ إلى المستقبلِ، وذلك فيما إذا أطلقَ اسمُ الشيء على ما يؤولُ إليه، كقوله تعالى : {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ..} (36) سورة يوسف ،أي: عصيراً يؤولُ أمرهُ إلى خمرٍ، لأنهُ حالَ عصرهِ لا يكونُ خمراً، فالعلاقةُ هنا: اعتبارُ (ما يؤولُ إليه)، ونحو قوله تعالى : (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) [نوح/27]، والمولودُ حين يولدُ، لا يكونُ فاجراً، ولا كافراً، ولكنهُ قد يكونُ كذلك بعد الطفولةِ، فأطلقَ المولودَ الفاجرَ، وأريدَ به الرجلَ الفاجرَ، والعلاقةُ، اعتبارُ (ما يكونُ)ُ
    (8) -الحاليّةُ : هي كونُ الشيء حالاً في غيره، وذلك فيما إذا ذكرَ لفظُ الحالِ، وأريدَ المحلَّ لما بينهما من الملازمةِ، نحو قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران/107])، فالمرادُ من (الرحمةِ) الجنةُ التي تحلُّ فيها الرحمةُ، فهم في جنةٍ تحلُّ فيها رحمةُ الله، ففيه مجازٌ مرسلُ، علاقتُه (الحاليةُ) ،وكقوله تعالى : (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف/31]) أي لباسَكم، لحلولِ الزينةِ فيهنَّ، فالزينةُ حالٌ واللباسُ محِلُّها.
    (9) -المحليَّةُ : هي كون الشيءِ يحلُّ فيه غيره، وذلك فيما إذا ذكر َلفظُ المحلِّ، وأريدَ به الحالَّ فيه – كقوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [العلق/17، 18])، والمراد من يحلُّ في النادي.
    وكقوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران/167])، أي ألسنتُهم، لأنِّ القولَ لا يكون عادةً إلا بها. ونحو قوله تعالى : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (82) سورة يوسف .أي اسأل أهلَ القرية . واسأل أهلَ العير .
    (10) -المجاورةُ : هي كونُ الشيءِ مجاوراً لشيءٍ آخر، نحو كلَّمتُ الجدارَ والعامودَ، أي الجالسَ بجوارهِما، فالجدارُ والعامودُ مجازانِ مرسلان ِ علاقتهُما (المجاورةُ).
    (11)- اللاّزميَّةُ: هي كونُ الشيء يجبُ وجودُه، عند وجودِ شيءٍ آخر، نحو: طلعَ الضَّوءُ، أي الشمسُ; فالضوءُ مجازٌ مرسلٌ، علاقتُه اللازميِّةُ ، لأنه يوجدُ عند وجودِ الشمسِ، والمعتبرُ هنا اللزومُ الخاصُّ، وهو عدمُ الانفكاكِ.
    (12)- الملزوميةُ: هي كون الشيءِ يجبُ عند وجودهٍ وجودُ شيءٍ آخر، نحو: ملأتِ الشمسُ المكانَ، أي الضَّوءَ، فالشمسُ مجازٌ مرسلٌ، علاقتُه الملزوميَّةٌ ، لأنها متَى وُجدتْ وُجدَ الضّوءُ، والقرينةُ ملأت.
    (13)- التّقييدُ، ثمّ الإطلاقُ: هو كون الشيءِ مُقَيّداًً بقيدٍ أو أكثرَ، نحو: مِشْفرُ زيدٍ مَجْرُوحٌ; فإن المِشْفَر لغةً: شَفَةُ البعيرِ، ثم أُريدَ هنا مطلقَ شفةً، فكان في هذا منقولاً عن المقيدِ إلى المطلَقِ، وكان مجازاً مرسلاً، علاقتُه التقييدُ، ثم نُقِل َمن مطلقِ شفةٍ، إلى شفةِ الإنسانِ، فكان مجازاً مرسلاً بمرتبتينِ، وكانت علاقتُه التّقييدَ والإطلاقَ.
    (14)- العمومُ: هو كون الشيءِ شاملاً لكثيرٍ، نحو قوله تعالى:(أمْ يَحْسُدون الناس)[النساء: 54 ]، أي النبيَّ(صلى الله عليه وسلَّم) فالناسُ مجازٌ مرسلٌ، علاقتُه العمومُ، ومثله قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (173) سورة آل عمران ،فإنَّ المرادَ من الناسِ واحدٌ، وهو نعيمُ بنُ مسعودٍ الأشجعيِّ .
    (15)- الخصوصُ: هو كون اللفظِ خاصاً بشيءٍ واحدٍ، كإطلاقِ اسم الشخصِ على القبيلةِ، نحو :ربيعةٌ وقريشٌ.
    (16)- البدليةُ: هي كونُ الشيءِ بدلاً عن شيءٍ آخر، كقوله تعالى: (فإذا قضيْتُمُ الصَّلاةِ) [النساء: 103 ]والمرادُ: الأداءُ.
    (17)- المبدليةُ: هي كون الشيءِ مبدلاً منه شيءٌ آخر، نحو: أكلتُ دمَ زيدٍ أيْ ديتَهُ.
    فالدمُ مجازٌ مرسلٌ علاقتُه المبدليةُ ، لأنَّ الدمَ: مبدلٌ عنهُ الديةُ.
    (18)_ التعلقُ الاشتقاقيُّ: هو إقامةُ صيغةٍ مقامَ أخرى، وذلك:
    أ - كإطلاق المصدرِ على اسم المفعولِ، في قوله تعالى: (صُنْعَ الله الذي أتقن كل شيء)[النمل: 88 ]أي مصنوعُه.
    ب - وكإطلاقِ اسم الفاعلِ على المصدرِ، في قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} (2) سورة الواقعة ،أي تكذيبٌ.و كقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ . } (11) سورة لقمان ، أي مخلوقُه.
    جـ ـ وكإطلاق اسمِ الفاعل على اسم المفعولِ، في قوله تعالى: { .. قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ..} (43) سورة هود ، أي لا معصومَ.
    د - وكإطلاق اسمِ المفعولِ على اسم الفاعلِ، في قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} (45) سورة الإسراء ،أي ساتراً.
    والقرينة على مجازية ما تقدم، هي ذكرُ ما يمنعُ إرادةِ المعنى الأصليِّ.
    هـ- إطلاقُ اسمِ المفعولِ على المصدرِ ، ، كقوله: (بمنصورِ النبيِّ على الأعادي...) أي بمثلِ نصرةِ النبيِّ (صلى الله عليه وسلَّم) على أعاديهِ.
    (19) – المجازُ بالمشارفةِ: وهو كالمجاز بالأَولِ إلا أنَّ الفرقَ بينهما كون (الأَوْلِ) أعمَّ من القريبِ والبعيدِ، و(المشارفةُ) لخصوصِ القريبِ، قال صلى الله عليه وسلم: « مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ » . فإنَّ القتيلَ لا يُقتلُ، وإنما المرادُ المشرفُ على القتلِ، ومثله:قوله صلى الله عليه وسلم: « إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .


    المبحث ُالثالثُ - في تعريف المجاز العقلي وعلاقاته

    *-المجازُ العقليُّ: هو إسنادُ الفعلِ، أو ما في معناهُ من اسمِ فاعلٍ، أو اسمِ مفعولٍ أو مصدرٍ إلى غير ما هو له في الظاهرِ، من حال المتكلِّمِ، لعلاقةٍ مع قرينةٍ تمنعُ من أن يكونَ الإسنادُ إلى ما هوَ لهُ.
    *- المجازُ العقليُّ على قسمين:
    الأولُ- المجازُ في الإسنادِ، وهو إسنادُ الفعلِ أو ما في معنى الفعلِ إلى غير من هوَ لهُ، وهو على أقسام، أشهرها:
    (1)- الإسنادُ إلى الزمانِ، نحو قول الشاعر :
    لا تحسبنَّ سروراً دائماً أبداً ... مَنْ سرَّهَ زمنٌ ساءتْهُ أزمان
    أسندَ الإساءةَ والسرورَ إلى الزمنِ، وهو لم يفعلْهما، بل كانا واقعينِ فيه على سبيلِ المجازِ.
    (2)- الإسنادُ إلى المكانِ، نحو قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ [الأنعام/6])، فقد أسندَ الجريَ إلى الأنهار، وهي أمكنةٌ للمياهِ، وليستْ جاريةً بل الجاري ماؤُها.
    (3)- الإسنادُ إلى السببِ، كقوله: (بنَى الأميرُ المدينةَ) فإنّ َالأميرَ سببُ بناءِ المدينة، لا إنّه بناها بنفسِه. ،و نحو قول عنترة :
    إنِّي لمِنْ مَعْشر أفْنَى أوائلَهُمْ ... قيلُ الكُماةِ ألا أَينَ المحامُونا
    فقد نسبَ الإفناءَ إلى قول الشجعانِ، هل من مبارزٍ ؟ ،وليس ذلك القولُ بفاعلٍ له، ومؤثرٍ فيه، وإنما هو سببٌ فقطْ .
    (4) الإسنادُ إلى المصدرِ ، كقول أبي فراس الحمداني :
    سَيَذْكُرُني قَوْمي إذا جَدّ جدّهُمْ، وفي الليلة ِ الظلماءِ ، يفتقدُ البدرُ
    فقد أسندَ الجدَّ إلى الجدِّ، أي الاجتهادِ، وهو ليسَ بفاعلِ له، بل فاعلُه الجادُّ – فأصله جدَّ الجادُّ جدًّا، أي اجتهدَ اجتهاداً، فحذفَ الفاعلَ الأصليَّ وهو الجادُّ، وأسندَ الفعلَ إلى الجدِّ.
    (5) إسنادُ ما بنيَ للفاعلِ إلى المفعولِ، نحو: سرَّني حديثُ الوامقِ، فقدِ استعملَ اسمَ الفاعل، وهو الوامقُ، أي (المُحِبُّ) بدلَ الموموقِ، أي المحبوبِ، فإنَّ المرادَ: سررتُ بمحادثةِ المحبوبِ.
    (6) إسنادُ ما بنيَ للمفعولِ إلى الفاعلِ، نحو قوله تعالى : (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء/45]) ،أي ساتراً، فقد جعلَ الحجابَ مستوراً، مع أنه هو الساترُ. وكما قال الحطيئةُ يهجو الزبرقانَ بنَ بدرٍ :
    دَع المَكارِمَ لا تَرحَل لبغْيَتِها ... واقعُدْ فإنك أَنْتَ الطّاعِمُ الكاسِي
    وهو يقصدُ المطعَم المكِسي .
    الثاني- المجازُ في النسبةِ غيرِ الإسناديةِ، وأشهرُها النسبةُ الإضافيّةُ نحو:
    1 - (جَرْيُ الأنهارِ) فإنَّ نسبةَ الجريِ إلى النهرِ مجازٌ باعتبار الإضافةِ إلى المكانِ.
    2 - (صومُ النهارِ) فإنَّ نسبةَ الصومِ إلى النهارِ مجازٌ باعتبارِ الإضافة إلى الزمانِ.
    3 -(غُرابُ البَينِ) فإنّهُ مجازٌ باعتبار الإضافة إلى السببِ.
    4 - (اجتهادُ الجِدّ) مجازٌ باعتبار الإضافةِ إلى المصدرِ.


    *- تنبيهانِ :أ -الفعلُ المبني للفاعلِ واسمِ الفاعل إذا أُسندا إلى المفعولِ فالعلاقةُ المفعوليةُ،والفعلُ المبنيُّ للمجهولِ واسمُ المفعولِ إذ أُسندا إلى الفاعلِ فالعلاقةُ الفاعليةُ،واسمُ المفعولِ المستعمَلِ في موضعِ اسم الفاعلِ مجازٌ، علاقتُه المفعوليةُ،واسمُ الفاعل المستعمل في موضع اسمِ المفعول ِمجازٌ، علاقتُه الفاعليةُ.
    ب- هذا المجازُ مادةُ الشاعرِ المفلِّقِ، والكاتبِ البليغِ، وطريقٌ من طرقِ البيانِ لا يستغني عنها واحدٌ منهُما.


    *-من فوائدِ هذا المجازِ :
    إنَّ للمجازِ المرسل ،على أنواعه، وكذلك العقليِّ ،على أقسامه، فوائدَ كثيرةً:
    1 – الإيجاز، فإنَّ قوله: بنَى الأميرُ المدينةَ أوجزُ من ذكر البنائينَ والمهندسينَ ونحوهِما، ونحوه غيره.
    2 -سعةُ اللفظِ، فإنه لو لم يجزْ إلا جرَى ماءُ النهرِ كان لكلِّ معنَى تركيباً واحداً، وهكذا بقيّةُ التراكيب.
    3 - إيرادُ المعنى في صورةٍ دقيقةٍ مقربةٍ إلى الذهنِ، إلى غير ذلك من الفوائدَ البلاغيةِ.
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 16:48



    الفصلُ الثالث – الاستعارةُ

    *-تمهيدٌ:
    سبقَ أنَّ التشبيهَ أولُ طريقةٍ دلتْ عليها الطبيعةُ; لإيضاحِ أمرٍ يجهلُه المخاطبُ، بذكر شيءٍ آخر، معروفٍ عنده، ليقيسَه عليه، وقد نتجَ من هذه النظريةِ، نظريةٌ أخرى في تراكيب الكلامِ، ترى فيها ذكرَ المشبَّهِ به أو المشبَّهِ فقط.
    وتسمَّى هذه بالاستعارةِ، وقد جاءتْ هذه التراكيبُ المشتملةُ على الاستعارة أبلغَ من تراكيب التشبيهِ، وأشدَّ وقعاً في نفس المخاطبِ، لأنه كلما كانتْ داعيةً إلى التحليقِ في سماء الخيالِ، كان وقعُها في النفسِ أشدَّ، ومنزلتُها في البلاغة أعلَى.
    وما يبتكرهُ أمراءُ الكلامِ من أنواع ِصور الاستعارةِ البديعةِ، الّتي تأخذُ بمجامعِ الأفئدةِ، وتملكُ على القارئ والسامعِ لبَّهما وعواطفهُما هو سرُّ بلاغةِ الاستعارةِ.
    فمنَ الصورِ المجملةِ الّتي عليها طابعُ الابتكار وروعةُ الجمالِ قولُ شاعر الحماسةِ :
    قومٌ إذا الشرُّ أَبْدَى نَاجِذيه لهم ... طارُوا إليه زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا
    فإنهُ قد صوَّر لك الشرَّ، بصورة ِحيوانٍ مفترسٍ مكشِّرٍ عن أنيابهِ مما يملأُ فؤادكَ رعباً،ثم صوَّر القومَ الذين يعنيهم، بصورِ طيورٍ تطيرُ إلى مصادمةِ الأعداءِ; طيراناً مما يستثيرُ إعجابكَ بنجدتِهم، ويدعوكَ إلى إكبارِ حميَّتِهم وشجاعتهِم.
    ومنهم منْ يعمدُ إلى الصورة الّتي يرسمُها، فيفصلُّ أجزاءها، ويبينُ لكلِّ جزءٍ مزيتَهُ الخاصةَ، كقول امرئ القيس في وصفِ الليلِ بالطولِ :
    فَقُلْتُ له لمَّا تَمطَّى بِصُلْبِهِ ... وأرْدفَ أعْجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ
    ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي بصُبْحٍ وما الإصْباحَ مِنك بأمثَلِ
    فإنه لم يكتفِ بتمثيلِ الليلِ، بصورة شخصٍ طويلِ القامةِ، بل استوفى له جملة َأركانِ الشخصِ; فاستعارَ صُلباً يتمطَّى به، إذ كان كلُّ ذي صُلبٍ يزيدُ في طولهِ تمطيهِ، وبالغَ في ذلك بأنْ جعل له أعجازاً يردفُ بعضُها بعضاً، ثم أرادَ أن يصفَه بالثقلِ على قلبِ ساهرهِ، فاستعارَ له كلكلاً ينوءُ به أيْ يثقلُ به ،ولا يخفَى عليكَ ما يتركُه هذا التفصيلُ البديعُ في قلبِ سامعهِ من الأثرِ العظيمِ، والارتياح ِالجميلِ.
    ومنهم منْ لا يكتفي بالصورةِ التي يرسمُها، بل ينظرُ إلى ما يترتبُ على الشيءِ فيعقِّبُ تلك الصورةِ بأخرَى أشدَّ وأوقعَ، كقول أبي الطيب المتنبيِّ :
    رماني الدهرُ بالأرْزاءِ حتى ... فؤادي في غِشاء من نِبالِ
    فصِرْتُ إذا أصابتْني سِهامٌ ... تكسّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ
    فإنه لم يكتفِ بتصويره ِالمصائبَ سهاماً في سرعةِ انصبابِها، وشدةِ إيلامها، ولا بالمبالغةِ في وصف كثرتِها، بأنْ جعلَ منها غشاءً محيطاً بفؤادهِ، حتى جعل ذلك الغشاءَ من المتانةِ والكثافةِ، بحيث إنَّ تلكَ النصالِ مع استمرار ِانصبابِها عليه، لا تجدُ منفذاً إلى فؤادهِ، لأنها تتكسرُ على النصالِ الّتي سبقتْها، فانظرْ إلى هذا التمثيل ِالرائعِ، وقل لي: هلْ رأيتِ تصويراً أشدَّ منهُ لتراكمِ المصائبَ والآلامَ؟

    المبحث الأولُ- تعريفُ الاستعارة وبيانُ أنواعها

    * تعريفها :الاستعارةُ لغةً: من قولهِم، استعارَ المالَ: إذا طلبَه عاريةً .
    واصطلاحاً: هي استعمالُ اللفظُ في غير ما وضعَ له لعلاقةِ (المشابهةِ) بين المعنَى المنقولِ عنه والمعنِى المستعملِ فيهِ، مع (قرينةٍ) صارفةٍ عن إرادةِ المعنَى الأصليِّ ،(والاستعارةُ) ليست إلا (تشبيهاً) مختصراً، لكنها أبلغُ منهُ كقولك: رأيتُ أسداً في المدرسةِ، فأصلُ هذه الاستعارةِ « رأيتُ رجلا ًشجاعاً كالأسدِ في المدرسةِ » فحذفتَ المشبهََّ « لفظُ رجلٍ» وحذفتَ الأداةَ الكاف – وحذفتَ وجهَ التشبيهِ « الشجاعةَ» وألحقتهُ بقرينةٍ « المدرسةِ» لتدلَّ على أنكَ تريدُ بالأسدِ شجاعاً.
    وأركانُ الاستعارةِ ثلاثةٌ:
    (1) مستعارٌ منه – وهو المشبَّهُ بهِ .
    (2) ومستعارٌ لهُ – وهو المشبَّهُ .
    (3) ومستعارٌ – وهو اللفظُ المنقول ُ.
    فكلُّ مجازٍ يبنَى على التشبيهِ (يسمَّى استعارةً)،ولابدَّ فيها من عدم ذكر وجهِ الشبهِ،ولا أداة التشبيهِ، بل ولابدَّ أيضاً من تناسي التشبيهِ الذي من أجله وقعتِ الاستعارةُ فقط، مع ادعاءِ أنَّ المشبَّهَ عينُ المشبَّهِ به.أو ادعاءِ أنَّ المشبَّه فردٌ من أفرادِ المشبَّهِ به الكليِّ.بأنْ يكون اسمَ جنسٍ أو علمَ جنسٍ، ولا تتأتَّى الاستعارةُ في العلَمِ الشخصيِّ لعدم إمكانِ دخولِ شيء في الحقيقةِ الشخصيةِ، لأنَّ نفسَ تصوًُّر الجزئيِّ يمنعُ من تصوُّرِ الشركةِ فيه.إلا إذا أفادَ العلَمُ الشخصيُّ وصفاً.به يصحُّ اعتبارهُ كلياً.فتجوز استعارتُه: كتضمنِ حاتمَ للجودِ، وقُسَّ للخطابةِ، فيقال: رأيتُ حاتماً، وقُسًًّا; بدعوى كليةِ حاتمَ وقسَّ، ودخول المشبَّه في جنسِ الجوادِ والخطيبِ.
    وللاستعارةِ أجملُ وقعٍ في الكتابةٍ، لأنها تمنحُ الكلامَ قوةً، وتكسوهُ حسناً ورونقاً، وفيها تثارُ الأهواءُ والإحساساتُ.

    المبحثُ الثاني - في تقسيم الاستعارة باعتبارِ ما يذكرُ من الطرفينِ

    إذا ذكرَ في الكلامِ لفظُ المشبَّهِ به فقط، فاستعارةٌ تصريحيةٌ أو مصرّحةٌ نحو قول الشاعر :
    وَأَمْطَرَتْ لُؤلُؤاً منْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ وَرْداً وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالبَرَدِ
    فقد استعارَ: اللؤلؤَ، والنرجسَ و الوردَ، والعنابَ، والبرَدَ للدموعِ، والعيونَ، والخدودَ، والأناملَ، والأسنانَ.
    وإذا ذكرَ في الكلام لفظُ المشبَّهِ فقط، وحذِفَ فيه المشبَّهُ به، وأشيرَ إليه بذكر لازمهِ: المسمَّى « تخييلاً» فاستعارةٌ مكنيةٌ أو بالكنايةِ، كقول أبي ذؤيب الهذلي :
    وإذا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفارَها ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
    فقد شبَّه َالمنيةَ، بالسبعِ، بجامعِ الاغتيالِ في كلٍّ، واستعارَ السبعَ للمنيةِ وحذفَه، ورمزَ إليه بشيءٍ من لوازمهِ، وهو (الأظفارُ) على طريق الاستعارةِ المكنيةِ الأصليةِ، وقرينتُها لفظة ُ«أظفار» ،ثم أخذَ الوهمَ في تصوير ِ المنيةِ بصورةِ السبعِ، فاخترعَ لها مثل صورةِ الأظفارِ، ثم أطلقَ على الصورةِ التي هي مثلُ صورةِ الأظفارِ، لفظَ (الأظفارِ) فتكونُ لفظةُ (أظفارٍ) استعارة ً(تخييليةً) لأنَّ المستعارَ له لفظُ أظفارِ صورةً وهميةً، تشبهُ صورةَ الأظفارِ الحقيقيةِ، وقرينتُها إضافتُها إلى المنيةِ، ونظراً إلى أن َّ(الاستعارةَ التخييليةَ) قرينةُ المكنيةِ، فهي لازمةٌ لا تفارقُها، لأنّه لا استعارةَ بدونِ قرينةٍ.
    وإذاً: تكونُ أنواعُ الاستعارة ثلاثةً: تصريحّيةً، ومكنّيةً، وتخييليةّ .

    المبحثُ الثالث -في الاستعارة باعتبارِ الطرفينِ

    في الاستعارة باعتبار اللفظِ المستعارِ إن كان المستعارُ له محققاً حسًّا بأنْ يكونَ اللفظُ قد نقلَ إلى أمرٍ معلومٍ، يمكنُ أن يشارَ إليه إشارةً حسيةً كقولك: رأيتُ بحراً يعطي.
    أو كانَ المستعارُ له محققاً عقلاُ بأنْ يمكنَ أن ينصَّ عليه،ويشارَ إليه إشارةً عقليةً، كقوله تعال: ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )[الفاتحة: 6] أي: الدينَ الحقَّ، فالاستعارةُ تحقيقيةٌ.
    وإن لم يكنِ المستعارُ له محققاً، لا حسًّا ولا عقلا ً فالاستعارة ُتخييليةٌ ، وذلك: كالأظفارِ، في نحو: أنشبتِ المنيةُ أظفارَها بفلانٍ.
    وأما قولُ زهير :
    صَحا القَلبُ عن سلمى وأقصرَ باطِلُهْ وَعُرّيَ أفْرَاسُ الصِّبَا وَرَوَاحِلُهْ
    فيحتملُ أنْ يكونَ استعارةً تخييليةً ، وأنْ يكونَ استعارةً تحقيقيةً، أمَّا التخييلُ فإنه يكونُ أراد أنْ يبينَ أنه ترك ما كان يرتكبُه أو انَ المحبةِ من الجهلِ والغيِّ، وأعرضَ عن معاودتهِ فتعطلتْ آلاتهُ، كأيِّ أمرٍ وطِّنَ في النفس على تركه ِ ،فإنه تهمَلُ آلاتهُ فتتعطلُ، فشبَّه الصِّبا بجهةٍ من جهاتِ المسيرِ كالحجِّ والتجارة ِقضَى منها الوطرَ فأهملَ آلاتِها فتعطلتْ، فأثبتَ له الإفراسُ والرواحلُ، فالصَّبا على هذا من الصَّبوة بمعنى الميلِ إلى الجهلِ والفتوة ِ،لا بمعنَى الفتاءَ وأمَّا التحقيقُ فإنه يكونُ أرادَ دواعي النفوسِ وشهواتِها والقوى الحاصلةَ لها في استيفاءِ اللذاتِ أو الأسبابِ التي قلما تتآخذُ في اتباعِ الغيِّ إلا أوانِ الصِّبا.

    المبحث الرابعُ - في الاستعارة باعتبار اللفظِ المستعارِ

    *- تكونُ الاستعارةُ باعتبار اللفظِ المستعارِ في الأفعالِ أو المشتقاتِ أو الحروفِ على النحو التالي :
    (1)-إذا كانَ اللفظُ المستعارُ «اسماً جامداً لذاتٍ» كالبدرِ إذا استعيرَ للجميلِِ ،أو «اسماً جامداً لمعنًى» كالقتلِ إذا استعيرَ للضربِ الشديدِ ، سميتِ الاستعارةُ « أصليَّةً» كقوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) سورة إبراهيم ، وكقوله تعالى : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (24) سورة الإسراء
    وسمِّيتْ أصليةً لعدمِ بنائها على تشبيهٍ تابعٍ لتشبيهٍ أخرَ معتبَرٍ أوَّلاً .
    وكقول المتنبي يمدح بدر بن عمار :
    في الخّدّ أنْ عَزَمَ الخَليِطُ رَحيلا ... مَطرٌ يَزيدُ بهِ الخُدُودُ مُحُولا
    يقول: إذا عزمَ الخليط ُرحيلاً بكى المحبُّ بكاءً مثلَ المطر، إلا أنهُ لا ينبتُ العشبَ كغيره من الأمطار، والخدودُ يزيد محلُها به .
    (2)- إذا كان اللفظ المُستعارُ « فعلاً» أو اسمَ فعلٍ، أو اسماً مشتقاًّ أو اسماً مبهماً أو حرفاً فالاستعارةُ « تصريحيةٌ تبعيةٌ» نحو: نامتْ همومي عنّي، ونحو: صهٍ: الموضوعُ للسكوتِ عن الكلام، والمستعملُ مجازاً في ترك الفعل، ونحو: الجنديُّ قاتلَ اللصَّ، بمعنى ضاربَه ضرباً شديداً، ونحو: هذا: الموضوعةُ للإشارة ِ الحسيَّةِ، والمستعملةُ مجازاً في الإشارةِ العقليةِ نحو: هذا رأيٌ حسنٌ، ونحوقوله تعالى على لسان فرعون : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه/71])، ونحو قوله تعالى عن موسى عليه السلام : (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص/8]) .
    (3)- إذا كان اللفظُ المستعارُ اسماً مشتقاً، أو اسماً مبهماً، « دون باقي أنواع ِالتبعيةِ المتقدِّمَة» فالاستعارةُ « تبعيةٌ مكنيةٌ» ،وسميتْ (تبعيةً) لأنَّ جريانِها في المشتقاتِ، والحروفِ، تابعٌ لجريانها أولاً: في الجوامدَ، وفي كلياتِ معاني الحروفِ، يعني: أنها سميتْ تبعيةً لتبعيتِها لاستعارةِ أخرى، لأنها في المشتقاتِ تابعةً للمصادرِ، ولأنها في معاني الحروفِ تابعةً لمتعلّقِ معانيها، إذ معاني الحروفِ جزئيةٌ، لا تتصورُ الاستعارةُ فيها إلا بواسطة كليٍّ مستقلٍّ بالمفهوميةِ ليتأتَّى كونُها مشبَّهاً، ومشبَّها بها، أو محكوماً عليها، أو بها.
    نحو: ركبَ فلانٌ كتفي غريَمهُ ، أي: لازمَه ملازمةً شديدة ً .
    وكقوله تعالى : (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة/5])، أي تمكنوا منَ الحصول على الهدايةِ التّامَّةِ ، ونحو: (أذقتَهُ لباسَ الموتِ) أي ألبستُه إياهُ.
    و في الحروفِ كقوله تعالى : { فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) [القصص/8، 9]}
    قال القرطبىُّ :" قوله - تعالى - : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } لما كان التقاطهُم إياهُ يؤدّي إلى كونه لهم عدوّاً وحزناً؛ فاللام في { ليكونَ } لام العاقبة ولام الصيرورة؛ لأنهم إنما أخذوه ليكون لهم قرّةَ عين ، فكان عاقبة ذلك أن كان لهم عدوّاً وحزناً ، فذكر الحال بالمآل؛ كما قال الشاعر :
    وللمنايا تُربِّي كلُّ مُرْضِعةٍ ... ودُورُنا لخراب الدهر نَبْنِيها
    وقال آخرُ :
    فلِلْمَوت تَغْدُّو الوالداتُ سِخَالَها ... كما لِخَرابِ الدَّهْر تُبْنَى المَساكنُ
    أي فعاقبة البناء الخراب وإن كان في الحال مفروحاً به . والالتقاط ُوجود الشيءِ من غير طلبٍ ولا إرادةٍ . والعربُ تقول لما وجدته من غير طلب ولا إرادة : التقطهُ التقاطاً . ولقيتُ فلاناً التقاطاً . قال الراجز :
    ومَنْهَلٍ وَرَدْتُه الْتِقَاطَا لم أَرَ إِذْ وَرَدْتُهُ فُرَّاطَا
    ومنه اللقطة ".
    ويرى بعضُهم أنَّ اللام هنا يصحُّ أن تكون للتعليلِ ، بمعنى ، أنَّ الله - تعالى - سخَّر بمشيئتهِ وإرادتهِ فرعونَ وآله . لالتقاط موسى ، ليجعله لهم عدوًّا وحزناً ، فكأنَّه - سبحانه - يقول : قدَرنا عليهم التقاطَه بحكمتِنا وإرادتِنا ، ليكون لهم عدوا وحزنا .

    *-قرينةُ الاستعارةِ :
    فالقرينة: هي الأمرُ الذي ينصِّبُه المتكلمُ دليلاً على أنه أراد باللفظِ غيرَ معناهُ الحقيقيِّ .
    وهي نوعانِ: لفظيةٌ وغير لفظيةٍ .
    فاللفظيةُ: هي ما دل َّعليها بلفظٍ يذكَرُ في الكلام ليصرفَه عن معناهُ الحقيقيِّ، ويوجهَهُ إلى معناهُ المجازيِّ المرادِ على أن يكونَ من ملائماتِ المشبَّه به في الاستعارةِ التصريحيةِ، ومن ملائماتِ المشبَّهِ في الاستعارةِ المكنيةِ
    وأما غيرُ اللفظيةِ: فهي التي دُلَّ عليها بأمرٍ خارجٍ عن اللفظِ ، وهذا النوعُ من القرينةِ يسمَّى (قرينةً حاليةً )لأنها أمرٌ عقليٌّ لا يدَلُّ عليه بلفظٍ من الكلامِ ، بل يدَلُّ عليه بالحالِ كقول الحطيئة :
    ماذا تَقُولُ لأَفْراخٍ بِذِي مَرَخٍ ... حُمْرِ الحَواصِلِ لا ماءُ ولا شَجَرُ
    أَلْقَيْتَ كاسِيَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَة ... فاغْفِرْ، عليكَ سَلامُ اللّهِ يا عُمَرُ
    فكلمةُ أفراخٍ استعارةٌ ، فقد شبَّه الشاعرُ أطفالَه الصغارِ بأفراخِ الطيرِ بجامعِ العجز ِوالحاجةِ إلى الرعايةِ في كلٍّ منهما، ثم استعارَ الأفراخَ على سبيل الاستعارةِ التصريحيةِ الأصليةِ .

    المبحث ُالخامسُ- تقسيمُ الاستعارة إلى تصريحية وإلى مكنية

    أولا-الاستعارةُ التصريحيةُ : هي ما صُرَّحَ فيها بلَفظِ المشبَّه بهِ.
    كقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة/6]) ،والصراطُ الطريقُ ،فقد شبَّه الدينَ بالصراطِ بجامعِ التوصيل إلى الهدفِ في كلٍّ منهما وحذفَ المشبَّه وهو الإسلامُ وأبقى المشبَّهَ بهِ .
    وقوله تعالى :(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) [إبراهيم/1] )، فقد شبَّه الكفرَ بالظلماتِ والإيمانَ بالنورِ وحذفَ المشبَّه وأبقى المشبَّهَ به
    وكقول المتنبي :
    ولم أرَ قبلي مَنْ مشَى البدرُ نحوهُ ... ولا رَجلاً قامتْ تعْانقُهُ الأسْدُ
    فكلمتي البدرِ والأسدِ مشبَّهٌ به في الأصلِ ، وحُذِفَ المشبَّهُ ، فالبدرُ لا يمشي والأسدُ لا تعانق
    وقال في مدح خط سيف الدولة :
    أمَا تَرَى ظَفَراً حُلْواً سِوَى ظَفَرٍ تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّممُ
    فهذا البيت يحتوي على مجاز هو "تصافحت" الذي يراد منه تلاقَت، لعلاقة المشابهة والقرينةِ "بيضُ الهند واللمم".
    وإذا تأملتَ كل مجاز سبق َرأيتَ أنه تضمَّن تشبيهاً حُذِف منه لفظ المشبَّه واستعير بدله لَفْظ المشبَّه به ليقومَ مقامه بادعاء أنَّ المشبه به هو عينُ المشبَّه، وهذا أبعدُ مدى في البلاغةِ، وأدخَل في المبالغة، ويسمَّى هذا المجاز استعارةً، ولما كان المشبَّهُ به مصرّحاً به في هذا المجاز سمّيَ استعارةً تصريحيةً.
    ثانيا- الاستعارةُ المكنيَّةُ : هي ما حُذِفَ فيها المشَبَّهَ بهِ ورُمِزَ لهُ بشيء مِنْ لوازمه.
    كقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) [الإسراء/24] )، فقد شبَّه الذلَّ بالطائرِ ، وحذف المشبَّه به ولكنْ رمزَ إليه بشيءٍ من لوازمهِ وهو الجناحُ ، فلم يذكر من أركانِ التشبيه إلا الذلَّ وهو المشبَّهُ .
    وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ » ، فقد شبَّه الإسلامَ بالبيتِ، ولكن حذف المشبَّهَ به وهو البيتُ وأبقى بعضاً من لوازمهِ الجوهريةِ وهو البناءُ.
    وقال الحجَّاجُ بن يوسفَ في أول خطبة بأهل الكوفة :"أني لأرَى رُؤوُساً قَدْ أيْنَعَتْ وحَانَ قِطافُها وإِنّي لَصَاحِبُهَا "
    فإنَّ الذي يفهَمُ منه أَن يشبِّه الرؤوسَ بالثمراتِ، فأَصلُ الكلام إِني لأرى رؤوساً كالثمراتِ قد أينعتْ، ثم حذف المشبَّّه به فصار إني لأرى رؤوساً قد أينعتْ، على تخيُّلِ أن الرؤوسَ فد تمثلت في صورةِ ثمار، ورُمز للمشبَّه به المحذوف بشيء من لوازمهِ وهو أينعت، ولما كان المشبَّه به في هذه الاستعارةُ محْتجباً سميتِ استعارةً مكنيةً
    وقال المتنبي :
    ولمّا قَلّتِ الإبْلُ امْتَطَيْنَا إلى ابنِ أبي سُلَيْمانَ الخُطُوبَا
    أي لما أعوزتنا الإبلُ وفقدناها لقلةِ ذاتِ اليد أدتني المحنُ والشدائدُ إلى الممدوحِ ، فكأنها كانتْ مطايا لنا

    المبحثُ السادسُ – في المجاز المركب بالاستعارةِ التمثيلية

    *-تعريفُهُ :هو تركيبٌ استُعْمِلَ في غير ما وُضِعَ له لِعلاَقَةِ المشابَهةِ مَعَ قَرينَةٍ مَانِعةٍ مِنْ إِرادةِ مَعْناهُ الأَصْليّ. بحيثُ يكون كلٌّ منَ المشبَّه والمشبَّه به هيأةً منتزعةً منْ متعددٍ ،وذلك بأنْ تشبَّهَ إحدى صورتينِ منتزعتينِ من أمرينِ، أو أمورٍ (بأخرَى) ثم تدخل المشبَّهَ في الصورةِ المشبَّهِ بها مبالغةً في التشبيهِ – ويسمَّى بالاستعارةِ التمثيليةِ، وهي كثيرةُ الورودِ في الأمثال السائرةِ، نحو: الصيفُ ضيعتِ اللبنَ – يضربُ لمن فرَّط في تحصيلِ أمرٍ في زمنٍ يمكنهُ الحصولُ عليه فيه، ثم طلبَه في زمنٍ لا يُمكنهُ الحصولُ عليه فيه، ونحو: ( إني أراكَ تقدِّمُ رجلاً وتؤخِّرُ أخرَى) يضرَبُ لمن يترددُ في أمرٍ، فتارةً يقدِمُ، وتارةً يحجمُ، ونحو: ( أحَشَفاً وسوءَ كِيلَةٍ ؟ ) يضرَبُ لمن يظلَمُ من وجهينِ – وأصلُه أنّ رجلاً اشترى تمراً منْ آخر، فإذا هو رديءٌ، وناقصُ الكيلِ، فقال المشتري ذلك – ومثل ما تقدم جميعُ الأمثال السائرةِ (نثراً ونظماً) فمنَ النثرِ قولهُم: لمن يحتالُ على حصول أمر خفيٍّ، وهو متسترٌ تحت أمرٍ ظاهرٍ :« لأمرٍ مَّا جُدع قصيرٌ أنفه » ، وقولهم: « تجوعُ الحُرّةُ ولا تأكُلُ بثَدْيَيها » ، وقولهم لمنْ يريدُ أن يعملَ عملاً وحدَه وهو عاجزٌ عنه :« اليد لا تصفق وحدها» تشبيهاً له باليد الواحدة. وقولهم لمجاهدٍ عادَ إلى وطنهِ بعد سفر: « عادَ السَّيْفُ إلى قِرَابهِ، وَحلَّ اللَّيْثُ منيعَ غابه » وقولهم لمن يأتي بالقول الفصل :( قَطَعَتْ جَهيزَةُ قَوْلَ كلِّ خَطيبِ) . وهو تركيب يُتَمَثلُ به في كل موطن يؤتَى فيه بالقولِ الفصل.
    ومن الشعرِ قولُ الشاعر :
    إذا جاءَ موسى وألقى العصا فقد بطلَ السِّحرُ والساحرُ
    وقال المتنبي :
    ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ يَجدْ مُرّاً بهِ المَاءَ الزُّلالا
    هذا البيتُ يدل وضْعه الحقيقيُّ على أَن المريضَ الذي يصابُ بمرارة في فمهِ إذا شربَ الماءَ العذبَ وجده مُرًّا، ولكنه لم يستعمله في هذا المعنى بل استعمله فيمن يَعيبون شِعْرَه لعيْب في ذوقهم الشعري. وضعْف في إدراكهم الأدبي، فهذا التركيب مجاز قرينته حالِيَّة، وعلاقته المشابهة، والمشبه هنا حال المُولَعين بذمه والمشبه به حال المريض الذي يجد الماءَ الزلال مرًّا.


    المبحث ُالسابعُ- تنبيهاتٌ عشرة

    التنبيهُ الأول- كلُّ تبعيةٍ قرينتها مكنيةٌ.
    التنبيه الثاني- إذا أجريتِ الاستعارةُ في واحدة من الاستعارة التصريحيةِ أو في الاستعارة المكنيةِ، امتنعَ إجراؤُها في الأخرى.
    التنبيه الثالث- تقسيمُ الاستعارة إلى أصليةٍ وتبعيةٍ عامٌّ في كلٍّ من الاستعارةِ التصريحيةِ والمكنيةِ.
    التنبيه الرابع- تبينَ أنَّ الاستعارةَ هي اللفظُ المستعملُ في غير ما وضعَ له، لعلاقة المشابهةِ، مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الوضعيِّ .أو هي: مجازٌ لغويٌّ علاقتُه المشابهةُ، كقول زهير :
    لَدَى أَسَدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
    فقد استعارَ لفظَ الأسدِ: للرجلِ الشجاعِ لتشابههِما في الجراءة،والمستعار له هنا: محققٌ حسًّا.
    و كقوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (6) سورة الفاتحة ; فقد استعارَ الصراط المستقيمَ للدين الحقِّ، لتشابههما في أن كلاّ يوصل إلى المطلوبِ.
    و كقوله تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) سورة إبراهيم ،أي من الضلالِ إلى الهدى، فقد استعير لفظ الظلمات للضلال، لتشابههما في عدم اهتداء صاحبيِهما، وكذلك استعير لفظ النور للإيمان.لتشابههما في الهدايةِ، والمستعاراتُ لهما هو الضلالُ والإيمانُ، كلٌّ منها محققٌ عقلاً وتسمَّى هذه الاستعاراتُ تصريحيةً وتسمَّى تحقيقيةً.
    وأمَّا قول أبي ذؤيب الهذلي :
    وإذا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفارَها ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
    في اغتيال النفوس قهراً،من غير تفرقةٍ بين نفاعٍ وضرارٍ، ولم يذكر لفظ المشبَّه به، بل ذكر بعض لوازمِه وهو أظفارُها التي لا يكمل الاغتيالُ في السبع إلا بها.تنبيهاً على المشبَّه به المحذوفِ فهو استعارةٌ مكنيةٌ .
    وكقول الشاعر :
    ولئن نطقتُ بشكرِ بِرِّكَ مفْصِحا ... فلسانُ حالي بالشِّكايةِ أنطَقُ
    فشبه الحالَ، بإنسانٍ ناطقِ في الدلالةِ على المقصود، ولم يصرح بلفظ المشبَّه به ،بل ذكر لازمه،وهو اللسانُ الذي لا تقومُ الدلالة الكلاميةُ إلا به، تنبيهاً به عليه، فهو أيضاً استعارةٌ مكنيةٌ،وقد أثبتَ للمشبه لازمٌ من لوازم المشبَّه به، لا يكون إلا به كمالُه أو قوامُه في وجه الشبهِ كالأظفار التي لا يكمل الافتراسُ إلا بها.كما في المثال الأول واللسان الذي لا تقوم الدلالةُ الكلامية في الإنسان إلا به، كما في المثال الثاني وليس للمنية شيء كالأظفار نقل إليه هذا اللفظ، ولا للحال شيء كاللسان نقل إليه لفظ اللسان.و ما كان هذا حاله يعتبر طبعاً تخييلاً أو استعارةً تخييلةً.
    التنبيه الخامس- تقدم أنَّ الاستعارةَ التصريحيةَ أو المصرحةَ: هي ما صرِّح فيها بلفظِ المشبَّه به.
    وأن َّالمكنيةَ، هي ما حذِفَ فيها لفظُ المشبَّه به، استغناءً ببعض لوازمِه التي بها كمالُه أو قَوامُه في وجه الشبَّه
    وأنَّ إثباتَ ذلك اللازمِ تخييلٌ أو استعارةٌ تخييليةٌ.،غير أنهم اختلفوا في تعريف كل ٍّمن المكنيةِ والتخييلةِ.
    فمدهبُ السَّلف: أنَّ المكنيّةَ: اسمُ المشبَّه به، المستعارُ في النفس للمشبَّه، وأنَّ إثباتَ لازم المشبَّه به للمشبَّه استعارةٌ تخييلية ٌ ،فكلُّ من الأظفارِ في قوله: وإذا المنيةُ أنشبتْ أظفارَها.واللسانِ في قوله: فلسانُ حالي بالشكايةِ أنطقُ ، حقيقةٌ، لأنه مُستعملٌ فيما وضِع لهُ.
    و مذهبُ «الخطيبِ القزويني» أنَّ المكنيةَ : هي التشبيهُ المضمَرُ في النفس، المرموزُ إليه بإثباتِ لازم المشبَّه به للمشبَّه ،و هذا الإثباتُ هو الاستعارةُ التخييليةُ.
    و مذهب «السكاكيِّ» أنَّ المكنيةَ لفظُ المشبَّه، مراداً به المشبَّه به ،فالمرادُ بالمنيةِ في قوله: وإذا المنيةُ أنشبتْ أظفارَها هو السبعُ بادعاءِ السبعيةِ لها.وإنكارِ أنْ تكونَ شيئاً غيرَ السبع، بقرينةِ إضافةِ الأظفار التي هي من خواصِّ السبع إليها.والتخييليةُ عندهُ ما لا تحقق لمعناهُ؛لاحساً ولا عقلاً ،بل هو صورةٌ وهميةٌ محضةٌ: كالأظفارِ في ذلك المثال ،فإنه لما شبَّه المنيةَ، بالسبعِ في الاغتيالِ، أخذَ الوهم يصورها بصورته.ويخترعَ لها لوازمَه، فاخترع لها صورةً كصورةِ الأظفار،ثم أطلق عليها لفظَ الأظفارِ فيكون لفظُ الأظفارِ استعارةٌ تصريحيةٌ تخييلةٌ.أما أنها تصريحيةٌ: فلأنهُ صرح فيها بلفظ المشبَّه به وهو اللازمُ الذي أطلقَ على صورةٍ وهميةٍ شبيهةٍ بصورة الإظفارِ المحققةِ ،وأما أنها تخييليةٌ: فلأن المستعارَ له غير محققٍ لاحسًّا ولا عقلاً،والقرينةُ على نقل الأظفارِ من معناها الحقيقيِّ إلى المعنى المتخيَّلِ، إضافتها إلى المنيةِ.هذا، ومذهبُ السكاكيِّ في المكنيةِ مردودٌ عليه، بأنَّ لفظَ المشبَّه فيها مستعملٌ فيما وضعَ له تحقيقاً، للقطعِ بأن المرادَ بالمنيةِ الموتُ لا غيرَ، فليس مستعاراً.
    التنبيه السادس- الاستعارةُ صفةٌ للَّفظ على المشهور; والحقُّ أنَّ المعنى يعارُ أولاً ثم يكونُ اللفظُ دليلاً على الاستعارةِ، وذلك:
    1 - لأنه إذا لم يكن نقلُ الاسم تابعاً لنقل المعنى تقديراً لم يكن ذلك استعارةً ،مثلَ الأعلامِ المنقولة، فأنت إذا سميتِ إنساناً بأسدٍ، أو نمرِ، أو كلبٍ، لا يقال: إنَّ هذه الأسماءَ مستعارةٌ; لأنَّ نقلها لم يتبعْ نقل معانيها تقديراً.
    2 - ولأنَّ البلغاءَ جزموا بأن الاستعارةَ أبلغُ من الحقيقةِ ، فإن لم يكن نقل الاسم تابعاً لنقل المعنى، لم يكن فيه مبالغةٌ، إذ لا مبالغةَ في إطلاقِ الاسم المجردِ عن معناه.
    التنبيه السابع- ظهرَ أنَّ الاستعارةَ باعتبار اللفظ نوعان أصليةٌ وتبعيةٌ.
    فالأصلية: ما كان فيها المستعارُ اسمَ جنسٍ غيرَ مشتقٍّ، سواءٌ أكان اسمَ ذاتٍ كأسد للرجل الشجاع، أم اسمَ معنى، كقتلَ للإذلالِ، وسواء أكان اسمَ جنسٍ حقيقةً كأسدِ وقتلٍ، أم تأويلاً كما في الأعلامِ المشهورةِ بنوع من الوصفِ كحاتم في قولك: رأيتُ اليومَ حاتماً، تريد رجلاً كاملَ الجودِ ، فاعتبر لفظُ حاتمٍ في قوة الموضوعِ لمفهومٍ كليٍّ، حتى كادَ يغلبُ استعماله في كلِّ من له وصفُ حاتم، فكما أنَّ أسداً يتناول الحيوان َالمفترسَ والرجلَ الشجاعَ: كذلك حاتمُ يتناول الطائيُّ وغيره ادعاءً، ويكون استعمالُه في الطائيِّ حقيقةً، وفي غيره مجازاً، لأن الاستعارةَ مبنيةٌ على ادعاءِ أنَّ المشبَّه فردٌ من أفراد المشبَّه به، فلابد أن يكون المشبَّه به كلياً ذا أفرادٍ.
    والمرادُ باسم الجنسِ غيرِ المشتقِّ ما صلُحَ لأنْ يصدقَ على كثيرينِ من غير اعتبارِ وصفٍ من الأوصاف في الدلالةِ.
    وليس العلمُ الشخصيُّ واسمُ الإشارة والضميرُ والموصولُ من الكلياتِ، فلا تصحُّ أن تجرَى فيها الاستعارةُ الأصليةُ.
    أما المشتقُّ فالصفةُ جزءٌ من مدلولهِ وضعاً، لأنه موضوعٌ لذاتٍ متصفةٍ بصفةٍ، فكريم ٌموضوع ٌلذاتٍ متصفةٍ بالكرمِ، وقتيلٌ موضوعٌ لذاتِ متصفةٍ بوقوع القتل عليها.
    و قد اعتبرتِ الأعلامُ التي تتضمن معنى الوصفِ اسمَ جنس تأويلاً ،ولم تعتبرْ من قبيل المشتقِّ، لأنَّ الوصفَ ليس جزءاً من معناها وضعاً، بل هو لازمٌ له، غيرُ داخلٍ في مفهومه، فحاتمُ لم يوضعْ للدلالة على الجودِ ولا على ذاتٍ متصفةٍ به، ولكنَّ الجودَ عرَضٌ له.ولزمَهُ فيما بعدُ.
    التنبيه الثامن- التبعيةُ ماكان فيها المستعارُ مشتقًّا، ويدخل في هذا: الفعلُ والاسمُ المشتق، والحرفُ.
    فاستعارة الفعل ، نحو قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } (11) سورة الحاقة ،
    يقالُ: شبَّه زيادة الماء زيادةً مفسدةً، بالطغيانِ، بجامعِ مجاوزة الحدِّ في كلَّ، وادعى أنَّ المشبَّه فردٌ من أفرادِ المشبَّه به، ثم استعيرَ المشبَّه به للمشبَّه: على سبيل الاستعارةِ التصريحيةِ الأصليةِ، ثم اشتقَّ من الطغيانِ بمعنى الزيادة طغى بمعنى زادَ، وعلا; على سبيل الاستعارةِ التصريحيةِ التبعيةِ.
    ونحو قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا ..} (168) سورة الأعراف، ونحو قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (24) سورة الانشقاق،
    التنبيه التاسع- قد يستعملُ لفظُ الماضي موضعَ المضارع، بناء على تشبيهِ المستقبلِ المحققِ، بالماضي الواقعِ، بجامعِ تحققِ الوقوع في كل، نحو قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ...} (21) سورة فصلت.
    و قد يعبَّرُ بالمضارعِ عن الماضي، بناءً على تشبيهِ غير الحاضر بالحاضرِ في استحضارِ صورتهِ الماضيةِ، لنوع غرابةٍ فيها.نحو: قوله تعالى : {.. قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ..} (102) سورة الصافات
    ونحو: إنما أصادقُ الأصمَّ عن الخنَى، وأجاور الأعمى عن العورات، ونحو: فلسانُ حالي بالشكايةِ أنطقُ: أي أدلُّ.و نحو قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ..} (52) سورة يــس .ونحو: جئت بمقتالك : أي بالآلة التي أضربك بها ضرباً شديداً.
    التنبيه العاشر- مدارُ قرينة التبعية في الفعل والمُشْتق على ما تأتي:
    1 - على الفاعل: نحو قوله تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } (11) سورة الحاقة ، ونطقتِ الحالُ بكذا .
    2- أو على نائبهِ، نحو قوله تعالى : {..وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ..} (61) سورة البقرة
    3 -أو على المفعول به، نحو قول ابن المعتز :
    جُمِعَ الحقُّ لنا في إمامٍ، قتلَ البخلَ ، وأحيا السماحا
    4 -أو على المفعول به الثاني ،نحو قول كعب بن زهير :
    صَبَحْنا الخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفاتٍ أَبارَ ذَوِي أَرُومَتِها ذَوُوها
    5 - أو على الفاعل والمفعولين، كقول الشاعر :
    تَقري الرياحُ رياض الحزن مزهرة إذا سرى النومُ في الأجفان إيقاظَا
    6 - أو على مفعولين، كقوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا ...} (168) سورة الأعراف
    7 - أو على المجرور، نحو قوله تعالى : {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (94) سورة الحجر ونحو قوله تعالى : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } (18) سورة الأنبياء.
    هذا وقد تكون قرينةُ التبعية غيرَ ذلك، نحو قوله تعالى : {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (52) سورة يــس ،إذ القرينةُ في هذه الآية، كونُه من كلام الموتى، مع قوله: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)
    و من هذه الأمثلة السابقه: يتبينُ أنه لا يُشترط أن يكون للمشبَّه حرفٌ موضوع ٌله يدلُّ عليه.

    المبحثُ الثامن -في تقسيم الاستعارة المصرَّحة باعتبار الطرفين إلى عناديةٍ ووفاقيةٍ

    *- فالعناديةُ: هي التي لا يمكنُ اجتماعُ طرفيها في شيءٍ واحدٍ لتنافيهما كاجتماعِ النور والظلام.
    *-والوفاقيةُ: هي التي يمكنُ اجتماعُ طرفيها في شيءٍ واحدٍ لعدم التنافي كاجتماع ِالنور والهُدى.
    و مثالهم قوله تعالى: (أوَمَنْ كانَ ميْتَاً فأحييناهُ)[الأنعام: 122] أي ضالاً فهديناه.ففي هذه الآية استعارتانِ:الأولى: في قوله ميتاً شبَّه الضلال: بالموتِ، بجامعِ ترتب نفي الانتفاع في كلٍّ،واستعيرَ الموتُ للضلال، واشتقَّ من الموت بمعنى الضلال، مَيتاً بمعنى ضالاً، وهي عناديةٌ، لأنه لا يمكنُ اجتماعُ الموت والضلالِ في شيءٍ واحدٍ
    والثانيةُ: استعارةُ الإحياءِ للهدايةِ، وهي وفاقيةٌ ، لإمكان اجتماعِ الإحياءِ والهدايةِ في الله تعالى: فهو مُحيي وهادٍ.
    ثمَّ العناديةُ قد تكونُ تمليحيةً، أي المقصودُ منها التمليحُ والظرافةُ.
    و قد تكونُ تهكُّميةً ، أي المقصودُ منها التهكَّمُ والاستهزاءُ، بأنْ يستعمل اللفظُ الموضوعُ لمعنى شريفٍ، على ضدِّهِ أو نقيضهِ، نحو :رأيتُ أسداً تريدُ جباناً، قاصداً التمليحَ والظرافةَ، أو التهكُّم والسخريةَ: وهما اللتان
    نُزِّل فيهما التضادُّ، منزلةَ التناسبِ ـ نحو قوله تعالى : {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (24) سورة الانشقاق، أي أنذرهم، فاستعيرتِ البشارةُ التي هي الخبرُ السارُّ، للإنذار الذي هو ضدَّه بإدخال الإنذار في جنسِ البشارة، على سبيل التهكُّم والاستهزاءِ.
    و كقوله تعالى: {.. فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} (23) سورة الصافات


    المبحثُ التاسعُ -في تقسيم الاستعارة باعتبار الجامع


    *-الاستعارةُ المصرَّحةُ باعتبار الجامعِ نوعان :
    1 - عاميَّةٌ: وهي القريبةُ المبتذلةُ التي لا كتها الألسنُ، فلا تحتاجُ إلى بحث، ويكون الجامعُ فيها ظاهراً نحو: رأيتُ أسداً يرمي.في تقسيمِ الاستعارة باعتبار ما يتَّصلُ بها منَ المُلاءماتِ، وعدمِ اتصاله .
    و كقول الشاعر :
    وأدْهمَ يَسْتَمِدُّ الليْلُ مِنْه … …وتطْلُع بَيْن عَيْنَيْهِ الثُّريا
    فقد استعار الثريا لغرَّة المهر، والجامعُ بين الطرفين ظاهر، وهو البياضُ ،وقد يتصرَّف في العامية بما يخرجها إلى الغرابة.
    2 -خاصيَّةٌ: وهي الغريبةُ التي يكون الجامعُ فيها غامضاً، لا يدركهُ إلاّ أصحابُ المدارك من الخواصِّ كقول كثيِّرٍ يمدح عبد العزيز بن مروان :
    غَمْرُ الرِّداءِ إِذَا تَبَسَّم ضاحِكاً ... غَلِقَتْ لِضَحْكَتِه رِقَابُ المالِ
    غمرُ الرداء كثيرُ العطايا والمعروفِ، استعار الرِّداءَ للمعروف، لأنه يصونُ ويستر عرضَ صاحبه، كستر الرداء ما يلقى عليه، وأضاف إليه الغمر، وهو القرينةُ على عدم إرادة معنى الثوب، لأنَّ الغمرَ من صفاتِ المالِ، لا من صفاتِ الثوب.و هذه الاستعارةُ: لا يَظفرُ باقتطاف ثمارِها إلا ذَوُو الفِطَر السليمةِ والخبرةِ التامةِ.

    المبحثُ العاشرُ -في تقسيم الاستعارة باعتبار ما يتَّصل بها من المُلاءمات، و عدمِ اتصالها

    تنقسم الاستعارةُ باعتبار ذكر ملائمِ المستعارِ منه، أو باعتبار ذكر ملائم ِالمستعار لهُ، أو باعتبار عدم اقترانها بما يلائمُ أحدهما،إلى ثلاثة أقسامٍ: مطلَقةٌ، ومرَشحةٌ، ومجرّدةٌ.
    أ - فالمطلقةُ: هي التي لم تقترن بما يلائمُ المشبَّه والمشبَّه به، نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ..} (27) سورة البقرة .
    أو ذكرَ فيها ملائمِهما معاً، كقول زهير :
    لَدَى أَسَدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
    استعار الأسدَ للرجل الشجاع، وقد ذكر ما يناسبُ المستعارُ له، في قوله: شاكي السلاحَ مقذَّفٍ وهو التجريدُ، ثم ذكر ما يناسبُ المستعارَ منه، في قوله: له لبدٌ أظفاره لم تقلمِ ، وهو الترشيحُ، واجتماع التجريدِ والترشيحِ يؤدَّي إلى تعارُضهِما وسقوطِهما، فكأنّ الاستعارةَ لم تقترنْ بشيءٍ وتكونُ في رتبةِ المطلقةِ.
    ب -المرَشَّحةُ: هي التي قرنت بملائمِ المستعارِ منه ،أي المشبَّه به، نحو قوله تعالى : {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} (16) سورة البقرة ،استعيرَ الشراءُ للاستبدال والاختيارِ، ثم فرعَ عليها ما يلائم المستعارُ منه من الرِّبح والتجارة ونحو من باعَ دينهُ بدنياه لم تربحْ تجارَته.وسميتْ مرشحةً لترشيحِها وتقويتِها بذكر الملائِم، وترشيحُ الاستعارةِ التصريحيةِ متفَقٌ عليه.
    ج -المجرَّدةُ: هي التي قرنت بملائمِ المستعارِ له أي لمشبَّه نحو: اشتَر بالمعروف عِرْضَكَ من الأَذى.
    و سمِّيتْ بذلك: لتجريدِها عن بعض المبالغةِ، لبعدِ المشبَّه حينئذ عن المشبَّه به بعض بُعدٍ; وذلك يبعد دعوى الاتحادِ الذي هو مبنى الاستعارة.
    ثم اعتبار الترشيحِ والتجريدِ، إنما يكونُ بعد تمام الاستعارةِ بقرينتها سواء أكانت القرينةُ مقاليةً أم حالية ً ،فلا تعدُّ قرينةُ المصرحةِ تجريداً ولا قرينةُ المكنيةِ ترشيحاً ،بل الزائد على ما ذكر.
    واعلمْ أنَّ الترشيحَ أبلغُ من غيره، لا شتمالِه على تحقيقِ المبالغة بتناسي التشبيه، وادعاءِ أنَّ المستعارَ له هو نفسُ المستعار منه لا شيءٌ شبيهٌ به، وكأن الاستعارةَ غيرُ موجودةٍ أصلاً، والإطلاقُ أبلغُ من التجريدِ، فالتجريدُ أضعفُ الجميع، لأن َّبه تضعفُ دعوى الاتحادِ.
    و إذا اجتمع ترشيحٌ وتجريدٌ: فتكونُ الاستعارة ُفي رُتبةِ المطلقةِ، إذ بتعارضِهما يتساقطانِ، كما سبق تفصيلُه.
    و كما يجري هذا التقسيمُ في التصريحيةِ يجري أيضاً في المكنيةِ .


    المبحثُ الحادي عشر-في المجاز المُرسل المركَّب

    *- تعريفُه :هو الكلام المستعملُ في غير المعنى الذي وضعَ له، لعلاقةٍ غير المشابهة، مع قرينة مانعةٍ من إرادة معناه الوضعيِّ.
    ويقعُ أولا- في المركبات الخبريةِ المستعملة في الإنشاءِ وعكسهِ، لأغراضٍ منها:
    1 - التَّحَسُّر وإظهارُ التأسف، كما في قول البارودي :
    ذهبَ الصبا ، وَ تولتِ الأيامُ فعلى الصبا ، وَ على َ الزمانِ سلامُ
    فإنه وإن كان خبراً في أصل وضعه، إلا أنه في هذا المقَام مستعملٌ في إنشاء التحَّسرِ والتحزنِ على ما فات من الشباب.
    و كما في قول جعفر بن عُلبة الحارثي :
    هَوايَ مع الرَّكْبِ اليَمانِينَ مُصْعِدٌ ... جَنِيبٌ وجُثْمانِي بمَكَّةَ مُوثَقُ
    فهو يشير إلى الأسف والحزنِ الذي ألمَّ به من فراق الأحبة، ويتحسَّرُ على ما آل إليه أمره، والقرينةُ على ذلك حالُ المتكلم، كما يفهم من الشطر الثاني في قوله هَوَاىَ، الخ.
    2 - إظهارُ الضعف، كما في قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام : {.. رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (24) سورة القصص ،و كما في قول الشاعر :
    رَبَّ إني لا أستطيعُ اصطباراً فاعفُ عنِّي يا منْ يقيلُ العثارا
    3 - إظهارُ السرور، نحو: كُتِبَ اسمي بين الناجحين.
    4 -الدعاءُ، نحو: نجَّحَ اللهُ مقاصدنا، أيها المجاهدُ لك البقَاءُ.
    وثانياً- في المركبات الإنشائية،كالأمر، والنهي، والاستفهام، التي خرجت عن معانيها الأصليةِ، واستعملت في معان أُخر: كما في قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كذَب على متعمداً فلْيَتَبوأ مقعده من النارِ» .إذ المراد «يتبوأُ مقعدهُ» والعلاقةُ في هذا السَّببيَّة والمسببيةِ، لأنَّ إنشاء المتكلم للعبارة سببٌ لإخبارهِ بما يتضمَّنُهُ، فظاهره أمرٌ،ومعناه خبرٌ


    المبحثُ الثاني عشر – في بلاغة الاستعارة

    سبق لكَ أَنَّ بلاغة التشبيه آتية من ناحيتين: الأُولى تأْليف أَلفاظه، والثانيةِ ابتكار مشبَّه به بعيد عن الأَذهانِ، لا يجول إِلا في نفسِ أديبِ وهبَ الله له استعدادًا سليماً في تعرُّف وجوه الشَّبه الدقيقةِ بين الأَشياء، وأودعه قدْرةً على ربط المعاني وتوليدِ بعضها من بعض إلى مدًى بعيدٍ لا يكاد ينتهي.
    وسرُّ بلاغةِ الاستعارة لا يتعدى هاتين الناحيتين، فبلاغتُها من ناحية اللفظ. أنَّ تركيبها يدل على تناسي التشبيه، ويحمْلك عمدًا على تخيُّل صورة جديدة تُنْسيك رَوْعَتُها ما تضمَّنه الكلام من تشبيه خفي مستور.
    انظر إِلى قول البحتريِّ في الفتح بن خاقان :
    يَسمُو بكَفٍّ، على العافينَ، حانيَةٍ، تَهمي، وَطَرْفٍ إلى العَلياءِ طَمّاحِ
    ألست ترى كفّه وقد تمثَّلتْ في صورة سحابة هتَّانة تصُبُّ وبلها على العافين السائلين، وأنَّ هذه الصورة قد تملكتْ عليك مشاعرك فأذْهلتْكَ عما اختبأَ في الكلام من تشبيه؟
    وإذا سمعتَ قوله في رثاء المتوكل وقد قُتلَ غِيلةً :
    صَرِيعٌ تَقَاضَاهُ السّيُوفُ حُشَاشَةً، يَجُودُ بها، والمَوْتُ حُمْرٌ أظافرُهْ
    فهل تستطيعُ أن تُبعِدَ عن خيالك هذه الصورة المخيفةَ للموت، وهي صورة ُحيوانٍ مفترس ضرِّجتْ أظافره بدماءِ قتلاه؟
    لهذا كانتِ الاستعارةُ أبلغَ من التشبيه البليغ؛ لأنه - وإِنْ بنيَ على ادعاءِ أن المشبَّه والمشبَّه به سواءٌ -لا يزالُ فيه التشبيه منْوِيًّا ملحوظاً ،بخلافِ الاستعارة فالتشبيهُ فيها مَنْسيٌّ مجحُودٌ؛ ومن ذلك يظهر لك أنَّ الاستعارةَ المرشحةَ أبلغُ من المطْلَقَةِ، وأن المطلقةَ أبلغُ من المجردة.
    أمَّا بلاغةُ الاستعارة ِمن حيثُ الابتكارُ ورَوْعَةُ الخيال، وما تحدثُه من أثر في نفوس سامعيها، فمجالٌ فسيحٌ للإبداعِ، وميدانٌ لتسابق المجيدين من فُرسانِ الكلام.
    انظر إلى قوله عزَّ شأْنه في وصف النار: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} (8) سورة الملك ،ترتسم ُأمامك النارُ في صورة مخلوقِ ضَخْمٍ بطَّاشٍ مكفهرِّ الوجه عابسٍ يغلي صدرُه حقدًا وغيظاً.
    ثم انظر إلى قول أبى العتاهية في تهنئة المهدي بالخلافة :
    أتتْهُ الخِلاَفَةُ مُنْقادَةً ... إلَيْهِ تُجَرِّرُ أذْيالَها
    تجد أن الخِلافة غادةٌ هيفاءُ مُدَلَّلَة ملولٌ فُتِن الناسُ بها جميعاً، وهي تأْبى عليهم وتصدُّ إِعراضاً، ولكنها تأْتي للمهدي طائعة في دلال وجمال تجرُّ أَذيالها تيهاً وخفرًا.هذه صورةٌ لا شك رائعةٌ أَبْدع أَبو العتاهية تصويرَها، وستبقى حُلوةً في الأسماع حبيبةً إِلى النفوس ما بقيَ الزمانُ.
    ثم اسمع قول البارودي :
    إِذَا اسْتَلَّ مِنْهُمْ سَيِّدٌ غَرْبَ سَيْفِهِ تفزَّعتِ الأفلاكُ ، والتفَتَ الدَهرُ
    وخبرني عما تحسُّ وعما ينتابك من هولٍ. مما تسمع. وقل لنا كيفَ خطرتْ في نفسك صورةُ الأَجرام السماوية العظيمةِ حيَّةً حساسة تَرتعِد فَزَعاً وَوَهَلا، وكيف تصورتَ الدهرَ وهو يلتفتُ دهشاً وذهولاً؟
    ثم اسمع قوله في منفاهُ وهو نهْبُ اليأْسِ والأملِ :
    أَسْمَعُ فِي قَلْبِي دَبِيبَ الْمُنَى وألمحُ الشُّبهة َ فى خاطِرِي
    تجدْ أَنه رسمَ لك صورةً للأمل يتمَشى في النفس تمشيًّا مُحَسًّا يسمعه بأْذنه. وأنَّ الظنون والهواجسَ صار لها جسمٌ يراه بعينه؛ هل رأَيت إِبداعاً فوق هذا في تصويره الشك والأمل يتجاذبان؟ وهل رأيت ما كان للاستعارة البارعة من الأَثر في هذا الإِبداع؟
    ثم انظر قولَ الشريف الرضي في الودَاعِ :
    نَسرِقُ الدّمعَ في الجُيوبِ حَياءً وَبِنَا مَا بِنَا مِنَ الإشفَاقِ
    هو يسرقُ الدمعَ حتى لا يُوصمَ بالضعفِ والخَور ساعةَ الوداعِ، وقد كان يستطيعُ أن يقول: "نَستُر الدمع في الجيوب حياءً"؛ ولكنه يريد أن يسمو إِلى نهاية المُرْتقى في سحر البيان، فإن الكلمة "نسْرِقُ" ترسُم في خيالك صورةً لشدةِ خوفهِ أَن يظهر فيه أثرٌ للضعفِ، ولمهارتهِ وسرعتهِ في إِخفاء الدمع عن عيون الرقباءِ. .


    .
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 16:51

    الفصلُ الرابعُ - في الكنايةِ

    *-الكناية لغة: ما يتكلمُ به الإنسانُ، ويريد به غيره، وهي: مصدر كنيت، أو كنوت بكذا، عن كذا، إذا تركت التصريح به .
    واصطلاحاً: لفظٌ أريد به غيرُ معناهُ الذي وضعَ له، مع جواز إرادةِ المعنى الأصليِّ، لعدم وجود قرينةٍ مانعة من إرادته، نحو : « زيدٌ طويل ُالنجادُ » تريد بهذا التركيب أنه شجاعٌ عظيم، فعدلت عن التصريح بهذه الصفة، إلى الإشارة إليها بشيءٍ تترتب عليه وتلزمه، لأنه يلزم من طول حمالةِ السيف طولُ صاحبه، ويلزم من طول الجسمِ الشجاعةُ عادةً، فإذاً: المراد طولُ قامته، وإنْ لم يكن له نجادٌ، ومع ذلك يصحُّ أن يراد المعنى الحقيقيَّ ، ومن هنا يعلَمُ أنَّ الفرقَ بين الكناية والمجاز صحةُ إرادةِ المعنى الأصليِّ في الكناية، دون المجازِ، فإنه ينافي ذلك، نعم: قد تمتنعُ إرادة ُالمعنى الأصليِّ في الكناية، لخصوصِ الموضوعِ كقوله تعالى : (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر/67]) ،وكقوله تعالى : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه/5]) كنايةٌ عن تمام القدرةِ، وقوةِ التمكُّنِ والاستيلاءِ .
    وتنقسمُ الكنايةُ بحسبِ المعنى الذي تُشيرُ إليه إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
    1- كنايةٌ عن صفةٍ :
    كما تقول :(فلانٌ نظيفُ اليدِ) تكني عن العفةِ والأمانةِ ،وتعرف كنايةُ الصفة بذكر الموصوفِ: ملفوظاً أو ملحوظاً من سياق الكلام. وكما يقال (الصِّديقُ) تعني أبا بكر رضي الله عنه ، وكذلك الفاروق تعني عمر رضي الله عنه ، وأمين هذه الأمة ، تعني أبا عبيد بن الجراح رضي الله عنه ، وسيف الله المسلول ، تعني خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وكما ورد في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (46) سورة الأحزاب ، فهذه كلها صفات للنبي صلى الله عليه وسلم
    وكقول المتنبيِّ :
    فَمَسّاهُمْ وَبُسْطُهُمُ حَريرٌ وَصَبّحَهُمْ وَبُسْطُهُمُ تُرَابُ
    2- كنايةٌ عن موصوفٍ :
    كما تقولُ (الناطقينَ بالضادِ) تكني عن العربِ، و (دارُ السَّلام) تكني عن بغدادَ ، و(طيبةُ ) كنايةٌ عن المدينةِ المنورةِ ، وتعرفُ بذكر الصفةِ مباشرةً، أو ملازمة ،ومنها قولهم : (هو حارسٌ على مالهِ) كنوا به عن البخيلِ الذي يجمعُ ماله، ولا ينتفعُ به، ومنها قولهم : (هو فتىً رياضيٍّ) يكنونَ عن القوَّة – وهلمَّ جرّا ، وكقوله تعالى : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ }(13) [القمر/13] كناية عن السفينةِ ، والدسر المسامير
    3-كنايةٌ عن نسبةٍ:
    الكنايةُ التي يراد بها نسبة ُأمرٍ لآخرَ، إثباتاً أو نفياً فيكون المكنَّى عنه نسبةً، أسنِدتْ إلى ماله اتصالٌ به – نحو قولنا عن شخص: ( العزُّ في بيتهِ ) فإن العزَّ ينسبُ للشخصِ وليس للبيت
    فالقسمُ الأولُ- وهو الكنايةُ التي يطلب بها صفةً: هي ما كان المكنَّى عنه فيها صفةً ملازمةً لموصوفٍ مذكور في الكلام.و هي نوعان:
    أ - كنايةٌ قريبةٌ: وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوبِ بغير واسطة بين المعنى المنتقَل عنه، والمعنى المنتقَل إليه، كقول الخنساء في رثاء صخر ٍ :
    طَوِيلُ النِّجادِ، رَفِيعُ العِما ... دِ سادَ عَشِيرَتَهُ أَمْرَدَا
    ب - وكنايةٌ بعيدةٌ: وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بواسطةِ، أو بوسائطَ، نحو: فلانٌ كثيرُ الرمادِ كنايةٌ عن المضياف، و الوسائطُ: هي الانتقالُ من كثرة الرمادِ إلى كثرة الإحراقِ، ومنها إلى كثرةِ الطبخِ والخبزِ، ومنها إلى كثرةِ الضيوفِ، ومنها إلى المطلوب وهو المِضيافُ الكريمُ.
    القسم الثاني- الكنايةُ التي يكون المكنَّى عنه موصوفاً بحيث يكونُ إمَّا معنى واحداً كموطنِ الأسرارِ كنايةٌ عن القلبِ، و كما في قول الشاعر :
    فلما شَربناها ودَبَّ دبيبُها ... إلى مَوْضعِ الأسْرارِ قلتُ لها قفي
    وإما مجموعُ معانٍ: كقولكَ: جاءني حيُّ مستوي القامةِ، عريضُ الأظفارِ ، كنايةٌ عن الإنسانِ لاختصاص مجموع هذه الأوصاف الثلاثةِ به، ومنه قول الشاعر كنايةً عن القلبِ :
    الضَّاربينَ بكلِّ أبيضَ مخذَمٍ ...والطاعنينَ مجامعَ الأضغانِ
    ويشترط في هذه الكنايةِ: أن تكون الصفةُ أو الصفاتُ مختصةً بالموصوف، ولا تتعداهُ ليحصل الانتقالُ منها إليه.
    القسم الثالثُ- الكنايةُ التي يرادُ بها نسبةَ أمرٍ لآخر، إثباتاً أو نفياً فيكون المكنَّى عنه نسبةً، أسندتْ إلى ماله اتصالٌ به، نحو قول الشاعر :
    إنَّ السماحةَ والمروءةَ والنَّدى في قبةٍ ضُربتْ على ابن الحشرجِِ
    فإنّ جعلَ هذه الأشياءَ الثلاثةِ في مكانه المختصِّ به يستلزم ُإثباتهُا له .
    والكنايةُ المطلوبُ به نسبةٌ نوعانِ:
    أ - إمَّا أن يكون ذو النسبة مذكوراً فيها، كقول الشاعر :
    الُيمْنُ يتبعُ ظلَّهُ والمجدُ يمشي في ركابه
    ب - وإمَّا أن يكونَ ذو النسبة غيرَ مذكور فيها: كقولكَ: خيرُ الناس منْ ينفعُ الناسَ، كناية عن نفي الخيرية عمن لا ينفعُهم. وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: « خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى » .
    وتقسمُ الكنايةُِ أيضاً باعتبار الوسائط (اللوازمِ) والسياقِ: إلى أربعةِ أقسامٍ: تعريضٌ وتلويحٌ، ورمزٌ، وإيماءُ.
    1 - فالتعريضُ: لغةً خلافُ التصريح.
    واصطلاحاً: هو أن يطلقَ الكلامُ، ويُشارَ به إلى معنى آخرَ يفهَمُ من السياق نحو: قولك للمؤذي : « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ .. » ،تعريضاً بنفي صفة الإسلامِ عن المؤذي، وكقول المتنبي :
    إذا الجُودُ لم يُرْزَقْ خَلاصاً من الأذَى فَلا الحَمدُ مكسوباً وَلا المالُ باقِيَا
    2 - التلويحُ: لغةً: أنْ تشيرَ إلى غيركَ من بُعد.واصطلاحاً: هو الذي كثرتْ وسائطُه بلا تعريضٍ، نحو قول الشاعر :
    وما يكُ فيَّ مِن عيبٍ فإنِّي ... جَبَانُ الكلبِ مَهْزولُ الفصيلِ
    كنَّى عن كرم الممدوحِ بكونه جبانَ الكلب، مهزولَ الفصيلِ، فإنَّ الفكرَ ينتقلُ إلى جملة وسائط.
    3 - الرمزُ: لغةً: أنْ تشيرَ إلى قريبٍ منكَ خِفيةً، بنحو: شفةٍ، أو حاجبٍ.
    واصطلاحاً: هو الذي قلَّتْ وسائطُه، مع خفاءٍ في اللزوم بلا تعريضٍ، نحو : فلانٌ عريضُ القفا، أو عريضُ الوسادةِ ، كنايةٌ عن بلادتهِ وبلاهتهِ ، ونحو: هو مُكتنزُ اللحمِ، كنايةٌ عن شجاعتِه، ومتناسبُ الأعضاءِ كنايةٌ عن ذكائهِ ،ونحو: غليظُ الكبدِ كناية ٌعن القسوةِ وهلمَّ جرًّا.
    4 -الإيماءُ أو الإشارةُ: هو الذي قلَّتْ وسائطُه، مع وضوحِ اللزوم، بلا تعريضٍ، كقول الشاعر :
    أَو ما رَأيتَ المجدَ ألقَى رحلَهُ في آلِ طلحةً ثمَّ لم يَتحوَّلِ
    كنايةٌ عن كونهم: أمجاداً أجواداً، بغايةِ الوضوح.
    و من لطيف ذلك قولُ بعض الشعراء :
    سألتُ الندَى والجُودَ ما لي أراكُما تبدَّلتُماذلاًبعزٍّ مؤبدِِ
    وما بالُ رُكنِ المجدِ أمسَى مهدَّماً فقالا أُصبنَا بابن يحيى محمَّدِ
    فقلتُ: فهلا متُّما عندَ موتِهِ فقدْ كنتما عبدَيهِ في كلِّ مَشْهدِ
    فقالا: أقمنَا كي نُعزَّى بفقدِه مسافةَ يومٍ ثمَّ نتلوهُ في غدِ
    ومثله قول دعبل :
    سألتُ النَّدى - لا عدمتُ النَّدى وقد كانَ منَّا زماناً عزبْ
    فقلتُ لهُ: طالَ عهدُ اللِّقا فهلْ غِبتَ باللّهِ، أمْ لَمْ تَغِبْ
    فقالَ: بَلَى . لَمْ أَزَلْ غائباً ولكنْ قدِمْتُ مَعَ المطَّلِبْ
    ومثله قول الشاعر :
    سألتُ الندى: هل أنت حرٌّ؟؛ فقال: لا ... ولكنني عبدٌ ليحيى بن خالدِ
    فقلتُ شراءً؟؛ قال: لا، بل وراثةً ... توارثني عن والدٍ بعدَ والدِ
    ومثله قول الشاعر :
    سألتُ الندى والجودَ حرانِ أنتما؟ ... فقالا بلى عبدانِ بينَ عبيدِ
    فقلتُ :ومنْ مولاكُما فتطاولا عليَّ وقالا :خالدَ بنَ يزيدِ
    والكنايةُ من ألطف أساليبِ البلاغة وأدقِّها، وهي أبلغُ من الحقيقةِ والتصريحِ، لأنَّ الانتقالَ فيها يكون من الملزوم إلى اللازمِ فهو كالدعوَى ببينةٍ، فكأنكَ تقولُ في زيدٍ كثيرِ الرمادِ زيدٌ كريمٌ، لأنهُ كثيرُ الرمادِ ، وكثرتُه تستلزمُ كذا الخ، كيف لا وأنها تمكِّنُ الإنسانَ من التعبيرِ عن أمور كثيرةٍ، يتحاشَى الإفصاحُ بذكرها، إمَّا احتراماً للمخاطَبِ أو للإبهامِ على السامعينَ، أو للنيلِ من خصمهِ، دونَ أنْ يدعَ له سبيلاً عليه، أو لتنزيهِ الأذنِ عمَّا تنبو عن سماعِه ونحو ذلك من الأغراضِ واللطائفِ البلاغيةِ.




    خاتمةٌ – في بلاغة الكناية

    الكنايةُ مَظهرٌ من مظاهر البلاغةِ، وغايةٌ لا يصل إليها إلا من لطف طبعُه، وصفتْ قريحتُه، والسرُّ في بلاغتها أنها في صور كثيرةٍ تعطيك الحقيقةَ، مصحوبةً بدليلها، والقضيةً وفي طيِّها برْهانها، كقول البحتري في المديح:
    يغضُّونَ فضلَ اللحظِ من حيثُ ما بدا لهمْ عن مهيبٍ في الصدورِ محببُ
    فإنه كنَّى عن إكبار الناس للممدوحِ، وهيبتِهم إياه، بغضِّ الأبصارِ الذي هو في الحقيقة برهانٌ على الهيبة والإجلالِ،وتظهرُ هذه الخاصةُ جليةً في الكناياتِ عن الصفةِ والنسبةِ.
    ومن أسباب بلاغةِ الكنايات أنها تضعُ لكَ المعاني في صورة المحسوساتِ، ولا شكَّ أن َهذه خاصةُ الفنون، فإنَّ المصورَ إذا رسم لك صورةً للأملِ أو لليأسِ، بهرَكَ وجعلكَ ترى ما كنتَ تعجزُ عن التعبير عنه واضحاً ملموساً،فمثلُ كثيرِ الرمادِ في الكناية عن الكرمِ ،ورسول ُالشرِّ، في الكنايةِ عن المزاحِ.
    وقول البحتريَِّ :
    أو ما رأيتَ المجْدَ ألقى رحلَهُ في آل طلحةَ ثمَّ لم ْ يتحوَّلِ
    وذلك في الكنايةِ عن نسبةِ الشرف إلى آل طلحةَ.
    كلُّ أولئك يبرز لك المعاني في صورة ٍ تشاهدُ، وترتاحُ نفسُك إليها.
    ومن خواصِّ الكنايةِ: أنها تمكنُك منْ أنْ تَشْفيَ غلَّتَك منْ خصمِك منْ غيرِ أنْ تجعل َله إليك سبيلاً، ودون أنْ تخدشَ وجهَ الأدب، وهذا النوعُ يسمَّى بالتعريضِ ،ومثالُه قولُ المتنبي في قصيدة، يمدحُ بها كافوراً ويعرضُ بسيفِ الدولة :
    فِراقٌ وَمَنْ فَارَقْتُ غَيرُ مُذَمَّمِ وَأَمٌّ وَمَنْ يَمّمْتُ خيرُ مُيَمَّمِ
    وَمَا مَنزِلُ اللّذّاتِ عِندي بمَنْزِلٍ إذا لم أُبَجَّلْ عِنْدَهُ وَأُكَرَّمِ
    سَجِيّةُ نَفْسٍ مَا تَزَالُ مُليحَةً منَ الضّيمِ مَرْمِيّاً بها كلّ مَخْرِمِ
    رَحَلْتُ فكَمْ باكٍ بأجْفانِ شَادِنٍ عَلَيّ وَكَمْ بَاكٍ بأجْفانِ ضَيْغَمِ
    وَمَا رَبّةُ القُرْطِ المَليحِ مَكانُهُ بأجزَعَ مِنْ رَبّ الحُسَامِ المُصَمِّمِ
    فَلَوْ كانَ ما بي مِنْ حَبيبٍ مُقَنَّعٍ عَذَرْتُ وَلكنْ من حَبيبٍ مُعَمَّمِ
    رَمَى وَاتّقى رَميي وَمن دونِ ما اتّقى هوًى كاسرٌ كفّي وقوْسي وَأسهُمي
    إذا ساءَ فِعْلُ المرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ وَصَدَقَ مَا يَعتَادُهُ من تَوَهُّمِ
    فإنه كنَّى عن سيف الدولة، أولا: بالحبيبِ المعمم، ثم وصفه بالغدرِ الذي يدعي أنه من شيمةِ النساءِ، ثم لامه على مبادهته بالعدوانِ، ثم رماه بالجبنِ لأنه يرمي ويتقي الرمي بالاستتارِ خلف غيره، على أنَّ المتنبي لا يجازيه على الشرِّ بمثله، لأنه لا يزال يحمل له بين جوانحه هوًى قديماً، يكسرُ كفه وقوسه، وأسهمه، إذا حاول النضالّ، ثم وصفه بأنه سيءُ الظنِّ بأصدقائهِ لأنه سيءُ الفعل، كثيرُ الأوهام والظنون، حتى ليظنَّ أنَّ الناس جميعاً مثلَه في سوءِ الفعل، وضعفِ الوفاء، فانظر كيف نالَ المتنبي من هذا، ومن أوضح مميزات الكنايةِ التعبيرُ عن القبيح بما تسيغُ الآذانَ سماعُه، وأمثلة ذلك كثيرة جداً في القرآن الكريم، وكلام العربِ فقد كانوا لا يعبرون عما لا يحسن ذكره إلا بالكنايةِ، وكانوا لشدة نخوتهِِم يكنونَ عن المرأة بالبيضةِ والشاةِ.
    ومن بدائع الكنايات قولُ بعض العرب :
    أَلاَ يا نَخْلةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ... عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللّهِ السّلامُ
    فإنه كنَّى بالنخلةِ، عن المرأة التي يحبُّها.



    الفصل ُالخامسُ - أثرُ علم ِالبيان في تأديةِ المعاني

    ظهرَ لك من دراسة علمِ البيان: أنَّ معنًَّى واحداً يستطاع أداؤه بأساليبَ عديدة، وطرائق مختلفةٍ، وأنه قد يوضع في صورة رائعةٍ من صور التشبيه أو الاستعارة،أو المجاز المرسل، أو المجاز العقليِّ، أو الكناية،فقد يصف الشاعر إنساناً بالكرم،فيقول :
    يريدُ الملوكُ مَدى جَعفَر ... ولا يَصنعون كما يَصنعُ
    وكيفَ ينالون غاياتِه ... وهم يَجمعون ولا يَجمعُ
    وليسَ بأوسعِهم في الغِنى ... ولكن مَعْروفه أوسع
    فما خَلْفَه لامرىءٍ مطلبٌ ... ولا لامرىء دونَه مَطمعُ
    بَدِيهَتُهُ مثلُ تدبيرِه ... ..إذا أجبتَه فهو مُستجمِعُ
    و هذا كلامٌ بليغٌ جدًّا، مع أنه لم يقصد فيه إلى تشبيه أو مجاز، وقد وصف الشاعرُ فيه ممدوحهَ بالكرم، وأنَّ الملوكَ يريدون أن يبلغوا منزلته، ولكنهم لا يشترونَ الحمد بالمال كما يفعلُ، مع أنه ليس بأغنَى منهم، ولا بأكثرَ مالاً.
    وقد يعتمدُ الشاعر عند الوصف بالكرمِ إلى أسلوبٍ آخر، فيقولُ المتنبي :
    كالبَحْرِ يَقذِفُ للقَريبِ جَواهِراً جُوداً ويَبْعَثُ للبَعيدِ سَحائِبَا
    كالشّمسِ في كَبِدِ السّماءِ وضَوْؤها يَغْشَى البِلادَ مَشارِقاً ومَغارِبَا
    فيشبِّهُ الممدوحَ: بالبحر، ويدفعُ بخيالكَ إلى أن يضاهيَ بين الممدوحِ والبحرِ الذي يقذفُ الدرر للقريبِ، ويرسلُ السحائبَ للبعيد، وكذلك يشبهه بالشمس في كبد السماء وضوؤها يملأ مشارق البلاد ومغاربها وهو يريدُ عمومَ نفعهِ للبعيدِ والقريبِ .
    أو قول أبي تمام في المعتصم بالله :
    هو البحرُ منْ أيِّ النواحي أتيتَهُ فلجتُهُ المعروفُ والجودُ ساحلهُ
    فيدَّعي أنه البحرُ نفسه، وينكرُ التشبيهَ نكراناً يدلَّ على المبالغةٍ، وادعاءِ المماثلة الكاملة.
    أو يقول :
    علا فلا يستقرُّ المالُ في يده وكيفُ تمسكُ ماءً قنة ُ الجبلِ
    فيرسلُ إليكَ التشبيه: من طريقٍ خفيٍّ، ليرتفعَ الكلامُ إلى مرتبةِ أعلى في البلاغة وليجعلَ لك من التشبيهِ الضمنيِّ دليلاً على دعواهُ، فإنه ادَّعى: أنه لعلوِّ منزلته ينحدرُ المالُ من يديه، وأقام على ذلك برهاناً.فقال :وكيف تمسكُ ماءً قُنَةُ الجبلِ
    أو يقول:
    جرَى النهْرُ حتى خلتَه منكَ أنعُماً تساقُ بلا ضنٍّ وتعطَي بلا منِّ
    فيقلبُ التشبيه زيادةً في المبالغةٍ، وافتناناً في أساليب الإجادة.
    ويشبِّه ماءَ النهر بنعم الممدوح، بعد أنْ كان المألوفُ، أن تشبَّه النعم، بالنهر الفياضِ
    أو يقول:
    كأنه حينَ يعطي المالَ مبتسماً صوْبُ الغمامةِ تهمي وهْيَ تأتلقُ
    فيعمد إلى التشبيهِ المركَّب، ويعطيكَ صورةً رائعةً، تمثِّلُ لك حالةَ الممدوح وهو يجود، وابتسامةُ السرور تعلو شفتيه، أو يقول :
    جادَتْ يَدُ الفَتْحِ، والأنْوَاءُ باخِلَةٌ، وَذَابَ نائِلُهُ، والغَيْثُ قد جَمَدَا
    فيضاهي بين جودِ الممدوحِ والمطر، ويدَّعي أنَّ كرم ممدوحه لا ينقطعُ، إذا انقطعتِ الأنواء، أو جمدَ المطرُ.
    أو بقولِ البحتريِّ :
    قَدْ قُلتُ للغَيمِ الرُّكَامِ، وَلَجّ في إبْرَاقِهِ، وألَحّ في إرْعَادِهِ
    لا تَعْرِضَنّ لِجَعْفَرٍ، مُتَشَبّهاً بَنَدَى يَدَيهِ، فَلستَ مِنْ أنْدَادِهِ
    فيصرحُ لك في جلاءٍ، وفي غير خشيةٍ بتفضيل جودِ صاحبه على جود الغيم، ولا يكتفي بهذا، بل تراهُ يَنْهى السَّحابَ في صورة تهديدٍ أن يُحاولَ التشبهَ بممدوحه; لأنه ليس من أمثالهِ ونظائرهِ، أو بقول المتنبي :
    وَأقْبَلَ يَمشِي في البِساطِ فَما درَى إلى البَحرِ يَسعى أمْ إلى البَدْرِ يرْتَقي
    يصف حال رسول الروم داخلا على سيف الدولة، فَيَنْزَعُ في وصف الممدوح بالكرم، إلى الاستعارة التصريحية، والاستعارةُ - كما علمتَ - مبنيةٌ على تناسي التشبيهِ، والمبالغةُ فيها أعظمُ، وأثرهُا في النفوس أبلغُ.
    أو يقولُ:
    دَعوتُ نَدَاهُ دعوةً فأجابَنِي و عَلَّمنِي إحسانُهُ كَيْفَ آمُلهْ
    فيُشَبَّهُ نَدى ممدوحهِ وإحسانهِ بإنسانٍ ،ثم يحذف المشبَّه به، ويرمزُ إليه بشيءٍ من لوازمهِ، وهذا ضربٌ آخر من ضروبِ المبالغة ِالتي تساق الاستعارةُ لأجلها.
    أو بقول المتنبي :
    قَوَاصِدُ كافورٍ نَوَارِكُ غَيْرِهِ ... وَمَنْ قَصَدَ البَحْرَ اسْتَقَلَّ السوَاقِيا
    فيرسلُ العبارةَ كأنَّها مَثلٌ، ويصوِّر لك أنَّ من قصد ممدوحَه استغنى عمَّنْ هو دونه، كما أنَّ قاصدَ البحرِ لا يأبهُ للجداول، فيعطيك استعارة تمثيليةً، لها روعةٌ، وفيها جمالٌ، وهي فوق ذلك تحملُ برهاناً على صدق دعواهُ، وتؤيِّدُ الحال الذي يَدَّعيها.
    أو يقول المتنبيِّ :
    ما زِلْتَ تُتْبِعُ ما تُولي يَداً بيَدٍ حتى ظَنَنْتُ حَياتي مِنْ أياديكَا
    فيعدل عن التشبيه والاستعارة، إلى المجاز المرسلِ ويطلق كلمةَ يدٍ ويريدُ بها النعمةَ; لأن اليدَ آلةٌ النعم وسببها.
    أو يقول:
    أعَادَ يَوْمُكَ أيامِي لِنَضْرَتِهَا واقْتَصَّ جودُك مِنْ فَقرِي وإعْسَاري
    فيسندُ الفعلَ إلى اليوم، وإلى الجودِ، على طريقة المجاز العقليِّ.
    أو يقول أبو النواس :
    فما جازَهُ جُودُ ، ولا حَلّ دونَه، ولكنْ يصيرُ الجودُ حيثُ يصيرُ
    فيأتي بكنايةٍ عن نسبةِ الكرم إليه، بادِّعاء أنَّ الجودَ يسيرُ معه دائماً; لأنه بَدَل أن يحكم بأنه كريمٌ، ادّعى أنَّ الكرم يسيرُ معه أينما سارَ.
    ولهذه الكنايةُ من البلاغةِ، والتأثيرِ في النفس، وحسنِ تصويرِ المعنى، فوق ما يجدُه السَّامعُ في غيرها من بعض ضروبِ الكلام.
    فأنتَ ترى أنه من المستطاعِ التعبيرُ عن وصف إنسانٍ بالكرمِ بأربعةَ عشرَ أسلوباً كلٌّ: له جمالهُ، وحُسْنهُ، وبَراعتُه، ولو نشاءُ لأتينا بأساليبَ كثيرةٍ أخرى في هذا المعنى; فإنَّ للشعراءِ ورجالِ الأدبِ افتناناً وتوليداً للأساليب والمعاني، لا يكاد ينتهي إلى حدٍّ، ولو أردنا لأوردنا لك ما يقالُ من الأساليب المختلفة المَنَاحِي في صفات أخرى، كالشجاعة، والإباء، والحزم وغيرها، ولكنَّا لم نَقْصِد إلى الإطالة، ونعتقد أنك عند قراءتك الشعر العربىّ والآثار الأدبية، ستجد بنفسك هذا ظاهراً وسَتَدْهَش للمَدَى البعيدِ الذي وصل إليه العقل الإنساني في التصوير البلاغيّ، والإبداع في صوغ الأساليب


    .
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 16:54

    البابُ الرابع
    علم ُالبديع

    الفصل الأول – مقدمة موجزة حول علم البديع

    *- البديعُ: لغةً: الُمخْتَرعُ المُوجَدُ على غير مِثَال سابق.
    وهو مأخوذ ومُشْتَقٌّ من قولهم: بَدَع الشيء وأبْدَعه، اخترعَه لا عَلَى مِثال .
    و اصطلاحاً: هو علمٌ يُعْرفُ به الوجوه والمزايا التي تزيد الكلام حسْناً وطلاوةً، وتكسوه بهاءً ورونقاً، بعدَ مُطابقته لمقتضى الحال.
    مع وُضوح دلالته على المراد لفظاً ومعنى.
    وواضعه عبد اللهُ بنُ المعتز العبَّاسي المتوفى سنة 274 هجرية.
    ثم اقتفى أثره في عصره قُدَامةُ بن جعفر الكاتب فزاد عليها.
    ثم ألّف فيه كثيرونَ كأبي هلال العَسْكرِي وابن رشيق القِيرَوَاني، وصفِىّ الدين الحِلّي، وابن حِجَّة الحموي، وغيرهم ممَّن زَادُوا في أنواعه، ونظموا فيها قصائد تُعرف (بالبديعيَّات). وفي هذا العلم بابان: وخاتمة.
    *- أثرُ علم البديع في الكلام:
    لا يتعدَّى تزيين الألفاظ أو المعاني بألوانٍ بديعةٍ من الجمال اللفظي أو المعنوي.
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 17:00

    الفصل الثاني - في المحسِّناتِ المعنوية

    المبحثُ الأول- الطباقُ

    *- تعريفُه: هو الجمعُ بين لفظين متقابلينِ في المعنى، وهو نوعانِ: حقيقيٌّ واعتباريُّ
    فالتقابل الحقيقيُّ هو أنواعٌ :
    أ‌- تقابلُ تضادٍّ ،نحو قوله تعالى : {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (43) سورة النجم .
    ب‌- تقابلُ إيجابٍ وسلبٍ، نحو قوله تعالى : {.... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر
    ت‌- تقابلُ عدمٍ وملكةٍ ، كقوله تعالى : {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} (19) سورة فاطر
    ث‌- تقابلُ تضايفٍ كقولك :( أبو الحسنِ صفيُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وابنُهُ حبيبُه )
    والثاني – تقابلاً اعتبارياًّ ،كقوله تعالى : {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (44) سورة النجم
    *- صورُ الطِّباقِ:
    يكونُ الطباقُ بين :
    أ‌- اسمينِِ – نحو قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) سورة الحديد ، وكقوله تعالى :{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ .....} (18) سورة الكهف .
    ب‌- فعلينِ – نحو قوله تعالى : {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (43) سورة النجم ، وكقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} (13) سورة الأعلى .
    ت‌- حرفينِ – نحو قوله تعالى : {.. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ...} (228) سورة البقرة، وقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ....} (286) سورة البقرة .
    ث‌- لفظينِ منْ نوعينِ مختلفينِ – نحو قوله تعالى : {..... وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (36) سورة الزمر ، بين فعل واسم، وكقوله تعالى : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ...} (122) سورة الأنعام، بين اسم وفعل .
    *-أقسامُ الطباقِ:
    ينقسمُ إلى قسمينِ طباقُ إيجابٍ وطباقُ سلبِ :
    أ‌- طباقُ الإيجابِ: هو ما لم يختلفْ فيه الضِّدانِ إيجاباً وسلباً ، نحو قوله تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (26) سورة آل عمران ، وكقوله تعالى : {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ....} (18) سورة الكهف ، ففيهما تطابقٌ إيجابيٌّ بين هذه المذكوراتِ .
    ب‌- طباقُ السَّلبِ: هو ما اختلف فيه الضدانِ إيجاباً وسلباً، بحيثُ يجمعُ بين فعلينِ من مصدرٍ واحدِ ، أحدهُما مثبتٌ مرةً، والآخرُ منفيٌّ تارةً أخرى، في كلامٍ واحدٍ ، نحو قوله تعالى : {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ.....} (108) سورة النساء ، ونحو قوله تعالى : {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } (7) سورة الروم ، ونحو قوله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر
    - أو أحدهُما أمرٌ، والآخرُ نهىٌ، نحو قوله تعالى : {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف ، ونحو قوله تعالى : {.. فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ..} (44) سورة المائدة
    ويلحقُ بالطباقِ شيئانِ :
    أحدهما - نحو قوله تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ...} (29) سورة الفتح ،فإن الرحمة سببيةٌ عن اللينِ ،الذي هو ضدُّ الشدةِ
    والثاني – ما يسمَّى إيهامَ التضادِّ ،وهو أن يجمعَ بين معنيينِ غيرَ متقابلينِ عبَّر عنهما بلفظينِ يتقابلُ معناهُما الحقيقيانِ، نحو قول دعبل :
    لا تعجَبي يا سَلْمُ من رجلٍ ... ضحِكَ المشيبُ برأسِه فبكى
    والشاهدُ أنَّ المرادَ بالضحك ِفي البيت لا يضادُّ البكاءَ ، ولكنَّ معنييهما الحقيقينِ متضادانِ .
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 17:01

    المبحث ُالثاني - المقابلةَُ

    *- تعريفها: لغةً المواجهةُ ،واصطلاحاً : هي أن يؤتَى بمعنيين متوافقينِ أو معانٍٍ متوافقةٍ، ثم يؤتَى بما يقابلُ ذلك على الترتيبِ،أو مجموعةُ كلماتٍ ضدََّ مجموعةِ كلماتٍ في المعنى على التوالي .
    *- صورهُا خمسةٌ :
    أ‌- مقابلةُ معنيينِ بمعنيينِ ، كقوله تعالى : {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (82) سورة التوبة .
    ب‌- مقابلة ثلاثةٍ بثلاثةٍ ، نحوقوله تعالى : {... يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ......} (157) سورة الأعراف .
    ت‌- مقابلةُ أربعةٍ بأربعةٍ ، كقوله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) [الليل/5-10] } .
    وكقولِ الشاعر أبي تمام :
    يَا أمَّةً كانَ قُبْحُ الجوْر يُسْخِطُها… …دهْرًا فأصْبَحَ حُسْنُ العَدْل يُرْضِيها
    ث‌- مقابلةُ خمسةٍ بخمسةٍ ، قال المتنبِّي :
    أزُورُهُمْ وَسَوَادُ اللّيْلِ يَشفَعُ لي وَأنثَني وَبَيَاضُ الصّبحِ يُغري بي
    ج‌- مقابلةُ ستةٍ بستةٍ ،قال عنترةُ العبسيُّ :
    على رأسِ عبدٍ تاجُ عِزٍّ يزينهُ ... وفي رِجْلِ حرّ قيدُ ذُلٍّ يَشينهُ
    -------------------
    *-الفرقُ بينَ المقابلةِ والطباقِ :
    -الطباقُ: حصولُ التوافقِ بعد التنافي، كالجمعِ بينَ أضحكَ وأبكَى بعد تنافيهما في قوله تعالى : {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (43) سورة النجم .
    -المقابلةُ :حصولُ التنافي بعد التوافقِ، كالجمع بين الضحكِ والقِلَّة ، ثم إحداثُ التنافي حيثُ تقابلَ الأولُ بالأولِ والثاني بالثاني في قوله تعالى : {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا .....} (82) سورة التوبة
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 17:02

    المبحثُ الثالث- التوريةُ

    *- تعريفُها: لغةً – مصدرٌ، ورّيتُ الخبرَ توريةً: إذا سترتُه، وأظهرتُ غيره .
    واصطلاحاً: هي أن يذكُرَ المتكلمُ لفظاً مفرداً له معنيان; أحدهُما قريبٌ غيرُ مقصودٍ ودلالةُ اللفظِ عليه ظاهرةُ، والآخرُ بعيدٌ مقصودٌ، ودلالةُُ اللفظِ عليه خَفِيَّةٌ، فيتوهَّمُ السَّامعُ: أنه يُريدُ المعنَى القريبَ، وهو إنَّما يُريدُ المعنى البعيدَ بقرينةٍ تشيرُ إليه ولا تُظهرُه، وتسترُه عن غير المتيقظِ الفطِنِ،كقوله تعالى:(وَهُوَ الذي يَتَوَفّاكُم بالليْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بالنَّهَارِ)[سورة الأنعام، الآية: 60 ]، أراد بقوله جرحتم معناهُ البعيدُ، وهو ارتكابُ الذنوبِ، ولأجلِ هذا سُمِّيتِ التَّوريةُ إيهاماً وتخييلا ً
    وكقول سراج الدين الوراق :
    أصُونُ أديمَ وجهي عَن أُنَاس … …لقاءُ الموتِ عِنْدهُم الأديبُ
    وَرَبُّ الشِّعرِ عندهُمُ بَغِيضٌ … …وَلَوْ وَافَى بهِ لَهُمُ "حبَيبُ"
    *- وهي تنقسمُ إلى قسمينِ :
    (1)- مجردةٌ: وهي التي لم تقترنْ بما يلائمُ المعنيين: كقول الخليل لما سأله الجبار عن زوجته: فقال «هذه أختي» - أراد أخوةَ الدِّينِ، وكقوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام/60]) يريدُ بجرحتم المعاصي .
    (2) - مرشَّحةٌ : وهي التي اقترنتْ بما يلائمُ المعنى القريبَ، وسميتْ بذلك لتقويتِها به، لأنَّ القريبَ غيرُ مراد، فكأنهُ ضعيفٌ، فإذا ذكر لازمُه تقوَّى به، نحو قوله تعالى : {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (47) سورة الذاريات، فإنه يحتمل (الجارحةَ) وهو القريبُ، وقد ذكر من لوازمه البنيانُ على وجهِ الترشيحِ ، ويحتمل (القدرةَ ) وهو البعيدُ المقصودُ.
    وقال ابن نباتة :
    أقولُ وقد شنوّا إلى الحربِ غارةً دعوني فإني آكلُ العيشَ بالجبْنِ
    الشاهدُ فيه : العيشُ والجبنُ ، فالعيشُ يعني الخبز ويعني الحياة ، والجبنُ يعني المصنوع من اللبن ، ويعني الخوَرُ عكسُ الشجاعةِ .
    أو كقول بعضهم :
    فإنْ ضيعتُ فيه جميعَ مالي فكمْ منْ لحيةٍ حُلقتْ بموسَى
    فيه التورية المرشحة، بذكر اللحية والحلق، وهما يناسبانِ المورَّى به وهو «موسى الحديدِ» والمورَّى عنه الاسمُ المذكورُ.
    ويقول الشاعر :
    حماة في بهجتها جَنةٌ وهيَ منَ الغمِّ لنا جُنّه
    لا تيأسوا من رحمةِ اللهِ فقد رأيتمُ العاصيَ في الجنَّه
    في هذا الكلام تورية مرشحة، فإنَّ ذكر الرحمة ترشيحٌ للفظِ العاصي المورَّى به الذي هو من العصيانِ، والمورَّى عنه النهرُ المعروف الذي عبر حماه.
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 17:04

    المبحثُ الرابعُ - المبالغةٌ

    *-المبالغةُ: هي أن يدَّعيَ المتكلّمُ لوصف، بُلوغُهُ في الشدةِ أو الضعف حداًّ مستبعداً، أو مستحيلاً،
    *-أنواع المبالغةِ : تنحصرُ المبالغةُ في ثلاثة أنواع:
    الأول- تبليغٌ : إن كان ذلك الادّعاء للوصف من الشدة أو الضعف ممكناً عقلاً وعادةً، نحو قوله تعالى : {... ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ..} (40) سورة النــور
    وكقول الشاعر في وصف فرسٍ :
    إذا ما سابقَتها الرّيحُ فرّتْ، وأبقَتْ في يدِ الرّيح التّرابا
    وكقول امرئ القيس يصف فرساً :
    فَعَادَى عِداءً بَيْنَ ثَوْرٍ ونَعْجَةٍ ... دِرَاكاً ولَمْ يَنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَلِ
    وصف هذا الفرسَ بأنه أدركَ ثوراً وبقرة وحشيينِ في مضمار واحد ولم يعرقْ وذلك غيرُ ممتنع عقلاًً ولا عادةً .
    وقال أبو الطيب يصف فرساً :
    وأصْرَعُ أيَّ الوحشِ قَفَّيتُهُ بِهِ ... وَأنْزِلْ عنهُ مثلَهُ حينَ أركَبُ
    الثاني-إغراقٌ : إنْ كانَ الادّعاءُ للوصفِ من الشدّة أو الضعفِ ممكناً عقلاً، لا عادةً – كقول الشاعر :
    ونُكْرمُ جارَنا ما دامَ فينا ونُتْبعُهُ الكرامَة َ حَيْثُ مالا
    فإنه ادَّعى أنَّ جاره لا يميلُ عنه إلى جهةٍ إلا وهو يتبعُه الكرامةَ ، وهذا ممتنعٌ عادةًً وإنْ كانَ غيرِ ممتنعٍ عقلاً، وهما مقبولانِ .
    الثالث- غُلوٌّ: إنْ كانَ الادعاءُ للوصفِ من الشدةِ أو الضعف مستحيلاً عقلاً وعادةً – كقول الشاعر ِّ :
    تكادُ قِسيهُ منْ غيرِ رامٍٍ تُمكِّنُ في قلوبهِم النِّبالا
    -----------------
    أمَّا الغلوُّ: فمنهُ مقبولٌ، ومنه مردودٌ: فالمقبولُ ثلاثةُ أنواعٍ:
    أحدها - ما اقترنَ به ما يقربُّه للصحَّة، (كفعلِ مقاربةٍ ) نحو قوله تعالى {... يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ...} (35) سورة النــور
    أو أداةُ فرَضٍٍ، نحو قوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ..... } (21) سورة الحشر
    وفي قول الشاعر يصف فرساً :
    ويكادُ يخرج سرعة ً من ظِلِّهِ لو كان يرغبُ في فراق رفيق
    والثاني – ما تضمَّنَ حسنَ تخييلٍٍ، كقول المتنبي :
    عَقَدَتْ سَنابِكُها عَلَيْها عِثْيَراً لوْ تَبتَغي عَنَقاً عَلَيْهِ لأمْكَنَا
    وقول المعري :
    يذيبُ الرُّعبُ منهُ كلَّ عضبٍ ... فلولا الغِمدُ يُمسكهُ لسالا
    وكقول القاضي الأرجاني يصفُ الليلَ بالطول :
    يُخَيَّلُ لي أن سُمِّرَ الشهبُ في الدّجى ... وشُدَّتْ بأهْدابي إليهنّ أجْفاني
    والثالث – ما أخرجَ مخرجَ الهزلِ، كقول الشاعر :
    لكَ أنفٌ يا ابنَ حربٍ أنفِتْ منه الأنوفُ
    أنتَ في القدس تصلِّي وهو في البيتِ يطوفُ
    ومما قيلَ في الثقلاء: قال مطيع بن إياس :
    قلت لعباسٍ أخينا ... يا ثقيلَ الثقلاء
    أنتَ في الصيف سمومٌ ... وجليدٌ في الشتاء
    أنتَ في الأرضِ ثقيلٌ ..... وثقيلٌ في السماء
    ==================
    المبحثُ الخامس- حُسْنُ التعليلِ

    *- تعريفُه : هو أن ينكرَ الأديبُ صراحةً، أو ضمناً، علةَ الشيءِ المعروفةِ، ويأتي بعلةٍ أخرى أدبيةٍ طريفةٍ، لها اعتبارٌ لطيفٌ، ومشتملةٌٌ على دقةِ النظرِِ، بحيثُ تناسبُ الغرضَ الذي يرمي إليه، يعني أنَّ الأديبَ: يدّعي لوصفٍ علّةً مناسبةً غيرَ حقيقيةٍ، ولكنَّ فيها حسناً وطرافةً، فيزداد بها المعنى المرادُ الذي يرمي إليه جمالاًً وشرفاً ،كقول المعري في الرثاء :
    وما كلْفةُ البَدْر المُنير قديمةً ولكنها في وجْههِ أثرُ اللَّطم
    يقصدُ: أنَّ الحزنَ على (المرثي) شملَ كثيراً من مظاهر الكون، فهو لذلك: يدَّعي أنَّ كُلفة البدر (وهي ما يظهر على وجهه من كُدرة) ليستْ ناشئةً عن سبب طبيعيٍّ، وإنما هي حادثةٌ من (أثر اللطم على فراقِ المرثي) .
    ومثله قول الشاعر الآخر :
    أَما ذُكاءُ فَلمْ تَصْفَرَّ إذْ جَنَحَتْ … …إلا لِفُرْقَةِ ذَاكَ الْمَنْظَر الْحَسَن
    يقصدُ: أنَّ الشمسَ لم تصفرَّ عند الجنوحِ إلى المغيب للسببِ المعروفِ ولكنها (اصفرتْ مخافةَ أنْ تفارقَ وجهَ الممدوحِ) .
    ومثله قول الشاعر الآخر :
    ما قصرَ الغَيْثُ عن مصرٍ وترْبتها ... طبعاً ولكنْ تعدَّاكم من الخَجَلِ
    ولا جَرَى النِّيلُ إلاَّ وهو معترفٌ ... بسبقكمْ فلذَا يَجْري على مَهْلِ
    ينكرُ هذا الشاعرُ: الأسبابَ الطبيعيةَ لقلةِ المطر بمصر، ويلتمسُ لذلك سبباً آخر: وهو (أنَّ المطرَ يخجلُ أنْ ينزلَ بأرضٍ يعمُّها فضلُ الممدوحِ وجودُه) لأنهُ لا يستطيعُ مباراتهِ في الجودِ والعطاءِ.
    ولا بدَّ في العلةِ أن تكون ادعائية، ثم إنَّ الوصفَ أعمُّ من أنْ يكونَ ثابتاً فيقصدُ بيانُ علته، أو غيرُ ثابتٍ فيرادُ إثباتُه.
    وهذا الوصفُ الذي يدَّعَى له العلةَ واحدٌ من أمرين : ثابتٌ وغيرُ ثابتٍ
    الأولُ- الثابتُ وهو نوعان :
    (أ)- وصفٌ ثابتٌ غيرُ ظاهر العلَّة – كقول الشاعر :
    بينَ السيوفِ وعينيها مشاركةٌ من أجلِها قيلَ للأجفانِ أجفانُ
    وقول الشاعر :
    زَعَمَ البنفسجُ أنه كعِذاره ... حُسناً فسلُّوا من قفاه لسانَهُ
    فخروجُ ورقةِ البنفسجِ إلى الخلفِ لا علَّة له، لكنه ادَّعى أنَّ علَّته الافتراءُ على المحبوبِ.
    (ب) - وصفٌ ثابتٌ ظاهرُ العلةِ، غيرُ التي تذكَرُ، كقول المتنبي :
    ما بهِ قَتْلُ أعاديهِ ولكِنْ يَتّقي إخلافَ ما ترْجو الذّئابُ
    فإنَّ قتلَ الملوكِ أعداءَهم في العادةِ لإرادةِ هلاكهِم وأنْ يدفعوا مضارَّهم عنْ أنفسهِم حتى يصفوَ لهم ملكهُم من منازعتهِم ، لا لما ادعاهُ من أنَّ طبيعةَ الكرمِ قدْ غلبتْ عليهِ، ومحبَّتُهُ أنْ يصدقَ رجاءَ الراجينِ بعثتَهُ على قتلِ أعدائهِ لما عُلم أنهُ لمَّا غدا للحربِ غدتِ الذئابُ تتوقعُ أنْ يتسِعَ عليها الرزقُ من قتلاهُم، وهذا مبالغةٌ في وصفهِ بالجودِ، ويتضمَّنُ المبالغةَ في وصفهِ بالشجاعةِ على وجهٍ تخييليٍّ أي تناهَى في الشجاعةِ حتى ظهرَ ذلكَ للحيواناتِ العُجم ،فإذا غدا للحربِ رجتِ الذئابُ أنْ تنالَ منْ لحومِ أعدائهِ ،وفيه نوعٌ آخرُ من المدحِ، وهو أنه ليسَ ممنْ يسرفُ في القتلِ طاعةً للغيظِ والحنقِ .
    والثاني – وصفٌ غيرُ ثابتٍ، وهو نوعانِ :
    (1)- إمَّا ممكنٌ ، كقول مسلم بن الوليد :
    يا واشِياً حَسُنَتْ فينَا إِسَاءَتُهُ ... نَجَّى حِذَارُكَ إِنْسَانِى مِنَ الغَرَق
    فاستحسانُ إساءة الواشي ممكنٌ، ولكنه لما خالفَ الناسَ فيه، عقبهُ بذكرِ سببه، وهو أنَّ حذاره منِ الواشي منعَه من البكاءِ، فسلمَ إنسانُ عينهِ من الغرقِ في الدموعِ. وما حصلَ ذلك فهو حسنٌ
    (2) وإما غير ممكن – كقول الخطيب القزويني :
    لَوْ لَمْ تكنْ نِيَةُ الجَوْزاءِ خِدْمَتَهُ ... لَمَا رَأَيْتَ عليها عِقْدَ مُنْتَطِقِ
    فقد ادّعى الشاعرُ: أنّ الجوزاءَ تريدُ خدمةَ الممدوحِ، وهذه صفةٌ غيرُ ممكنةٍ، ولكنه علّلها بعلةٍ طريفةٍ، ادَّعاها أيضاً ادّعاءً أدبياً مقبولاً ،إذ تصوَّر أنَّ النجومَ التي تحيطُ بالجوزاء، إنما هي نطاقٌ شدَّته حولَها على نحو ما يفعلُ الخدمُ، ليقوموا بخدمةِ الممدوحِ .
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 17:12

    المبحثُ السادسُ - أسلوبُ الحكيمِ

    *- تعريفُُهُ : هو أنْ تحدِّثَ المخاطَبَ بغيرِ ما يتوقعُ
    *- وهو ضربانِِ:
    الأولُ - إمَّا أنْ نتجاهلَ سؤالَ المخاطَبِ ، فنجيبُه عنْ سؤالٍ آخرَ لم يسألْه،مثاله قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (189) سورة البقرة ، فقد سألوا عن الهلال ما باله يبدو صغيرا فيكبرُ ثم يعودُ كما بدأ ، فقد كان سؤالهُم عن السببِ ، وكان الجوابُ عن الحكمةِ من تغيرِ الأهلَّة وهي مواقيتُ للناسِ والحجِّ .
    وكقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (215) سورة البقرة ، فقد سألوا النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ عن حقيقةِ ما ينفقونَ من مالهم، فأجيبوا ببيانِ طرُق إنفاقِ المال: تنبيهاً على أنَّ هذا هو الأولى والأجدرُ بالسؤال عنه. .
    والثاني - وإما أنْ نحملَ كلامَه على غيرِ ما كانَ يقصدُه ويريدُه ، وفي هذا توجيهٌ للمخاطَبِ إلى ما ينبغي عليه أنْ يسألََ عنه أو يقصدَه من كلامهِ ، كما في الحديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ». قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ. فَقَالَ « إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِى قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِى النَّارِ »أخرجه مسلم ، .فقد حملَ صلى الله عليه وسلم المفلسَ على غير مقصودِ المجيبينَ ، وهو المفلسُ من الحسناتِ ، وليس المفلسَ من المال ، وذلك ليبينَ لهم أنَّ هذا الإفلاسَ أهمُّ بكثير من ذاك .
    مثال آخر قول الشاعر :
    ولمَّا نَعَى الناعِي سأَلناه خشْيةً … …وللعيْن خوفُ البيْن تَسكابُ أمطارِ
    أَجابَ قضى! قلنا قَضَى حاجةَ العُلاَ … …فقالَ مضَى ! قلنا بكلِّ فَخارِ
    فقد حملَ المخاطبُ كلمةَ (قضَى) على إنجازِ الحوائجِ وقضائِها ، أمَّا المتكلِّمُ فقصدَ منه الموت َ ، وكذلك قوله (مضَى) أرادَ المتكلِّم (ماتَ) وحملَها المخاطبُ على أنه ذهبَ بالفضلِ ، ولم يدعْ لأحدٍ شيئاً .
    و لمَّا توجه خالد بن الوليد رضي الله عنه لفتح الحيرةِ أتى إليه من قِبَل أهلها رجل ذو تجربة، فقال له خالد: فيم أنت؟ قال: في ثيابي فقال: علام أنت؟ فأجاب: على الأَرض؛ فقال: كم سِنُّك؟ قال: اثنتان وثلاثون، فقال أسأَلك عن شيءٍ وتجيبني بغيره؟ فقال: إِنما أَجبتُ عما سأَلتَ.
    ومثلهُ قيل لتاجرٍ : كمْ رأسُ مالكَ؟ فقال: إني أمينٌ ، وثقةُ الناس بي عظيمةٌ .
    وسئلَ أحدُ العمال : ما ادخرتَ منَ المالِ ؟ فقال : لا شيءَ يعادلُ الصِّحَةَ

    المبحثُ السابعُ- الاستطرادُ

    *- تعريفهُ: هو أنْ يخرجَ المتكلمُ منَ الغرض الذي هو فيه إلى غرضٍ آخرَ لمناسبةٍ بينهُما، ثم يرجع فينتقلُ إلى إتمامِ الكلامِ الأولِ، كقول السموأل :
    وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ
    يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لَنا وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ
    فسياقُ القصيدةِ، للفخرِ بقومهِ، وانتقل منه إلى هجوِ قبيلتي عامرٍ وسلولٍ، ثم عاد إلى مقامه الأول، وهو الفخرُ بقومه، وكقول الشاعر :
    لنا نفوسٌ لنيلِ المجدِ عاشقةٌ فإنْ تسلتَ أسلناها على الأسلِ
    لا ينزلُ المجدُ إلا في منازلنا كالنوم ليسَ له مأوى سوىِ المقَلِ
    وقال الأصمعي : كنت عند الرشيد فدخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فقال: أنشدني من شعرك، فأنشدَه:
    وآمِرَةٍ بالبُخْلِ، قُلتُ لها: اقْصِري ... فذلكَ شَيْءٌ ما إليه سَبِيلُ
    فمِنْ خَيْرِ حالاتِ الفَتَى لو عَلِمْتِهِ ... إذا نالَ شَيْئاً أنْ يَكُونَ يُنِيلُ
    فإِنِّي رَأَيْتُ البُخْلَ يُزْرِي بأَهْلِهِ ... فأَكْرَمْتُ نَفْسِي أنْ يُقالَ بَخِيلُ
    فِعالِي فِعالُ المُكْثِرِينَ تَكَرُّماً ......... ومالِي قد تَعْلَمِينَ قَلِيلُ
    أَرَى النّاسَ خُلاّنَ الجَوادِ، ولا أرَى ... بَخِيلاً له في العَالَمِينَ خَلِيلُ
    وكَيْفَ أَخافُ الفَقْرَ أو أحْرَمُ الغِنَى ... ورَأْيُ أَمِيرِ المُؤْمِنينَ جَمِيلُ
    فقال الرشيدُ: يا فضلُ؛ أَعطهِ عشرينَ ألفَ درهم. ثم قالَ: للهِ أبياتٌ تأتينا بها يا إسحاقُ ما أتقنَ أصولَها، وأبينَ فصولَها، وأقلَّ فضولَها!
    فقالَ: واللهِ يا أميرَ المؤمنينَ، لا قبلتُ منها درهماً واحداً.
    قال: ولمَ؟
    قالَ: لأنّ كلامَك، واللهِ، خيرٌ من شِعري. فقال: يا فضلُ؛ ادفع إليه أربعين ألفاً.
    قال الأصمعيُّ: فعلمتُ أنه أصيدُ لدراهمِ الملوكِ منيِّ.
    و قال جريرٌ يهجو الفرزدقَ :
    أعددتُ للشعراء ِ سمًّا ناقعاً فسقيتُ آخرَهمْ بكأسِِ الأولِِ
    لمّا وَضَعْتُ على الفَرَزْدَقِ مِيسَمي، و ضغا البعيثُ جدعتُ أنفَ الأخطلِِ
    ==================
    المبحث ُالثامن - الافتنانُ

    *- تعريفُُه: هو الجمعُ بين فنَّين مختلفينِ، كالغزلِ، والحماسةِ، والمدحِ، والهجاءِ والتعزيةِ والتهنئةِ، ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (112) سورة الأنبياء ،فإنَّ ظاهرَ اللفظ يوهمُ أنَّ لفظةَ بالحقِّ مستغنًى عنها، للعلمِ بأنَّ الله سبحانه لا يحكمُ إلا بالحقِّ، فإنه قد ثبتَ أنه موصوفُ بالعدلِ بالدليلِ العقليِّ، فعدلَ عن المساواةِ، وأتى بهذه الزيادةِ ليضمِّنَ الكلامَ ضرباً من المحاسنَ يسمَّى الافتنانَ، فإنَّ المرادَ تعجيلُ ما يستحقُّه الكفارُ من العذابِ، ولذلك حصلَ في الكلام افتنانٌ، وهو الجمعُ بينَ الأدبِ والهجاءِ، لأنَّ مَنْ يستحقَّ الدعاءَ عليهِ بالعقوبةِِ ملومٌ، والله أعلم.
    ونحو ذلك كما في التعزية التالية :
    «لما تُوُفِّيَ معاويةُ رضي الله عنه واستُخْلِف يزيدُ ابنه اجتمع الناسُ على بابه، ولم يقدروا على الجمع بين تهنئة وتعزية، حتَّى أتى عبدُ الله بن همام السُّلولي، فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، آجَرَك الله على الرزية، وبارك لك في العطية، وأعانك على الرعيَّة، فقد رُزئتَ عظيماً، وأُعْطِيتَ جسيماً، فاشْكُرِ اللّه على ما أُعطيت، واصبرْ له على ما رُزِيت؛ فقد فقدتَ خليفة الله، ومُنِحْتَ خِلافة الله؛ ففارقتَ جليلاً، وَوُهِبْتَ جزيلاً؛ إذْ قضى مُعاوِيةُ نَحْبه، فغفر اللّه ذَنْبَه؛ وولَيت الرياسة، فأُعطيت السياسة؛ فأوردك اللّه موارِدَ السرور، ووفقك لصالح الأمور» وأنشده:
    اصِبْرْ، يَزيدُ، فقد فارقْتَ ذا ثقة .. واشْكُرْ حِبَاء الذِي بالمُلْكِ أصْفاكا
    لا رُزْءَ أَصبَح في الأقوام نَعْلَمه ..... كما رُزِئتَ ولا عُقْبَى كعُقْباكا
    أصْبحْتَ واليَ أمرِ الناسِ كلهم ...... فأَنْتَ ترْعاهُمُ واللَّهُ يَرْعاكا
    وكقول عنترة يخاطب عبلة :
    وَلَقَد ذَكَرْتُكِ والرّمَاحُ نَواهِلٌ، ... مِنّي وبِيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دَمي
    فَوَدِدْتُ تَقبيلَ السّيُوفِ لأنّها ... لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ
    فأما ما افتنَّ فيه بالجمعِ بين النسيبِ والحماسةِ فكقول عنترة :
    إنْ تغدُ في دوني القناعِ فإنني ... طبٌّ بأخذِ الفارسِ المستلئِم
    وكقول الشاعر :
    أُحِبُّكِ يا ظَلُومُ فأَنْتِ عِنْدي ... مكانَ الرُّوح من جسدِ الجبانِ
    ولو أَني أقولُ مكانَ روحي ... خشيتُ عَليْكَ بادِرَة َ الطّعانِ
    لإقدامي إذا ما الخيلُ حامتْ ..... وهابَ كماتهُا حرَّ الطّعانِ
    ==================
    المبحثُ التاسع - مراعاةُ النظيرِ

    *- تعريفهُ: هيَ الجمعُ بين أمرينِ، أو أمورٍ متناسبةٍ، لا على جهةِ التضادِّ، وذلك إمَّا بين اثنينِ، نحو قوله تعالى: {..وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11) سورة الشورى ، وإمَّا بين أكثرَ، نحو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} (16) سورة البقرة .
    ويُلَحقُ بمراعاةِ النظيرِ، ما بُنيَ على المناسبةِ في المعنَى بين طرفي الكلامِ ، يعني أنْ يختَمَ الكلامُ بما يناسبُ أوَّلهَ في المعنَى، نحو قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (103) سورة الأنعام. فإنَّ اللطيفَ يناسبُ عدمَ إدراكِ الأبصارِ له، والخبيرَ يناسبُ إدراكَهُ سبحانه وتعالى للأبصارِ.
    وما بُنيَ على المناسبةِ في اللفظِ باعتبارِ معنًى له غيرَ المعنَى المقصودِ في العبارةِ، نحو قوله تعالى:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} [الرحمن/5-7].
    فإنَّ المرادَ بالنَّجمِ هنا النباتُ، فلا يناسبُ الشَّمسَ والقمرَ ولكنَّ لفظَهُ يناسبهُما باعتبارِ دَلالته على الكواكبِ; وهذا يقال له: إيهامُ التناسبِ .
    و منه قولُ أسيد بن عنقاءَ الفزاريّ :
    كأنَّ الثريا عُلِّقَتْ في جبينهِ ... وفي أنفه الشَّعْرَى وفي خدِّه القمرْ
    ومن أحسنِ ما وردَ في مراعاةِ النظيرِ قول ُابن خفاجةَ يصفُ فرساً :
    وأشْقَر تضرم منْهُ الوَغى ... بشُعْلةٍ مِنْ شُعِل البَاس
    منْ جلّنار ناضر خدُّهُ ..... وأذنُهُ مِنْ وَرَق الآسِ
    تَطْلُعُ للغرِّةِ في وَجههِ .... حبَابة تَضحكُ في الكاس
    فالمناسبةُ هنا بين الجلنار والآسِ والنضارةِ.
    و منه قولُ ابن رشيق :
    أصحُّ وأقوى ما سمعناهُ في النَّدى ..... منَ الخبرِ المأثور ِمنذُ قديمٍ
    أحاديثَ ترويها السيولُ عنِ الحيا ... عنِ البحر ِعنْ كفِّ الأمير تميمِ
    فإنهُ ناسبَ فيه بين الصحَّةِ والقوَّةِ والسَّماع ِوالخبرِ المأثورِ والأحاديثَ والروايةِ، ثم َّبينَ السيلِ والحيا والبحرِ وكفِّ تميم، مع ما في البيت الثاني منْ صحةِ الترتيبِ في العنعنةِ، إذ جعلَ الروايةَ لصاغرٍ عنْ كابرٍ، كما يقعُ في سندِ الأحاديثَ، فإنَّ السيولَ أصلُها المطرُ، والمطرُ أصلُه البحرُ على ما يقالُ، ولهذا جعلَ كفَّ الممدوحِ أصلاً للبحر ِمبالغةً.
    ==================
    المبحثُ العاشر- الإرصادُ

    *- تعريفُه: هو أنْ يذكرَ قبلَ الفاصلةِ منَ الفِقْرةِ، أو القافيةِ، من البيتِ أو الكلامِ ما يدلُّ عليها إذا عُرفَ الرّوِيُّ، نحو قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (39) سورة ق . ونحو قوله تعالى: {.. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (40) سورة العنكبوت ،وكقول الشاعر :
    أحَلّتْ دَمي من غيرِ جُرْمٍ، وَحرّمتْ بلا سَبَبٍ، يوْمَ اللّقَاءِ، كَلامي
    فِداؤكِ مَا أبْقَيْتِ مِنّي، فإنّهُ حُشَاشَةُ نَفْسٍ في نحُولِ عِظامي
    صِلي مُغْرَماً قد وَاصلَ الشّوْقُ دَمْعَهُ سِجاماً على الخَدّينِ، بَعدَ سِجامِ
    فَلَيْسَ الّذي حَلّلْتِهِ بِمُحَلَّلٍ، وَلَيْسَ الّذي حَرّمْتِهِ بِحَرَامِ
    والشاهدُ فيه البيتان الأولُ والأخيرُ
    و نحو قول الشاعر :
    إِذا لمْ تَسْتَطِعْ شَيْئاً فَدَعْهُ ........ وجاوِزْهُ إِلى ما تَسْتَطِيعُ
    وصِلْهُ بالزَّماعِ فكُلُّ أَمْرٍ ....... سَما لَكَ أَوْ سَمَوْتَ لهُ وَلُوعُ
    وقد يُستغنَى عن معرفةِ الرويِّ، نحو قوله تعالى: {.. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (49) سورة يونس .
    ============
    المبحث الحادي عشر - الإدماجُ

    *- تعريفهُ : هو أنْ يُضمََّنَ كلامٌ قد سيقَ لمعنًى، معنًى آخرَ، لم يصرحْ بهِ، كقول المتنبي :
    أُقَلِّبُ فيهِ أَجْفَانِي كأَنِّي ... أَعدُّ على الدَّهْرِ الذُّنُوبَا
    ساقَ الشاعرُ هذا الكلامَ أصالةً لبيان طولِ الليل، وأدمجَ الشَّكوى منَ الدهر،في وصفِ الليلِ بالطولِ.
    وقول ابن المعتز في الخيري :
    قدْ نَفَضَ العاشِقونَ ما صنعَ ... الهَجْرُ بألوانهمْ على وَرَقِهْ
    فإنَّ الغرضَ وصفُ الخيري بالصفرة ،فأدمجَ الغزلَ في الوصف، وفيه وجهٌ آخرُ منَ الحسن ِوهو إيهامُ الجمعِ بين متنافيينِ أعني الإيجازُ والإطنابُ، أمَّا الإيجازُ فمن ْجهة ِالإدماجِ، وأمَّا الإطنابُ فلأنَّ أصلَ المعنى أنه ُأصفرُ، فاللفظُ زائدٌ عليه لفائدةٍ .
    ================
    المبحثُ الثاني عشر - المذهبُ الكلاميُّ

    * - تعريفُه: هو أنْ يوردَ المتكلِّم ُعلى صحة ِدعواه ُحُجَّةً قاطعةً مسلَّمةً عند المخاطبِ، بأنْ تكونَ المقدماتُ بعدَ تسليمِها مستلزمةً للمطلوب، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (22) سورة الأنبياء ،واللازمُ وهو الفسادُ باطلٌ، فكذا الملزومُ وهو تعددُ الآلهةِ باطلٌ، وليس شيءٌ أدلَّ على ذلك من الحقيقةِ والواقعِ،وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ..} (5) سورة الحـج، ونحو قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ..} (27) سورة الروم، أي وكلُّ ما هو أهونُ عليه فهو أدخلُ تحتَ الإمكانِ، فالإعادةُ ممكنةٌ.
    وسمِّيَ هذا النوعُ بالمذهبِ الكلاميِّ لأنه جاء على طريقةِ علم ِالكلامِ والتوحيدِ، وهو عبارة ٌعن إثباتِ أصولِ الدينِ بالبراهينِ العقليةِ القاطعةِ.
    وكقول النابغة يعتذر للنعمان :
    حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً،...وهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وهْوَ طائِعُ
    لَعَمْرِي، وما عَمْرِي عليَّ بِهَيِّنٍ ... لقَدْ نَطَقَتْ بُطْلاً عليَّ الأَقارِعُ
    أَقارِعُ عَوْفٍ، لا أُحاوِلُ غَيْرَها، ... وُجُوهٌ كِلابٍ تَبْتَغِي مَن تُجادِعُ
    فإِنْ كنتَ لاذا الضِّغْنِ عنِّي مُكَذِّباً، ... ولا حَلفِي على البَراءةِ نافِعُ
    ولا أَنا مَأْمُونٌ بقَوْلٍ أَقُولُهُ ......... وأَنْتَ بِأَمْرٍ لا مَحالَةَ واقِعُ
    فإنَّكَ كاللَّيْلِ الذي هو مُدْرِكِي ... وإِنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ واسِعُ
    خَطاطِيفُ حُجْنٌ في حِبالٍ مَتِينَة ...... تَمُدُّ بِها أَيْد إِليكَ نَوازِعُ
    سيَبْلُغُ عُذْراً أَو نجَاحاً مِن امْرِىءٍ ... إِلى رَبِّهِ، رَبِّ البَريَّةِ، راكِعُ
    يقول :أنتَ أحسنتَ إلى قومٍ فمدحوكَ وأنا أحسِنُ إلى قومٍ فمدحتُهم فكما أنَّ مدحَ أولئكَ لا يعدُّ ذنباً فكذلكَ مدحي لمنْ أحسنَ إليَّ لا يعدُّ ذنباً
    وفي رواية أخرى عنه يقول :
    حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... ولَيْسَ وَراء اللّهِ للمَرْءِ مَذْهَبُ
    لَئِنْ كنتَ قد بُلِّغْتَ عنِّي خِيانَةً ... لَمُبْلِغُكَ الواشِي أَغَشُّ وأَكْذَبُ
    ولسْتَ بمُسْتَبْبقٍ أَخاً لا تَلُمُّهُ ... على شَعَثٍ، أَيُّ الرِّجال المُهَذَّبُ
    ولكنَّنِي كنتُ امْرأَ لِيَ جانِبٌ ... مِن الأَرْضِ فِيه مُسْتَرادٌ ومَطْلَبُ
    مُلُوكٌ وإِخْوانٌ إِذا ما أَتَيْتُهُمْ ...... أُحَكَّمُ في أَمْوالِهِمْ وأُقَرَّبُ
    كفِعْلِكَ في قَوْمٍ أَراكَ اصْطَنَعْتَهُم ... فَلَمْ تَرَهُمْ في شُكْرِ ذلكَ أَذْنَبُوا
    أَلَمْ تَر أَنَّ اللّهَ أَعْطاكَ سُورَةً ..... تَرَى كلَّ ملْكِ دُونَها يَتَذَبْذَبُ
    فإِنَّكَ شَمْسٌ والمُلُوكُ كَواكِبٌ ... إِذا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهنَّ كَوْكَبُ
    =================
    المبحثُ الثالث عشر - التجريدُ

    *- تعريفُه: لغة ًإزالةُ الشيء عن غيرهِ.
    واصطلاحاً: أنْ ينتزع َالمتكلِّم ُمن أمر ذي صفةٍ أمراً آخرَ مثله ًفي تلك الصفةِ مبالغةً في كمالهِا في المنتَزعِ منه، حتى أنه قدْ صارَ منها بحيثُ، يمكن ُأن ْينتزَعَ منه موصوفٌ آخرُ بها،
    وأقسامُ التجريدِ كثيرةٌ منها:
    أ - ما يكونُ بواسطةٍ مِنْ التجريديةِ، كقولك: لي «مِنْ» فلانٍ صديقٌ حميمٌ، أي بلغَ فلانٌ من َالصداقةِ حدًّا صحَّ معه أنْ يستخلصَ منه آخرُ مثلهُ فيها.
    ونحو قول الشاعر:
    ترى منهمُ الأسدَ الغضاب َ إذا سطوا وتنظر ُمنهم في اللقاءِ بدورا
    ب - ما يكونُ بواسطةِ «الباء» التجريديةِ الداخلة ِعلى المنتزَع ِمنهُ،نحو قولهم: لئنْ سألتَ فلاناً لتسألنَّ به البحرَ، بالغ َفي اتصافِه بالسماحةِ، حتى انتزعَ منه بحراً فيها. و نحو: (شربت ُبمائها عسلاً مصفَّى...). فكأنَّ حلاوةَ ماءِ تلكِ العين الموصوفةِ وصلتْ إلى حدٍّ يمكنُ انتزاعُ العسل ِمنها حينَ الشُّربِ.
    ج -ما لا يكونُ بواسطةٍ، نحو قوله تعالى : {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } (12) سورة التوبة] ، وكقوله: (وسألتُ بحراً إذ سألتُه) جرّدَ منه بحراً من العلمِ، حتى أنه سألَ البحرَ المنتزَع منه إذْ سألهُ.
    د -ما يكونُ بطريقِ الكنايةِ، كقول الأعشى :
    يَا خَيْرَ مَنْ يَرْكَبُ الْمَطِىَّ ولَا ... يَشْرَبُ كَأْساً بِكَفِّ مَنْ بَخِلَا
    هـ - أنْ يكونَ المخاطَبُ هو نفسَه، كقول المتنبِّي :
    لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ
    فإنّه انتزعَ وجرّدَ منْ نفسِه شخصاً آخرَ وخاطبَه فسمِّي لذلك تجريداً، وهو كثيرُ في كلام الشعراءِ.
    ==================
    المبحث الرابع عشر - المشاكلَة ُ
    *- المشاكلَةَُ: هيَ أنْ يذكرَ الشيءُ بلفظِ غيره، لوقوعهِ في صحبتهِ كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (116) سورة المائدة المراد: ولا أعلمُ ما عندَكَ،وعبَّرَ بالنفسِ للمشاكلةِ، ونحو قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (19) سورة الحشر ، أي أهمَلهُم،ذُكرََ الإهمالُ هنا بلفظِ النسيان ِلوقوعهِ في صحبتِه. وكقوله تعالى : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (194) سورة البقرة ، وقوله تعالى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (30) سورة الأنفال ، وهو كثير جدًّا في القرآن الكريم
    ومنْ ذلكَ ما حُكيَ عن أبي الرقمع : أنَّ أصحاباً له أرسلوا يدعونهُ إلى الصبوح ِفي يوم باردٍ، ويقولون لهُ: ماذا تريدُ أنْ نصنعَ لكَ طعاماً؟ وكانَ فقيراً، ليسَ له كسوةٌ تقيهِ البردُ، فكتب َإليهم يقولُ:
    وعِصابةٍ عزموا الصَّبوحَ بسَحْرةٍ ... بعثوا إليَّ مع الصّباحِ خُصوصا
    قالوا: اقترحْ لوناً نُجيدُ طبيخَه ... قلت: اطبخوا لي جُبّةً وقَميصا
    أي: خيّطوا لي جبّةً وقميصاً، فأبدلَ الخياطةَ بلفظِ الطبخِ لوقوعِها في سياقِ طبخِ الطعامِ.
    وكقول أبي تمام :
    منْ مبلغٌ أفناءَ يَعْربَ كلَّها إني ابتنيتُ الجار قبل المنزلِ
    وكقول عمرو بن كلثوم :
    أَلاَ لاَ يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَا
    ===================
    المبحث الخامس عشر - المزاوجَةُ

    *- تعريفُها: هيَ أنْ يُزَاوجَ المتكلِّمُ بين معنيينِ في الشرطِ والجزاءِ، بأن ْ يرتِّبَ على كلٍّ منهما معنًى رُتِّبَ على الآخرَ، كقول البحتري :
    إذا ما نَهَى النّاهي، فلَجّ بيَ الهَوَى، أصاختْ إلى الوَاشِي، فلَجّ بها الهَجرُ
    زاوجَ بين النهيِ والإصاخةَ في الشرطِ والجزاءِ بترتيب ِاللجاج ِعليهما.
    وكقول البحتري أيضاً :
    إذا احتَرَبتْ يَوْماً، فَفَاضَتْ دِماؤها، تَذَكّرَتِ القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُها
    بينَ الاحترابِ أيْ التحاربِ وبين تذكرِ القربَى، في الشرط ِوالجزاءِ بترتيبِ الفيضِ عليهما.
    ==================
    المبحثُ السادس عشر - الطيُّ والنَّشْرُ

    * - تعريفُه:هو أنْ يذكر َمتعددٍ، ثم يذكرَ ما لكلٍّ منْ أفرادهِ شائعاً منْ غيرِ تعيينٍ، اعتماداً على تصرفِ السامعِ في تمييزِ ما لكلِّ واحدٍ منها، وردّهِ إلى ما هوَ لهُ ،وهو نوعانِ:
    أ - إمَّا أن ْ يكونَ النَّشرُ فيه على ترتيبِ الطيِّ، نحو قوله تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (73) سورة القصص، فقد جمعَ بين َالليل ِوالنهارِ ثمَّ ذكر َالسُّكونَ لليلِ، وابتغاءَ الرزقِ للنهارِ، على الترتيبِ.
    وكقول ابن الرومي :
    آراؤُكمْ وَوُجوهُكمْ وَسيُوفُكمْ ... في الحادِثاتِ إذَا دَجوْنَ نُجومُ
    فِيها مَعالِم لِلهدَى وَمصابحٌ ... تَجلو الدُّجَى والأُخْرَياتُ رجومُ
    فالآراءُ معالم ُللهدى، والوجوهُ مصابحُ للدُّجى، والسيوفُ رجومُ.
    وكقول الشاعر :
    فِعْلُ الْمُدَامِ وَلَوْنُها وَمَذَاقُها فِي مُقْلَتَيْهِ وَوَجْنَتَيْهِ وَرِيقِهِ
    ب -وإمَّا أنْ يكونَ النَّشْر ُعلى خلافِ ترتيبِ الطيِّ ،نحو قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (12) سورة الإسراء ،ذكر ابتغاءَ الفضلِ للثاني، وعلمَ الحسابِ للأولِ، على خلافِ الترتيب، وكقوله تعالى : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (111) سورة البقرة ، فإنَّ الضميرَ في قالوا لأهلِ الكتاب ِمن اليهودِ والنصارى، والمعنَى وقالتِ اليهودُ لنْ يدخلَ الجنة إلا منْ كانَ هوداً ،وقالت النصارى لنْ يدخل َالجنةَ إلا من ْكان َنصارى، فلف َّبين القولينِ ثقةً بأنَّ السامعَ يردُّ إلى كلِّ فريقٍ قولهُ، وأمناً من الإلباسِ لما عُلِم َمن ْالتعادي بين الفريقينِ وتضليلِ كلِّ واحدٍ منهما لصاحبِه.
    وكقول الشاعر :
    ولحظهُ ومُحياهُ وقامتهُ بدرُ الدُّجا وقضيبُ البانِ والرَّاحِ
    فبدرُ الدُّجا: راجعٌ إلى المحيّا الذي هو الوجهُ، وقضيبُ البانِ راجعٌ إلى القامةِ، والراحُ راجعٌ إلى اللحظِ ويسمَّى اللفَّ والنشرَ أيضاً.
    ===================

    المبحث ُالسابع عشر - الجمعُ

    * - تعريفُه: هو أنْ يجمعَ المتكلِّم ُبين متعدِّدٍ، تحتَ حكمٍ واحدٍ وذلك:
    أ -إمَّا في اثنينِ، نحو قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (46) سورة الكهف .فقد جمع بين المال والبنون،و نحو قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (28) سورة الأنفال .فقد جمع بين الأموال والأولاد ، وقد ذكر هذا كثيرا في القرآن الكريم ، كالجمع بين الإيمان والعمل الصالح في أكثر من خمسين موضعا
    ب - وإمَّا في أكثرَ ، نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) سورة المائدة ، وكقوله تعالى : {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (24) سورة التوبة، وكقوله تعالى : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (55) سورة المائدة ، وكقول الشاعر :
    إِنَّ الشَّبَابَ والفَرَاغَ والجِدَهْ مَفْسَدةٌ للعَقْلِ أَيُّ مَفْسَدهْ
    وكقول الشاعر :
    أرَاؤُهُ وَعَطاياهُ ونِعمتُهُ ... وعفوُهُ رحمَةٌ للنَّاس كلِّهم
    وكقول ابن الرومي :
    آراؤُكمْ وَوُجوهُكمْ وَسيُوفُكمْ ... في الحادِثاتِ إذَا دَجوْنَ نُجومُ
    فِيها مَعالِم لِلهدَى وَمصابحٌ ... تَجلو الدُّجَى والأُخْرَياتُ رجومُ
    =================



    المبحثُ الثامن عشر - التفريقُ

    * - تعريفُهُ : أن ْ يفرِّقَ بينَ أمرينِ من نوعٍ واحدٍ في اختلافِ حكمهُما ،نحو قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ..} (12) سورة فاطر ، وكقول الشاعر :
    ما نوالُ الغمام وَقْتَ رَبيعٍ ... كنوالِ الأمير يوم سخاءِ
    فنوالُ الأمير بدْرَةُ عَيْنٍ ... ونوالُ الغمام قَطْرَةُ ماءِ
    وكقول الشاعر :
    منْ قاسَ جَدْوَاكَ يوماً ... بالسُّحْبِ أخطأَ مدحكْ
    السحبُ تعطي وتبكي ... وأنتَ تُعطي وتضحكْ
    منْ قاسَ جدواكَ بالغمامِ فما أنصفَ في الحكمِ بين شكلينِ، أنتَ إذا جدتَ ضاحكٌ أبداً ،وهو إذا جادَ دامع ُالعين ِوكقول الشاعر :
    وَرْدُ الخدودِ أَرَقُ من ... وَرْدِ الرياضِ وَأَنْعَمُ
    هذا تَنَشَقُهُ الأُنو ... فُ وذا يُقَبِّلُهُ الفَمُ
    =================
    المبحثُ التاسع عشر - التَّقسيم ُ

    * - تعريفُه: هو أن ْ يُذكرَ مُتعددٍ، ثمَّ يضافُ إلى كلٍّ من أفرادهِ ما لهُ على جهةِ التعيينِ ، نحو قوله تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) } [الحاقة/4-7].
    وكقول الشاعر :
    ولا يقيمُ على ضَيْمٍ يرادُ بهِ ... إلا الأذَلاَّنِ عَيْرُ الحي والْوَتِدُ
    هذا على الخسفِ مربوطٌ برُمَّتِهِ ... وذَا يُشجُّ فلا يَرْثِي لهُ أحدُ
    وقد يُطلقُ التقسيمُ على أمرينِ آخرينِ:
    أوّلهما- أنْ تستوفَى أقسامُ الشيء نحو قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} (6) سورة طـه .
    وثانيهما- أنْ تُذكرَ أحوالُ الشيء مضافاً إلى كلٍّ منها ما يليقُ به، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (54) سورة المائدة .
    وكقول أبي الطيب المتنبي :
    سأطْلُبُ حَقّي بالقَنَا ومَشايخٍ كأنّهُمُ من طولِ ما التَثَموا مُرْدُ
    ثِقالٍ إذا لاقَوْا خِفافٍ إذا دُعُوا كَثيرٍ إذا اشتَدّوا قَليلٍ إذا عُدّوا
    ================
    المبحث ُالعشرون - الجمعُ معَ التفريقِ

    * - تعريفُهُ: هو أنْ يجمعَ المتكلِّمُ بين شيئينِ في حكمٍ واحدٍ، ثم يفرقُ بينَ جهتيْ إدخالهِما، كقوله تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } (76) سورة ص. ومنه قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} (12) سورة الإسراء . ومثله قوله تعالى :{ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) }[هود/105-108] فقدْ جمعَ الأنفسَ في عدمِ التكلّمِ ثمّ فرّقَ بينها بأنَّ بعضَها شقيٌّ وبعضَها سعيدٌ، ثم قسّمَ الشقيَّ والسعيدَ إلى ما لهمْ هناكَ في الآخرةِ من الثوابِ والعقابِ.
    و كقول الشاعر :
    فَوَجْهكَ كالنَّارِ في ضَوْئِهَا ... وقَلْبِيَ كالنَّارِ في حَرِّهَا
    شبَّه وجهَ الحبيبِ وقلبَ نفسهِ بالنارِ ،وفرَّقَ بين وجهي المشابهِة.
    المبحثُ الحادي والعشرون- الجمعُ معَ التقسيمِ

    * - تعريفُه:هو أن ْيجمعَ المتكلِّم بين شيئينِ أو أكثرَ تحتَ حكم ٍواحدٍ،ثم يُقسِّمُ ما جمعَ أو يقسِّم ُأوّلا، ثم يجمعُ.
    فالأول- نحو قوله تعالى : {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (42) سورة الزمر .
    وكقول المتنبي :
    حتَّى أقامَ على أرْباض خَرْشنةٍ ... تَشقى به الرُّومُ والصُّلْبانُ والبِيَعُ
    للسَّبي ما نَكَحُوا والقَتلِ ما ولَدُوا ... والنَّهْبِ ما جَمَعوا والنَّارِ ما زَرَعُوا
    جمعَ في البيتِ الأول شقاءَ الرومِ بالممدوحِ على سبيلِ الإجمالِ حيث قال :تشقى به الروم، ثم قسَّم في الثاني وفصَّله.
    و كقول حسان رضي الله عنه :
    قومٌ إذا حاربوا ضروا عدوهمُ، أوْ حاوَلُوا النّفْعَ في أشياعِهِمْ نَفعوا
    سجية ٌ تلكَ منهمْ غيرُ محدثة ٍ، إنّ الخلائِقَ، فاعلَمْ، شرُّها البِدَعُ
    قسَّم في البيتِ الأول صفة َالممدوحينَ إلى ضرِّ الأعداءِ ونفع الأولياءِ ثم جمعهُما في البيتِ الثاني حيثُ قال: سجيةٌ تلكَ.
    ومنْ لطيفِ هذا الضربِ قولُ الآخرِ :
    لو أنَّ ما أنتمُ فيه يدومُ لكم ...... ظننتُ ما أنا فيه دائماً أبدا
    لكنْ رأيتُ الليالي غيرَ تاركةٍ ... ما سرَّ منْ حادثٍ أو ساءَ مطِّردا
    فقدْ سكنتُ إلى أني وأنكُم ... سنستجدُّ خلافَ الحالتينِ غدا
    فقوله: خلافَ الحالتينِ جمعٌ لما قسَّمَ لطيفٌ، وقدِ ازدادَ لطفاً بحسنِ ما بناهُ عليه من قوله:فقدْ سكنتُ إلى أني وأنكُم
    ==================
    المبحثُ الثاني والعشرون - المغايرةُ

    * - تعريفُها: هي مدحُ الشيءِ بعد ذمِّهِ، أو عكسُهُ ، كقول الحريري في مدحِ الدينار: «أكرم ْبهِ أصفرٌ راقتْ صفرَتُهُ» .بعدَ ذمِّه ِفي قوله: «تَبًّالهُ منْ خادع ٍممارقٍ».
    و كقول الشاعر :
    جزى اللهُ الحوادثَ منجياتٌ وأخزاها حوادثَ ماحقاتٌ
    فإنَّ الحادثةَ قدْ ترفعُ الشخصَ وقدْ تضعُهُ
    ومن هذا قولُ أبي تمامَ يغايرُ جميعَ الناس في تفضيلِ التكرُّمِ على الكرمِ، بقوله لأبي سعيدٍ الثغريِّ :
    قد بلونا أبا سعيدٍ حديثاً وبَلْونا أَبَا سعيدٍ قَديما
    ووَرَدْناهُ سَاحِلاً وَقَلِيباً ورَعَيْنَاهُ بارضاً وجَميما
    فَعَلِمْنا أَنْ لَيْسَ إِلاَّ بِشِق النَّـ ـفس صار الكريمُ يدعى كريما
    ثم غايرهُ المتنبِّي فقالَ على الطريقِ المألوفِ :
    لَوْ كَفَرَ العالَمُونَ نِعْمَتَهُ لمَا عَدَتْ نَفْسُهُ سَجَايَاهَا
    كالشَمسِ لا تَبتَغي بما صَنَعَتْ مَعْرِفَةً عِنْدَهُمْ وَلا جَاهَا
    وهذا المعنى من قول أبي تمام :
    لا يُتْعِبُ النّائِلُ المَبذولُ هِمّتَهُ، وَكَيفَ يُتْعِبُ عَينَ النّاظرِ النّظرُ
    ويقول بشار بن برد :
    يسقطُ الطَّيرُ حيثُ ينتثر الحبُّ وتُغشى منازلُ الكرماءِ
    ليس يعطيك للرِّجاءِ ولا الخو فِ ولَكِنْ يَلَذُّ طَعْمَ العَطَاء
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 17:15

    المبحث الثالث والعشرون - تأكيد المدح بما يشبه الذم

    له ثلاثةُ أساليبَ :
    الأسلوبُ الأولُ - أنْ يستثنَى من صفةِ ذمٍّ منفيةٍ عن الشيءِ صفةَ مدحٍ بتقدير دخولها فيهِ ، نحو قوله تعالى:{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة/25، 26]، فالتأكيدُ فيه من جهةِ أنه كدعوَى الشيء ببينةٍ، وأنَّ الأصلَ في الاستثناءِ الاتصالُ، فذكر ذاتهُ قبلَ ذكر ما بعدها يوم َإخراجِ الشيء مما قبلها، فإذا وليها صفة ُمدح ٍجاءَ التأكيدُ.،
    وكقول النابغة :
    ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بهِنَّ فُلُولٌ مِن قِراعِ الكَتائِب
    وإنما كان هذا الاستثناءُ من المبالغةِ في المدح ِ ،لأنه قد دلَّ به على أنه لو كان فيهم عيبٌ غيره لذكرَه، وأنه لم يقصدْ إلا وصفهُم بما فيهم على الحقيقةِ .
    وقول الشاعر :
    ولا عَيْبَ في معروفِهمْ غيرَ أنَّهُ ... يُبَيِّنُ عَجْزَ الشَّاكرينَ عن الشُّكْرِ
    ومن أحسن ما قيل في ذلك قول حاتم الطائي :
    وما تشتكيني جارتي غيرَ أنَّني ... إذا غابَ عنها بعلُها لا أزورُها
    الأسلوبُ الثاني – أنْ يثبتَ للشيءِ صفةَ مدحٍ ، ويأتيَ بعدها بأداةِ استثناءٍ تليها صفةُ مدحٍ أخرى والنوع الأول أبلغ ، كقوله صلى الله عليه وسلم يحكي عن رجل من أهل الكتاب : « إِنَّ رَجُلاً كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَقِيلَ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ قَالَ مَا أَعْلَمُ ، قِيلَ لَهُ انْظُرْ . قَالَ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا غَيْرَ أَنِّى كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ فِى الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ ، فَأُنْظِرُ الْمُوسِرَ ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ . فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ » .
    وأصل الاستثناء في هذا الضرب أيضاً أن يكون منقطعاً لكنه باق على حاله لم يقدر. متصلاً فلا يفيد التأكيد إلا من الوجه الثاني من الوجهين المذكورين .
    و كقول الشاعر :
    ولا عَيْبَ فيهِ غيرَ أنِّي قصدْتُهُ ... فأَنْستْنِيَ الأَيَّامُ أَهلاً وموطِنَا
    وكقول النابغة الجعدي :
    فَتًى كَملَتْ أَخلاقُهُ غيرَ أَنّه ... جوادٌ فما يُبقي من المالِ باقِيا
    وأمَّا قوله تعالى:{ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) }[الواقعة/25-27]،فيحتمل الوجهينِ، وأمَّا قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (62) سورة مريم ، فيحتملهما ،ويحتملُ وجهاً ثالثاً وهو أن يكونَ الاستثناءُ من أصله متصلاً، لأنَّ معنى السلامِ هو الدعاءُ بالسلامةِ ، وأهلُ الجنةِ عن الدعاءِ بالسلامة أغنياءُ، فكان ظاهره ُمن قبيل اللغوِ وفضولِ الكلام ِلولا ما فيه من فائدة الإكرامِ .
    الأسلوبُ الثالث- هو أن ْ يأتيَ الاستثناءُ فيه مفرَّغاً ،كقوله تعالى: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } (126) سورة الأعراف ، أي وما تعيبُ منا إلا أصلَ المناقبِ والمفاخرِ كلها ،وهو الإيمانُ بآياتِ الله ، ونحوه قوله تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (59) سورة المائدة ، فإنَّ الاستفهامَ فيه للإنكارِ.
    واعلم أنَّ الاستدراكَ في هذا الباب يجري مجرَى الاستثناءِ كما في قول أبي الفضل بديعِ الزمان الهمذانيِّ :
    هُوَ البَدْرُ إلاَّ أَنَّهُ البَحْرُ زَاخِراً سِوَى أَنَّهُ الضِّرْغامُ لكنَّهُ الوَبْلُ
    وكقول الشاعر :
    وجوهٌ كأَكْبادِ المُحِبِّينَ رقَّةً ... ولكنَّها يومَ الهيَاجِ صُخُورُ


    المبحث الرابع والعشرون - تأكيدُ الذمِّ بما يشبهُ المدحَ

    تأكيدُ الذّم بما يُشبهُ المدحَ ضربان :
    الأول – أن يُستثنَى من صفةِ مدحٍ منفيةٍ عن الشيء، صفةَ ذمٍّ بتقدير دخولها فيها – كقول الشاعر :
    خلا منَ الفضل غيرَ أنِّي أراه ُفي الحمقِ لا يجارِى
    ونحو : لا فضلَ للقوم إلا أنهم لا يعرفونَ للجار حقَّهُ .ونحو: الجاهلُ عدوُّ نفسهِ إلا أنه صديقُ السفهاءِ، ونحو: فلانٌ ليسَ أهلا للمعروفِ، إلا أنه يُسيءُ إلى منْ يحسنُ إليهِ .
    الثاني – أن يثبتَ لشيء صفةَ ذمٍّ، ثم يؤتَى بعدها بأداة ِاستثناءٍ ، تليها صفةُ ذمٍّ أخرى، نحو: فلانٌ حسودٌ إلا أنه نمّام،وكقول الشاعر :
    هو الكَلْبُ، إلا أن فيه ملالةً ... وسُوءَ مُرَاعاةٍ وما ذَاكَ في الكَلْبِ
    وكقول الشاعر :
    لئيمُ الطباعِ سوى أنهُ جبانٌ يهونُ عليه الهوانُ
    وما أحسنَ قولَ بعضهم يصفُ قوماً بالبخل الشديد :
    بِيضُ المَطابِخِ لا تَشْكو ولائدهُمْ ... طَبْخَ القُدُورِ ولا غَسْلَ المناديلِ
    لا تأكُلُ النَّارُ في مغنى بُيُوتهُمُ ........ إلاَّ فَتائِلَ سُرجٍ أو قَنَادِيلِ

    ==============
    المبحث ُ الخامس والعشرون - التوجيهُ
    * - تعريفُه: هو أنْ يؤتَى بكلام ٍيحتملُ معنيينِ متضادينِ على السواءِ كهجاءِ، ومديحِ، ودعاءٍ للمخاطبِ، أودعاء عليه، ليبلغَ القائلُ غرضَه بما لا يمسكُ عليه، كقول بشار في خياط أعور اسمه عمرو :
    خَاطَ لي عمروٌ قباءْ ليتَ عينَيْهِِ سواءْ
    فإنَّ دعاءه لا يعلمُ، هل له أم عليه؟
    و نحو قول الشاعر :
    كلما لاحَ وَجههُ بمكانٍ ... كثرت زحمةُ العيون عليهِ
    وعليه قوله تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (46) سورة النساء ، قال الزمخشري : قولهم : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } حال من المخاطب ، أي اسمع وأنت غير مسمع ، وهو قول ذو وجهين ، يحتمل الذمّ أي اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع ، فكان أصم غير مسمع . قالوا ذلك اتكالاً على أنّ قولهم لا سمعت دعوة مستجابة أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه . ومعناه غير مسمع جواباً يوافقك ، فكأنك لم تسمع شيئاً . أو اسمع غير مسمع كلاماً ترضاه ، فسمعك عنه ناب . ويجوز على هذا أن يكون ( غير مسمع ) مفعول اسمع ، أي اسمع كلاماً غير مسمع إياك ، لأن أذنك لا تعيه نبوًّا عنه . ويحتمل المدح ، أي اسمع غير مسمع مكروهاً ، من قولك : أسمع فلان فلاناً إذا سبه . وكذلك قولهم : { راعنا } يحتمل راعنا نكلمك ، أي ارقبنا وانتظرنا . ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها ، وهي : راعينا ، فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه بكلام محتمل ، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } فتلا بها وتحريفاً ، أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل ، حيث يضعون ( راعناً ) موضع ( انظرنا ) و ( غير مسمع ) موضع : لا أسمعت مكروهاً .أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً . فإن قلت : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا : سمعنا وعصينا؟ قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان . ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء . ويجوز أن يقولوه فيما بينهم . ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ، ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به
    00000000000000000000000
    *-الفرقُ بين التوريةِ والتوجيهِ :
    ا-التوريةُ: تكونُ في لفظٍ واحدٍ.وأمَّا التوجيهُ: فيكونً في تركيبٍ
    ب- التوريةُ: يقصدُ المتكلِّم بها معنًى واحداً: هو البعيد.والتوجيهُ: لا يترجحُ فيه أحدُ المعنيينِ على الآخرَ.
    ==================
    المبحث السادس والعشرون- نفيُ الشيءِ بإيجابهِ

    *- تعريفُه: هو أنْ يثبتَ المتكلِّم شيئاً في ظاهرِ كلامهِ وينفيَ ما هو منْ سببه ِمجازاً، والمنفيُّ في باطنِ الكلامِ حقيقة ٌهو الذي أثبتهُ، نحو قوله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النــور .فإنَّ نفيَ إلهاءِ التجارةِ منهُم، إثباتهاً لهم، والمرادُ نفيُها أيضاً. فإذا تأملتَه وجدتَ باطنَهُ نفياً، وظاهرَه إيجاباً
    وكقول الشاعر للخليفةِ :
    لم يُشغَلَنْكَ عنِ الجهادِ مكاسبٌ ترجو ولا لهوٌ ولا أولادُ
    فإنه يوهمُ إشغالَ المكسبِ له في الجملةِ - كما في الأولادِ - مع أنهُ لا كسبَ للخليفةِ.
    و قال امرؤ القيس :
    علَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ... إِذَا سَافَهُ الْعَوْدُ الدِّيَافِىُّ جَرْجَرَا
    فقوله " لا يهتدي بمنارهِ " لم يردْ أنَّ له مناراً لا يهتدَى به، ولكنْ أرادَ أنهُ لا منارَ له فيهتدَى بذلكِ المنارِ.
    وكذلك قولُ زهير :
    بأرضِ فَلاةٍ لا يُسَدّ وَصِيدُهَا، ... عليّ، ومَعروفي بها غيرُ مُنكَرِ
    فأثبتَ لها في اللفظِ وصيداً، وإنما أرادَ ليسَ لها وصيدٌ فيسدُّ عليَّ.
    ====================
    المبحث السابع والعشرون - القولُ بالموجبِ
    *- تعريفُه: هو أن ْيحملَ كلامُ الغيرِ على خلافِ مرادهِ ، وهو نوعان:
    الأولُ- أن يقع َفي كلامِ الغيرِ إثباتُ صفةٍ لشيءٍ وترتيبِ حكم ٍعليها، فينقلُ السامعَ تلكَ الصفة َإلى غير ذلكِ الشيءِ من غيرِ تعرَّضٍ لثبوتِ ذلك الحكمِ له أو انتفائهِ عنهُ ، كقوله تعالى عن المنافقينَ: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (8) سورة المنافقون ،فالمنافقونَ أرادوا بالأعزِّ أنفسَهم، وبالأذلِّ المؤمنينَ ورتبوا على ذلكَ الإخراجُ من المدينةِ، فنقلتْ صفة ُالعزةِ للمؤمنين، وأبقيتْ صفةُ الأذلية ِللمنافقين، من غير تعرُّضٍ لثبوتِ حكمِ الإخراجِ للمتصفينَ بصفة ِالعزة ِو لا لنفيهِ عنهُم .
    والثاني- حملُ لفظٍ وقعَ في كلامِ الغيرِ على خلافِ مرادهِ بذكرِ متعلَّقِ له كقول الشاعر :
    وإخوَانٍ حسِبتهُمُ دُرُوعاً ... فكانوها ولكنْ للأَعَادِي
    وخلتُهُمُ سِهاماً صائِباتٍ ... فكانوها ولكنْ في فُؤادِي
    وقالوا قد صَفَتْ منَّا قُلوبٌ ... لقدْ صَدَقوا ولكنْ من ودَادِي
    وقالوا قدْ سَعينَا كلّ سَعْيٍ ... لقدْ صَدَقوا ولكنْ في فَسادِي
    فإنهم أرادوا الخلوصَ له، فحملهُ الشاعرُ على الخلوّ من ودادهِ.
    وكقول الشاعر :
    قُلْتُ :ثَقَّلْتُ إذْ أَتَيْتُ مراراً ... قالَ: ثَقَّلْتَ كاهِلِي بالأَيادِي
    قلتُ: طَوَّلْتُ قالَ :لا بل تَطَوَّ ... لتُ وأَبرمتُ قالَ :حَبْلَ ودادِي
    والاستشهادُ بقوله ثقلتُ وأبرمتُ دون قوله طولتُ.
    ومنه قول القاضي الأرجاني :
    غالطتني إذْ كستْ جسمي الضَّنا ... كسوةً عرَّت منَ اللحمِ العِظاما
    ثمَّ قالتْ أنتَ عندي في الهوَى ... مثلُ عيني صدقَتْ لكنْ سِقاما
    ولابن الدويدة المغربي من أبيات يخاطب بها من أَودع قاضياً مالاً فادَّعى ضياعه فقال :
    إنْ قالَ قدْ ضاعَتْ فيصدُقُ أَنَّها ... ضاعَتْ ولكنْ منكَ يَعني لوْ تعي
    أَو قالَ قد وَقَعَتْ فيصدُقُ أَنَّها ... وقَعَتْ ولكنْ منهُ أَحسَنَ موقعِ
    ==================
    المبحثُ الثامن والعشرون - ائتلافُ اللفظ مع المعنَى
    *- تعريفُه: هو أن ْتكونَ الألفاظُ موافقةً للمعاني، فتُختار َالألفاظُ الجزلةُ، والعباراتُ الشديدةُ للفخرِ والحماسةِ، وتُختارَ الكلماتُ الرقيقةُ، والعباراتُ اللينةُ، للغزلِ والمدحِ كقول بشار :
    إِذا ما غَضِبْنَا غَضْبَةً مُضَرِيَّةً ... هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْسِ أَو قَطَرَتْ دَمَا
    إِذا ما أَعَرْنَا سَيِّداً من قَبيلَةٍ ....... ذُرَى مِنْبَرٍ صَلَّى عَلَيْنَا وسَلَّمَا
    وكقول الشاعر :
    ولستُ بنظارٍ إلى جانبِ الغنَى إذا كانتِ العلياءُ في جانبِ الفقرِ
    وكقول بشار :
    لمْ يَطُلْ لَيلي، وَلكِنْ لمْ أنَمْ، ... وَنَفَى عَني الكَرَى طَيفٌ ألَمّ
    خَتَمَ الحُبُّ لهَا في عُنُقي، .... مَوْضِعَ الخَاتَم من أهلِ الذِّمَمْ
    إنّ في ثَوْبيّ جِسْماً نَاحِلاً ........ لَوْ تَوَكّأتُ عَلَيْهِ لانْهَدَمْ
    =================
    المبحث التاسع والعشرون - التفريعُ
    * - تعريفُه: هو أنْ يثبتَ حكمٌ لمتعلَّقِ أمرٍ، بعد إثباتهِ لمتعلَّقٍ له آخرَ، كقول الشاعر :
    فاضتْ يداهُ بالنضَارِ كما فاضتْ ظباهُ في الوغَى بدمي
    وكقول الشاعر :
    أَحْلامُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْل شَافِيَةٌ ... كما دِماؤُكُمُ يُشْفَى بها الكَلَبُ
    وقال بعض علماء البلاغة : التفريع نوعان:
    أحدُهما- أن يبدأ الشاعرَ بلفظةٍ هي إمَّا اسمٌ، وإمَّا صفةٌ، ثم يكررُها في البيتِ مضافةً إلى أسماءَ وصفاتٍ يتفرعُ من جملتها أنواعٌ من المعاني في المدحِ وغيره
    كقول أبي الطيب المتنبي :
    أنَا ابنُ اللّقاءِ أنَا ابنُ السَّخاءِ أنا ابنُ الضِّرابِ أنا ابنُ الطِّعانِ
    أنَا ابنُ الفَيافي أنَا ابنُ القَوافي أنَا ابنُ السُّروجِ أنَا ابنُ الرِّعانِ
    طَويلُ النِّجادِ طَوِيلُ العِمادِ طَويلُ القَناةِ طَويلُ السِّنانِ
    حَديدُ اللّحاظِ حَديدُ الحِفاظِ حَديدُ الحُسامِ حَديدُ الجَنَانِ
    يُسابِقُ سَيْفي مَنَايَا العِبادِ إلَيْهِمْ كأنّهُمَا في رِهَانِ
    قال ابن أبي الأصبع : وهذا النوعُ لم أسبقْ إلى استخراجهِ، وإنما لم أثبتُّه فيما ابتكرتهُ من الأبوابِ لكونه نوعاً من التفريعِ، فالذي يجبُ أن يسمَّى به تفريعَ الجمعِ، لأنَّ كلَّ بيتٍ ينطوي على فروعٍ من المعاني شتَّى من المدحِ تفرعتْ من أصلٍ واحدٍ.
    والنوعُ الآخر ُمن التفريعِ - وهو الذي تقدَّمني الناسُ باستخراجه وتسميتِه، إنما يتفرّعُ منه معنًى واحدٌ من أصلٍ واحدٍ، إمَّا في بيتٍ أو أبياتٍ، وإمَّا في جملةٍ من الكلامِ أو جُملٍ، وهو أنْ يصدرَ الشاعرُ أو المتكلَّمُ كلامَه باسمٍ منفيٍّ بما خاصةً، ثم يصفُ الاسمَ المنفيَّ بمعظمِ أو صافهِ اللائقة ِبه، إمَّا في الحسْنِ أو القبحِ، ثم يجعلهُ أصلاً يفرِّعُ منه معنًى في جملةٍ من جارٍ ومجرورٍ متعلقةٍ به تعلقَ مدحٍ أو هجاءٍ أو فخرٍ أو نسيبٍ أو غيرِ ذلك، يُفهَمُ منْ ذلك مساواةُ المذكورِ بالاسمِ المنفيِّ الموصوفِ، كقول الأعشى :
    ما روْضَةٌ من رِياضِ الحزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عليها مسْبِلٌ هَطِلُ
    يُضاحِكُ الشَّمْسَ منها كَوْكَبٌ شَرِقٌ .... مَؤّزَّرٌ بَعمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
    يَوْماً بأَطْيَبَ منها نَشْر رائحِة ...... ولا بأَحْسَنَ منها إِذْ دَنَا الأُصُلُ
    وقد سمَّى بعضُ المتأخرينَ هذا القسمَ من التفريعِ النفيَ والجحودَ لتقدمِ حرفِ النفي على جملتهِ. وأكثرُ ما يقعُ الأصلُ في بيتٍ والتفريعُ منهُ في بيتٍ آخرَ ، إمَّا قريباً منه، وإمَّا بعيداً عنه، وقد يقعُ منهُ ما يكونُ الأصلُ والفرعُ معاً في بيتٍ واحدٍ كقول أبي تمام :
    ما ربعُ ميَّة ََ معموراً يطيفُ بهِ غَيْلاَنُ أَبْهَى رُبى ً مِنْ رَبْعِهَا الخَرِبِ
    ولا الْخُدُودُ وقدْ أُدْمينَ مِنْ خجَلٍ أَشهى إلى ناظِري مِنْ خَدها التَّرِبِ
    ومنَ التفريعِ نوعٌ غيرُ النوعين الأولين: وهو تفريعُ معنًى منْ معنًى من غيرِ تقدُّم نفيٍّ ولا جحودٍ .
    كقول ابن المعتزِّ :
    كلامُه أخدعُ منْ لحظهِ ... ووَعدُهُ أكذبُ من طيفهِ
    فبينا هو يصفُ خدعَ كلامهِ فرَّع خدعَ لحظهِ، وبينا هو يصفُ كذبَ وعدهِ فرَّعَ كذبَ طيفهِ
    وهو مختصٌّ بمعاني النفسِ دونَ معاني البديعِ، والله أعلم.
    ================
    المبحث الثلاثون - الاستتباعُ

    *- تعريفُه : هو الوصفُ بشيءٍ على وجهٍ يستتبعُ الوصفَ بشيءٍ آخرَ، مدحاً أو ذمًّاً.
    يعني أنَّ الاستتباعَ هو المدحُ على وجهٍ يستتبعُ المدحَ بأمرٍ آخرَ، كقول المتنبي :
    ألا أيّها المالُ الذي قد أبادَهُ تَعَزَّ فَهَذا فِعْلُهُ بالكَتائِبِ
    لَعَلّكَ في وَقْتٍ شَغَلْتَ فُؤادَهُ عنِ الجُودِ أوْ كَثّرْتَ جيشَ مُحارِبِ
    ومن المستحسنِ فيه قولُ الخوارزمي :
    سَمْحُ البديهة ليس يمسك لفظهُ ... فكأنما ألفاظهُ من مالهِ
    وكأنما عزماتهُ وسيوفهُ ... من حَدِّهنَّ خُلِقْنَ من إقباله
    متبسمٌ في الخطب تحسبُ أنهُ ... تحت العجاج ملثمٌ بفعاله
    وكقول الشاعر :
    الحربُ نزهتُه والبأسُ همَّتهُ والسيفُ عزمتهُ واللهُ ناصرهُ
    وقيلَ: إنه يكونُ أيضاً في الذمِّ، كقولِ بعضهِم في قاضٍ لم يقبلْ شهادتَه برؤيةِ هلالِ الفطر ِ:
    أترى القاضيَ أعمَى ... أمْ تراهُ يتعامَى
    سرقَ العيدَ كأنَّ ال ... عيدَ أموالُ اليتامَى
    فعلَّقَ خيانةَ القاضي في أموالِ اليتامَى بما قدمَّه من خيانتهِ في أمرِ العيدِ برابطةِ التشبيهِ.
    وقيل في تعريفه :هو المدحُ بشيءٍ على وجهٍ يستتبعُ المدحَ بشيءٍ آخرَ، كقول أبي الطيب :
    نَهَبَتْ من الأَعْمارِ ما لَوْ حَوَيْتَهُ ... لَهُنِّئَتِ الدُّنْيا بأَنَّكَ خَالِدُ
    فإنه مدحَه ببلوغهِ النهايةَ في الشجاعةِ، إذ كثر قتلاهُ بحيثُ لو وُرِّثَ أعمارَهم لخلدَ في الدنيا على وجهٍ استتبعَ مدحَهُ بكونهِ سبباً لصلاحِ الدنيا ونظامِها حيثُ جعلَ الدنيا مهنأةً بخلودهِ، قال عليُّ بنُ عيسى الربعي: وفيه وجهانِ آخرانِ من المدحِ أحدهُما أنهُ نهبَ الأعمارَ دونَ الأموالِ، الثاني أنه لم يكنْ ظالماً في قتلِ أحدٍ منْ مقتوليهِ لأنه لم يقصدْ بذلكَ إلا صلاحَ الدنيا وأهلَها، فهمْ مسرورونَ ببقائِهِ.
    ====================
    المبحث ُالواحد والثلاثون - السَّلبُ والإيجابُ
    * - تعريفُه: هو أنْ يقصدَ المتكلِّمُ تخصيصَ شيءٍ بصفةٍ فينفيها عن جميعِ الناسِ، ثم يُثبتُها له مدحاً أو ذماً، فالمدحُ كقول الخنساء :
    ما بلغتْ كفُّ امرئٍ متناولٍ ...... من المجد إلاَّ والذي نلت أطولُ
    ولا بلغَ المهدون في القول مدحةً ... وإنْ أطنبوا إلاّ الذي فيك أفضلُ
    فقصدَ أبو نواس أخذ معنى الثاني من البيتينِ فلم يتهيأْ له أخذهُ إلا في بيتينِ، وقصَّرَ عنه بعد ذلك تقصيراً كثيراً، وناهيكَ بأبي نواس، وذلك أنه قال :
    إذا نحْنُ أثْنَينا عليكَ بصالحٍ ... فأَنتَ كما نُثني وفوق الذي نثْني
    وإن جَرَت الألفاظُ يوماً بِمِدْحَةٍ .. لغيركَ إنساناً فأنْتَ الذي نَعْني
    والذمِّ، كقول بعضهم :
    خُلقوا وما خُلقوا لمكرُمة فكأنهم خُلقوا وما خُلقوا
    رُزقوا وما رُزقوا سماحَ يدِ فكأنما رُزقوا وما رُزقوا
    =================
    المبحثُ الثاني والثلاثون - الإبداعُ
    * - تعريفُه: هو أنْ يكونَ الكلامُ مشتملاً على عدةِ أنواعٍ من البديعِ، كقول الشاعر :
    فضحتَ الحيَا والبحرَ جُوداً فقدْ بكَى ال ... حَيَا منْ حياءٍ منكَ والتطَمَ البحرُ
    وللقرآنِ الكريمِ اليدُ البيضاءُ في هذا النوعِ، فقد وجِدَ إحدى وعشرون نوعاً في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (44) سورة هود ،مع كون الآيةِ سبعَ عشرة َلفظةً، ولابدَّ لي منْ ذكرها، تبركاً بها، وإلجاماً لبعض المعاصرينَ الذين يتفوهون بما لا يليقُ ذكرهُ، بالنسبة لكلام رب العالمين :
    (1)- ففيها [المناسبةُ التامةُ] بين ابلعي وأقلعي.
    (2)- الاستعارةُ فيهما.
    (3)- الطباقُ بين الأرض والسماء.
    (4) -المجازُ في قوله [يا سماءُ] فإنَّ الحقيقةَ يا مطرُ.
    (5)- الإشارةُ في قوله(وغيضَ الماءُ) ،فإنه عبَّر به عنْ معانٍ كثيرةٍ، فإنَّ الماءَ لا يغيضُ حتَّى يقلعَ مطرُ السماءِ وتبلعَ الأرضُ ما يخرجُ منها منْ عيونِ الماءِ.
    (6)- الإردافُ في قوله: (واستوتْ على الجوديِّ) فإنه عبَّر عن استقرارِها في المكانِ بلفظٍ قريبٍ منْ لفظِ المعنَى.
    (7)- التمثيلُ في قوله: (وقضيَ الأمر) فإنه عبَّر عن هلاكِ الهالكينَ ونجاةِ الناجينَ بلفظٍ بعيدٍ عن الموضوعِ.
    (8)- التعليلُ، فإنَّ غيضَ الماء علةُ الاستواءِ.
    (9) التقسيمُ، فإنه استوفَى أقسامَ الماءِ حالَ نقصِه.
    (10)- الاحتراسًُ ،في قوله: (وقيلَ بعداً للقومِ الظالمينَ) إذ الدعاءُ يشعرُ بأنهم مستحقُّو الهلاكِ، احتراساً من ضعيفٍ يتوهَّمُ أنَّ الغرقَ لعمومهِ ربما شملَ غيرَ المستحِقِّ.
    (11)- الانسجامُ، فإنَّ الآيةَ منسجمةٌ كالماءِ الجاري في سلاستِه.
    (12) -حسنُ التنسيقِ، فإنه تعالى قصَّ القصةَ وعطفَ بعضَها على بعضٍ بحسنِ الترتيبِ.
    (13)- ائتلافُ اللفظِ مع المعنَى، لأنَّ كلَّ لفظةٍ لا يصلحُ لمعناها غيرُها.
    (14)- الإيجازُ، فإنه سبحانه وتعالى، أمرَ فيها ونهَى وأخبرَ ونادَى ونعتَ وسمَى، وأهلكَ وأبقَى وأسعدَ وأشقَى، وقصَّ منَ الأنباءِ ما لو شُرحَ لجفتِ الأقلامُ.
    (15)- التسهيمُ، إذ أولُ الآيةِ يدل ُّعلى آخرِها.
    (16)- التهذيبُ، لأنَّ مفرداتِها موصوفةٌ بصفاتِ الحسْنِ، لأنَّ كلَّ لفظةٍ سهلةٌ، مخارجُ الحروف عليها رونقُ الفصاحةِ، سليمةٌ منَ التنافرِ، بعيدةٌ عنْ عقادةِ التراكيبِ.
    (17)- حُسْنُ البيانِ، لأنَّ السامعَ لا يشكلُ عليه في فهمِ معانيها شيءٌ.
    (18)- الاعتراضُ، وهو قوله: (وغيضَ الماءُ واستوتْ على الجوديِّ).
    (19)- الكنايةُ ، فإنه لم يصرحْ بمنْ أغاضَ الماءَ.ولا بمنْ قضيَ الأمرُ، وسوى السفينةَ، ولا بمن قالَ وقيلَ بعداً.كما لم يصرحْ بقائلِ: (يا أرضُ ابلعِي ماءَك ويا سماءُ أقلعِي) في صدر الآيةِ سلوكاً في كلِّ واحدٍ من ذلكَ سبيلَ الكنايةِ .
    (20)-التعريضُ، فإنه تعالى عرَّضَ بسالكي مسالكهِم في تكذيبِ الرسلِ ظلماً، وأنَّ الطوفانَ وتلكَ الصورة َالهائلةَ ما كانتْ إلا بظلمِهم.
    (21)- الإبداعُ الذي نحن بصددِ الاستشهادِ له، وفيها غيرُ ذلك، وقدْ أُفردتْ هذه الآيةُ الشريفةُ بتآليفَ عديدةٍ لما اشتملتْ عليهِ من البلاغةِ، حتى عدَّ بعضُهم فيها مائةً وخمسينَ نوعاً، وقدْ أجمعُ المعاندونَ على أنَّ طوقَ البشرِ عاجزٌ عن الإتيانِ بمثلِها.
    المبحثُ الثالث والثلاثون- تشابهُ الأطرافِ

    * - تشابهُ الأطرافِ قسمان معنويٌّ ولفظيٌّ.
    فالمعنويُّ: هو أنْ يختمَ المتكلِّمُ كلامَه بما يناسبُ ابتداءَه في المعنَى ، كقوله تعالى : {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (103) سورة الأنعام ، فإنَّ اللطفَ يناسبُ ما لا يدركُ بالبصرِ ،والخبرةَ تناسبُ منْ يُدركُ شيئاً فإنَّ مَنْ يدركُ شيئاً يكونُ خبيراً بهِ ،وقوله تعالى {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (64) سورة الحـج ، قال الغنيُّ الحميدُ لينبِّهَ على أنَّ مالهُ ليسَ لحاجةٍ ،بل هو غنيٌّ عنهُ جوادٌ بهِ ، فإذا جادَ بهِ حمدَه المنعَمُ عليهِ ، ومنْ خفي ِّهذا الضربِ قولُه تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه السلام ُ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (118) سورة المائدة ، فإن قوله: " وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ " يوهمٌ أنَّ الفاصلةَ الغفورُ الرحيمُ، ولكنْ إذا أنعمَ الإنسان ُالنظرَ علِم ُأنه يجب ُأنْ تكوَ ُما عليهِ التلاوة ُ ، لأنه لا يغفرُ لمن يستحقُّ العذابَ إلا من ليسَ فوقَهُ أحدٌ يردُّ عليه حكمَه، فهو العزيزُ لأنَّ العزيزَ في صفاتِ اللهِ هو الغالبُ منْ قولهِم: عزَّهُ يُعزُّهُ عزًّا إذا غلبَه، ومنه المثلُ منْ عزيزٍ أيْ منْ غلبَ سلبَ ، ووجبَ أنْ يوصفَ بالحكيمِ أيضاً، لأنَّ الحكيمَ منْ يضعُ الشيءَ في محلِّه، واللهُ تعالى كذلكَ، إلا أنهُ قدْ يخفَى وجهُ الحكمةِ في بعضِ أفعالهِ فيتوهَّمُ الضعفاءُ أنه خارجٌ عن الحكمةِ، فكانَ في الوصفِ بالحكيمِ احتراسٌ حسنٌ، أيْ وإنْ تغفرَ لهم معَ استحقاقهِمُ العذابَ فلا معترضَ عليكَ لأحدٍ في ذلكَ، والحكمةُ فيما فعلتَهُ .
    وكقول الشاعر :
    ألذُّ من السحرِ الحلالِ حديثُهُ وأعذبُ منْ ماءِ الغمامةِ ريقُهُ
    فالريقُ: يناسبُ اللذةَ في أولِ البيت.
    واللفظيُّ نوعانِ:
    الأولُ - أنْ ينظرَ الناظمُ أو الناثرُ إلى لفظةٍ وقعتْ في آخرِ المصراعِ الأولِ أو الجملةِ، فيبدأُ لها المصراعَ الثاني، أو الجملةَ التاليةَ، كقوله تعالى:( {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (35) سورة النــور. فقد كرر المصباح والزجاجة .
    وكقول أبي تمام :
    هَوًى كانَ خِلساً، إنَّ من أحسن الهوَى ... هوًى جُلْتُ في أفنائه وهوَ خاملُ
    الثاني- أنْ يعيدَ الناظمُ لفظةَ القافيةِ منْ كلِّ بيتٍ في أول البيتِ الذي يليهِ، كقول الشاعر :
    رَمَتْنِي وسِتْرُ اللَّه بيني وبينَها .... عشِيَّةَ آرامِ الكِناسِ رميمُ
    رميمُ التي قالتْ لجاراتِ بيتِها .... ضمِنْتُ لكم ألاّ يزالَ يهيمُ
    و قال ابن أبي الأصبع :
    خليليَّ إنْ لم تعذراني في الهوَى ...... ولم تحملا عني اذهبا ودَعاني
    دعاني إليهِ الحبُّ فالحبُّ آنفاً ....... دعاني قلبي إذ دعاهُ جِناني
    جنانيَ في سكرٍ فلا رعَى عندهُ ...... بكأسٍ بها ساقي الغرامِ سَقاني
    سقانيَ منْ لم يعنِه منْ صبابتي ...... ووجدي بهِ ما شفَّني وعناني
    عنانيَ منهُ ما براني ولم يكنْ .......... ليرثي لما قدْ حلَّ بي ودهاني
    دهانيَ الهوَى منْ حيثُ لم أدرِ عندما .. رأى ما شَجى قلبي الكئيبَ عياني
    عياني على قلبي تعدَّى بنظرةٍ ......... إلى ناظرٍ باللحظِ منه رماني
    رماني بسهمٍ منْ كنانةِ لحظهِ ....... أصابَ فؤادي شجوُه فشجاني
    ==================
    المبحث الرابع والثلاثون - العكسُ

    *- تعريفُه: هو أنْ تقدِّمَ في الكلام جزءاً ثم تعكِسُ، بأنْ تقدِّمَ ما أخرَّتَ، وتؤخِّرَ ما قدَّمتَ، ويأتي على أنواع:
    أ - أنْ يقعَ العكسُ بين أحدِ طرفي جملةٍ، وما أضيفَ إليه ذلكَ الطرَفُ، نحو: كلامُ الملوك ِملوكُ الكلام ِ ،
    وكقول المتنبي :
    إذا مَطَرَتْ مِنهُمْ ومنكَ سَحائِبٌ فَوَابِلُهُمْ طَلٌّ وَطَلُّكَ وَابِلُ
    يعني أنَّ كثيرَهم قليلٌ بالإضافةِ إليكَ وقليلكَ كثيرٌ بالإضافةِ إليهم .
    ب - أنْ يقعَ العكسُ بين متعلِّقي فعلينِ في جملتينِ، كقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } (19) سورة الروم .
    وكقول الحماسي :
    فردَّ شُعورهنَّ السُّود بيضَا ... ورَدُّ وُجُوهنَّ البيض سُودَا
    يقول: جرَّ المقاديرُ على نسوة آل حربٍ نوبةً من نوائبِ الدهر أثرَّتْ في عقولهن، حتى غفلنَ عن أسبابِ الدين والدنيا كلِّها، وحتى شيبتهنَّ ولفحتْ وجوههنَّ، فردتِ السودَ منْ شعورهِن بيضاً، والبيضَ من وجوهِهنَّ سوداً.
    ج - أنْ يقعَ العكسُ بينَ لفظينِ في طرفي الجملتينِ ، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (10) سورة الممتحنة . ونحو قوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (187) سورة البقرة، ونحو قوله تعالى : {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (52) سورة الأنعام .
    وقال الحسن البصريُّ للمغيرةِ بن مُخارِش التميمي:" إنَّ مَنْ خوّفكَ حتَّى تلقَى الأمنَ، خيرٌ لك ممَّنْ أمّنكَ حتَّى تلقَى الخوفَ " .
    ومثله قول أبي الطيب :
    إذا حارَبَ الأعداءَ وَالمَالَ زَنْدُهُ فَلا مَجْدَ في الدّنْيَا لمَنْ قَلّ مَالُهُ
    أي الفقيرُ الذي لا مالَ له لا يبلغُ الشرفَ، والذي لا مجدَ له كأنه ليسَ له مالٌ وإنْ كان مثرياً لأنه إذا لم يطلبْ بماله المجدَ فكأنه لا مالَ له لمساواتهِ الفقيرَ .
    وكقول الشاعر :
    إنَّ اللياليَ للأنامِ مناهلٌ ... تطوى وتبسط دونها الأعمارُ
    فقصارهنَّ مع الهموم طويلةٌ ... وطوالهنَّ مع السرور قصارُ
    د- أنْ يقعَ العكسُ بين طرفي الجملتينِ ، نحو قول الشاعر :
    طَويتُ بإحرازِ الفنونِ ونيلِها رداءَ شبابٍ والجنونُ فُنونُ
    فحينَ تعاطيتُ الفنونَ وحظَّها تبينَ لي أنَّ الفنونَ جُنونُ
    هـ -أنْ يكونَ العكسُ بترديدِ مصراعِ البيتِ معكوساً ،نحو قول الشاعر :
    إنَّ للوجدِ في فؤادي تراكمٌ ليتَ عيني قبلَ المماتِ تراكم في هواكُم
    يا سادتي متُّ وَجداً متُّ وجْداً يا سادتي في هواكُم
    =================
    المبحثُ الخامس والثلاثون - الرُّجوعُ

    *- الرجوعُ : هو العودُ على الكلامِ السابقِ بالنقضِ لنكتةٍ ، كقول زهير :
    قِفْ بالدِّيارِ التي لم يَعْفُها القِدَمُ بَلى وغَيَّرَها الأَرْواحُ والدِّيَمُ
    قيلَ: لما وقفَ على الديارِ تسلطتْ عليه كآبةٌ أذهلتهُ فأخبرَ بما لم يتحققْ فقال: لم يعفُها القدمُ ثم ثابَ إليه عقلهُ فتداركَ كلامَه فقال: بلى وغيرَّها الأرواحُ والديمُ.
    ===============
    المبحثُ السادس والثلاثون - تجاهلُ العارفِ

    *- تعريفَه: هو سُؤَالُ المتكلِّمِ عما يعلمُه حقيقةً، تجاهلاً لنُكتةٍ، كالتَّوبيخِ، نحو قول الشاعر :
    با شجَر الخابورِ ما لكَ مُورِقاً ... كأنك لم تَجْزَعْ على ابنِ طَريفِ
    أو المبالغةِ في المدحِ، كقول البحتري :
    ألَمْعُ بَرْقٍ سَرَى أمْ ضَوْءُ مِصْبَاحِ، أمِ ابْتِسَامَتُهَا بالمَنْظَرِ الضّاحِي
    أو المبالغةِ في الذمِّ، كقول زهير :
    وما أدري، وسوفَ إخالُ أدري، أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِساءُ؟
    أو التعجُّبِ نحو قوله تعالى : {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} (15) سورة الطور ،إلى غير ذلك من الأغراضِ البديعيةِ التي لا تحُصَى.
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 17:23

    الفصلُ الثالث
    المحسِّناتُ اللفظيةُ
    المبحث الأول- الجناسُ

    *-الجناسُ: هو تشابهُ لفظينِ في النطقِ، واختلافهُما في المعنَى، وهو ينقسم إلى نوعين: لفظي – ومعنوي: وإلى تام وغير تام .
    *-أنواعُ الجناسِ اللفظيِّ :
    أولا- الجناسُ التامُّ : هو ما اتفقَ فيه اللفظانِ المتجانسانِ في أربعة أشياءَ، نوعُ الحروف، وعددُها، وهيئاتهُا الحاصلة ُ منَ الحركاتِ والسكناتِ، وترتيبُها مع اختلاف المعنَى.
    وينقسمُ بدوره إلى ثلاثةِ أقسام ٍ ،هي المماثلُ والمستوفي وجناسُ التركيبِ
    1- الجناسُ المماثلُ :هو ما كان ركناهُ من نوع ٍواحدٍ من أنواعِ الكلمة اسمينِ أو فعلينِ أو حرفين ِ
    -الجناسُ بينَ اسمين ،كقوله تعالى : {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} (55) سورة الروم ،فالمرادُ بالساعة ِالأولى يوم ُالقيامة، وبالساعةِ الثانية المدة ُمن الزمانِ .
    ونحو: رحبةٌ رحبةٌ، فرحبةٌ الأولى: فناءُ الدارِ، ورحبةٌ الثانية: بمعنَى واسعةٌ .
    ونحو قول الشاعر :
    أعذبُ خلقِ اللهِ نطقاً و(فماً) إنْ لم يكنْ أحقّ َبالحسنِ (فَمَنْ)
    -الجناسُ بينَ فعلينِ : مثلُ قول أبي محمد الخازن :
    قومٌ لَوَ أَنَّهمُ ارتاضوا لمَا قرَضوا ... أَو أنَّهم شَعروا بالنَّقصِ ما شعرَوا
    فشعروا الأولى بمعنى أحسُّوا وشعروا الثانية بمعنى نظموا الشِّعرَ .
    -الجناسُ بين حرفينِ : نحو قولك :« فلانٌ يعيشُ بالقلمِ الحرِّ الجريءِ، فتفتحُ لهُ أبوابُ النجاحِ ِبهِ ِ » .
    فالباءُ في بالقلمِ هيَ الداخلة ُعلى الآلةِِ فتفيدُ معنى الاستعانةِ، أي أنه يستعينُ بالقلم على العيشِ، والباءُ في به هي باءُ السببيةِ ،بمعنى أنَّ أبوابَ النجاحِ تفتحُ لهُ بسبب ِقلمه ِالحرِّ الجريءِ، ففي البائينِ جناسٌ لتماثلهِما لفظاً واختلافهِما معنَى .
    وقد يكونُ الاختلافُ في الحركة ِفقطْ، كالبُرد، والبَرد في قولهم جُبَّة ُالبُردِ جَنَّة ُالبَردِ، وعليه يحملُ قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) }[الصافات/72-74]
    وقد يكونُ في الحركةِ والسُّكونِ ،كقولهم:« البدعةُ شَرَكُ الشِّركِ »، وقول أبي العلاء المعري :
    فالحسْنُ يظهرُ في شيئينِ رونقُهُ ... بيتٍ مِنَ الشِّعْر أو بيتٍ مِنَ الشَّعَرِ
    والجناسُ التامُّ: مما لا يتفقُ للبليغِ إلا على ندورٍ وقلةٍ، فهو لا يقعُ موقعَهُ منَ الحسنِ حتى يكونَ المعنَى هو الذي استدعاهُ وساقَهُ، وحتى تكونَ كلمتُه مما لا يبتغي الكاتبُ منها بدلاً، ولا يجدُ منها حِولاً.
    2- الجناسُ المستوفي : هو ما كانَ ركناه ُمن نوعين مختلفينِ من أنواع الكلمةِ بأنْ يكون أحدُهما اسماً والآخرُ فعلاً ، أو بأنْ يكونَ أحدُهما حرفاً والآخرُ اسماً أو فعلاً .
    مثالٌ بين الاسمِ والفعلِ نحو: « ارعَ الجارَ ولو جارَ » فالجارُ الأولُ اسم ، والجارُ الثاني فعل ٌ .
    و مثالٌ بين الفعلِ والاسمِ كقول أبي تمام :
    ما ماتَ من كرم الزَّمان فإنَّه يحيا لدى يحيى بن عبد الله
    فيحيا الأولُ فعلٌ مضارعٌ، ويحيى الثاني اسمُ الممدوحِ .
    ونحو قول الشاعر :
    إنْ تُلقكَ الغُرْبةُ في معشرٍ ..... قدْ أجمعوا فيكَ على بُغضهمْ
    فدارِهمْ ما دُمتَ في دارِهمْ ... وأرْضِهمْ ما دُمتَ في أرضِهمْ
    فدارهمُ الأولى فعلُ أمرٍ من المدارة ِ، ودارهمُ الثانيةِ اسمٌ للبيتِ، وأرضهمُ الأولى فعلُ أمرٍ من الإرضاءِ ، وأرضهمُ الثانية ِهيَ الأرضُ اسمٌ .
    3 - جناسُ التركيبِ : هو ما كانَ أحد ُركنيهِ كلمةً واحدةً والأخرَى مركبةً من كلمتينِ، كقول الشاعر :
    يا سيداً حازَ رُقىً بما حباني وأولَى
    أحسنتَ بِرًّا فقلْ ليْ أحسنتُ في الشكرِ أوْ لا ؟
    فالجناس ُبين أولى وهيِ كلمةٌ مفردةٌ بمعنى منحَ وأعطَى ، وبين أولا وهيَ كلمة ٌمركبةٌ من ْأو العاطفة ِولا النافيةِ .
    وكقول أبي الفتح البستي :
    إِذا مَلِكٌ لمْ يكُنْ ذاهِبهْ ... فدَعْهُ فدَوْلتهُ ذاهِبهْ
    فذا هبةٍ الأولى مركبة من كلمتين ذا خبر كان – هبة مضاف إليه ، والثانية كلمة واحدة ذاهبةٌ خبر ، ويسمَّى هذا النوع مقروناً
    وله تفصيل أخرُ :
    فإنْ كانَ منْ كلمة ٍوبعضِ أخرى سُمِّيَ مَرفُوًّا مثلَ قول الحريري :
    ولا تلهُ عن تَذكارِ ذنبِكَ وابكِهِ ... بدمعٍ يُضاهي المُزْنَ حالَ مَصابِهِ
    ومثّلْ لعينَيْكَ الحِمامَ ووقْعَهُ ... .....وروْعَةَ مَلْقاهُ ومطْعَمَ صابِهِ
    وإنَ كانَ من كلمتين فإنِ اختلفَ الركنان خطاً سُمِّيَ مفروقاً كقول أبي الفتح :
    كلُّكمْ قدْ أخذَ الجا ..... مَ ولا جامَ لَنا
    ما الذي ضرَّ مُديرَ ال ... جامِ لوْ جاملَنا
    ومثله قولُ الشاعر :
    لا تعرِضنَّ على الرُّواةِ قصيدةً ........ ما لم تبالغْ قبلُ في تهذيبها
    فمتى عرضْتَ الشِّعْرَ غيرَ مهذبٍ .. عدُّوهُ مِنكَ وساوِساً تَهْذي بِها
    ثانيا- الجناسُ غيرُ التامِّ : هو ما اختلفَ فيه اللفظانِ في واحدٍ من الأمور الأربعةِ السابقة التي يجبُ توافرها في الجناسِ التامِّ وهي : نوع ُالحروفِ، وعددُها، وهيئاتُها الحاصلةُ من الحركاتِ والسكناتِ، وترتيبُها مع اختلاف المعنَى .
    فإنِ اختلفَ اللفظانِ في أنواع ِالحروف فيشترَطُ ألا يقعَ الاختلافُ بأكثر َمنْ حرفٍ واحدٍ ، وهذا الجناسُ يأتي على ضربينِ :
    1- جناسٌ مضارعٌ : وهو ما كان فيه الحرفانِ اللذانِ وقعَ فيهما الاختلافُ متقاربينِ في المخرجِ، سواءٌ كانا في أولِ اللفظِ، نحو قول الحريري : « بيني وبينَ كنِّي ليلٌ دامسٌ ،وطريقٌ طامسٌ » , أو في الوسطِ، نحو قوله تعالى : {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (26) سورة الأنعام ، وقوله تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) [القيامة/22-24]
    وكقول أبي فراس :
    ما كنتَ تصبرُ في القديـ ـ م فلمَ صَبرتَ الآن عنَّا
    ولقد ظَننتُ بكَ الظنو نَ لأنه مَنْ (ضنَّ ظنَّا)
    أو في الآخرِ ، نحو قول النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم :« الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »
    2- جناسٌ لاحقٌ : وهو ما كان الحرفانِ فيه متباعدينِ في المخرج ِ،سواءٌ أكانا في أولِ اللفظ ،نحو قوله تعالى : {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} (1) سورة الهمزة، أو في الوسط نحو قوله تعالى : {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} (75) سورة غافر . وكقوله تعالى : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) [العاديات/7، 8] } .
    وكقول الشاعر :
    فإنْ حلُّوا فليسَ لهمْ مفرٌّ وإنْ رحلوا فليسَ لهمْ مقرُّ
    أو في الآخر، نحو قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ ..} (83) سورة النساء .
    وإنِ اختلفَ اللفظُ في أعدادِ الحروفِ سمِّيَ الجناسُ ناقصًا ،وذلك لنقصانِ أحدِ اللفظينِ عن الآخر ، وهو يأتي كذلك على ضربينِ :
    1 - ما كانتِ الزيادةُ في أحدِ لفظيهِ بحرفٍ واحدِ، سواءٌ أكان ذلك الحرفُ في أولِ اللفظ ،نحو قوله تعالى : {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} (29-30) سورة القيامة ، أو في الوسط ،نحو : جَدَّي جَهْدِي، أو في الآخر ، نحو: الهوَى مطيةُ الهوانِ . والأولُ يسمَّى مردوفاً.والثاني يسمَّى مكتنفاً.والثالث ُمطرَّفاً.
    ونحو الجناس المطرَّفُ قول أبي تمام :
    يَمُدُّونَ مِنْ أَيْدٍ عَوَاصٍ عَواصِمٍ تصُولُ بأسيافٍ قواضٍ قواضبِ
    2- ما كانتِ الزيادةُ فيه بأكثرَ من حرفٍ واحدٍ في آخرهِ ، وربما سمِّيَ هذا النوع ُ مُذيلاً (أو جناس التذييل)،ومن أمثلة ذلك قولُ النابغة الذبياني :
    فيا لكَ مِنْ حَزْم وعزمٍ طواهما ... جديدُ الردَى تحت الصفا والصفائحِ
    وكقول الخنساء :
    إنَّ البكاءَ هوَ الشِّفا ... ءُ منَ الجوَى بينَ الجَوانِحْ
    وإنِ اختلفَ اللفظانِ في ترتيبِ الحروفِ سمِّيَ جناسَ القلبِ ، نحو: « حسامُهُ فتحٌ لأوليائهِ، وحتفٌ لأعدائِه».
    ويسمَّى قلبَ كُلٍّ، لانعكاسِ الترتيبِ، نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم : « اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا » .
    ويسمَّى قلبَ بعض ٍ ،نحو: « رحمَ اللهُ امرأ، أمسكَ ما بينَ فكيهِ، وأطلقَ ما بين كفيهِ ».
    ومن ذلك قولُ الشاعر :
    حُسامُكَ فيهِ للأحبابِ فتحٌ ... ورمحُكَ فيهِ للأعداءِ حتفُ
    أنواع أخرى من الجناسٍ :
    1-الجناسُ المطلق : وهو توافقُ ركنيهِ في الحروف وترتيبِها بدون أن يجمعَهما اشتقاقٌ، كقوله صلى الله عليه وسلم « أَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ ، وَغِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا »أخرجه البخاري .
    فإنْ جمعهُما اشتقاقٌ نحو قوله تعالى:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) }[الكافرون/1-5] ،فقيل: يسمَّى جناسَ الاشتقاقِ .
    2-الجناسُ المحرَّفُ :ما اختلفَ رُكناهُ في هيئاتِ الحروفِ الحاصلة ِ منْ حركاتها وسكناتها، نحو: إذا زلَّ العالِمُ، زلَّ بزلتِه ِالعالَمُ .
    3-الجناسُ المصحّفُ: ما تماثلَ ركناهُ وضعاً، واختلفا نقطاً، بحيثُ لو زال إعجامُ أحدهِما لم يتميزْ عن الآخر كقول بعضهم:« غرَّكَ عزُّكَ، فصارَ قصَارى ذَلكَ ذُلُّكَ، فاخشَ فاحِشَ فِعلكَ، فَعلَّكَ بهذا تهتدِي ».
    ومثل قول أبي فراس :
    مِنْ بَحْرِ شِعْرِكَ أغْتَرِفْ، و بفضلِ علمكَ أعترفْ
    4- الجناسُ المُلفَّقُ: يكونُ بتركيبِ الركنين جميعاً مثل قول الشاعر :
    ولِيتُ الحكمَ خمساً وهيَ خمْسٌ ... لَعمْري والصبا في العُنْفُوانِ
    فلم تَضَعِ الأعادي قَدْرَ شاني ... ولا قالوا فلان قَدْ رَشاني
    وبعدُ: فلا يخفَى على الأديبِ، ما في الجناسِ من الاستدعاءِ لميل السامعِ، لأنَّ النفسَ ترى حُسنَ الإفادةِ، والصورةِ صورةَ تكرارٍ وإعادة ٍ،ومن ثم تأخذها الدهشةُ والاستغرابُ، ولأمر ٍمَا، عُدَّ الجناسُ من حُلَى الشعرِ.
    *- الجناسُ المعنويُّ نوعانِ: جناس ُإضمارٍ وجناسُ إشارةٍ.
    أ - جناس الإضمار:هو أن يأتيَ بلفظٍ يُحضِرُ في ذهنكَ لفظاً آخرَ، وذلك اللفظُ المحضَرُ يرادُ به غيرَ معناهُ، بدلالةِ السِّياق، مثل قول الشاعر :
    «مُنعَّمُ» الجسمِ تحكي الماءَ رقتُهُ وقلبُهُ «قسوةٌ» يحكي أبا أوسْ
    وأوسُ شاعرٌ مشهور من شعراءِ العربِ، واسم أبيه حجرٌ، فلفظ أبي أوس يحضر في الذِّهن اسمهُ، وهو حجر; وهر غيرُ مرادِ; وإنما المرادُ: الحجَرُ المعلومُ.
    وكانَ هذا النوعُ في مبدئهِ مستنكَراً، ولكنَّ المتأخرينَ ولعُوا به، وقالوا منه كثيراً.فمنْ ذلكَ قول البهاء زُهير :
    وجاهلٍ طالَ بهِ عنائي لازمني وذاكَ منْ شقائي
    كأنّهُ الأشهَرُ مِن أسْمَائي أخرقُ ذو بصيرة ٍ عمياءِ
    لا يعرفُ المدحَ من الهجاء أفعَالُهُ الكُلّ على استِوَاء
    أقْبَحُ مِنْ وَعْدٍ بِلا وَفَاءِ ومن زوالِ النعمة ِ الحسناء
    أبغَضُ للعينِ مِنَ الأقْذاءِ أثْقَلُ مِن شَماتَة ِ الأعْداء
    فهوَ إذا رأتهُ عينُ الرائي أبو معاذٍ أوْ أخُو الخَنساءِ
    ب - جناس الإشارة: هو ما ذكرَ فيه أحدُ الركنينِ، وأشيرَ للآخر بما يدلُّ عليه، وذلك إذا لم يساعدِ الشِّعر ُعلى التصريحِ به،نحو قول الشاعر :
    ياحمزةُ اسمحْ بوصلٍ وامننِ علينا بقربِ
    في ثغركَ اسمُكَ أضحَى مصحّفاً وبقلبي
    فقد ذكر الشاعرُ أحد المتجانسينِ، وهو حمزة، وأشار إلى الجناسِ فيه، بأنَّ مصحَّفه، فى ثغرهِ، أي خمره وفى قلبه،أيْ جمرَة
    و بعدُ: فاعلم أنه لا يستحسنُ الجناسُ، ولا يعدُّ من أسبابِ الحسنِ، إلا إذا جاءَ عفواً، وسمح َبه الطبعُ
    من غيرِ تكلُّفٍ، حتى لا يكونَ من أسبابِ ضعفِ القولِ وانحطاطهِ، وتعرّضِ قائلهِ للسخريةِ والاستهزاء.



    ===================

    المبحثُ الثاني- التصحيفُ
    *- تعريفُه : هو التشابُهُ في الخطِّ بين كلمتينِ فأكثرَ: بحيثُ لو أزيلَ أو غُيرتْ نُقطُ كلمةٍ، كانتَ عينَ الثانية، نحو التخلّي، ثم التحلّي، ثم التجلّي.


    ===================
    المبحثُ الثالث- الازدواجُ
    * تعريفُه : هو تجانسُ اللفظينِ المجاورينِ، نحو: مَنْ جَدَّ وَجَدَ، ومن لَجَّ وَلج .
    أو :هو أنْ يأتيَ الشاعرُ في بيتهِ من أولهِ إلى آخره بجملٍ: كلُّ جملةٍ فيها كلمتانِ مزدوجتانِ، كلُّ كلمةٍ إمَّا مفردة ٌأو جملةٌ، وأكثرُ ما يقع هذا النوعُ في أسماءَ مثناة ٍمضافةٍ كقول أبي تمام :
    وكانا جميعاً شريكيْ عنانٍ رضيعيْ لبانٍ خليليْ صفاءِ
    ومنَ الازدواجِ نوعٌ يؤتَى فيه بكلمتينِ صورتهُما واحدةٌ، ومفهومهُما واحدٌ، كقول ابن الرومي :
    أبْشارهنَّ وما ادَّرع نَ من الحرير معاً حريرُ
    وجمالهنّ وما لَبِسْ نَ من الحبير معاً حَبيرُ
    ونسيمهنّ وما مَسِسْ نَ من العبيرِ معاً عبيرُ
    وكقول بعضِ العربِ :
    ومطعمُ النصرِ يوم النصرِ مطعمُه ... أنَّى توجَّه، والمحرومُ محرومُ
    فقوله: ومطعمُ النصر مطعمُه، والمحرومُ محرومُ، ازدواجٌ، والفرقُ بينه وبين التجنيسِ المماثلِ اختلافُ معنَى الكلمتينِ في التجنيسِ واتفاقهُما في الازدواجِ، على أنَّ الرمانيَّ قد عدَّ الازدواج َتجنيساً، وذكر منه قوله تعالى: {.. فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ..} (194) سورة البقرة ،وأفردَه غير الرمانيِّ باباً.. والله أعلم.

    =====================
    المبحث الرابع- السَّجَعُ
    *-تعريفُه: هو توافقُ الفاصلتينِ في الحرفِ الأخيرِ منَ (النثرِ)، وأفضلهُ: ما تساوتْ فِقرهُ – مثاله قوله صلى الله عليه وسلم -: « مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا » .
    *-وهو ثلاثةُ أنواعٍ :
    أ- سجعٌ قصيرٌ ، كقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) }[المدثر/1-7].
    ب-سجعٌ متوسطٌ ،كقوله تعالى :{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)} [القمر/1، 2].
    ج- سجعٌ طويلٌ، كقوله تعالى :{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)} [الأنفال/43، 44].
    *-وينقسمُ كذلكَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ :
    أولها – (السَّجعُ المطرَّفُ): وهو ما اختلفتْ فاصلتاهُ في الوزنِ، واتفقنا في الحرفِ الأخيرِ، نحو قوله تعالى :{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) [نوح/13، 14]، ونحو قوله تعالى:{ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) [النبأ/6، 7] .
    ثانيها – (السَّجَعُ المُرصَّعُ): وهو ما اتفقتْ فيه ألفاظ ُإحدَى الفِقرتين ِأو أكثرُها في الوزنِ والتّقفيةِ، كقول الحريري،« هو يطبعُ الأسجاعَ بجواهرِ لفظهِ، ويقرعُ الأسماع َبزواجرِ وعظهِ» ، وكقول الهمذاني:« إنَّ بعدَ الكدرِ صفْواً، وبعدَ المطرِ صحْواً ».
    ثالثها – (السَّجَعُ المتوازي):وهو ما كان الاتفاقُ فيه في الكلمتينِ الأخيرتينِ فقط ، نحو قوله تعالى:{ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) [الغاشية/13-15] ، لاختلاف سُرر، وأكواب، وزناً وتقفيةً، ونحو قوله تعالى :{ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) [المرسلات/1، 2]، لاختلاف المرسلاتِ، والعاصفاتِ وزناً فقطْ ، ونحو: « حُسِدَ الناطقُ والصامتُ، وهلكَ الحاسدُ والشامتُ – لاختلافِ ما عدا الصَّامتِ، والشامتِ: تقفيةً فقط.
    والأسجاعُ مبنيةٌ على سُكونِ أواخرِها، وأحسنُ السجعِ ما تساوتْ فِقرهُ، نحو قوله تعالى:{ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) }[الواقعة/28-34]، ثم ما طالتْ فقرتهُ الثانيةُ، نحو قوله تعالى :{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم/1-4]، ثم ما طالتْ ثالثتهُ، نحو قوله تعالى :{ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)} [البروج/5-7].
    ولا يحسنُ عكسُه، لأنَّ السامعَ ينتظرُ إلى مقدارِ الأولِ، فإذا انقطعَ دونهنَّ أشبهَ العثارَ ، ولا يحسنُ السجعُ إلا إذا كانتِ المفرداتُ رشيقةً، والألفاظ ُخدمَ المعاني، ودلّتْ كلٌّ منَ القرينتينِ على معنًى غيرَ ما دلّتْ عليه الأخرى، وحينئذٍ يكونُ حليةً ظاهرةً في الكلامِ، ولا يستحسنُ السجعُ أيضاً إلا إذا جاءَ عفواً، خالياً من التكلُّفِ والتصنعِ، ومن ثمَّ لا تجدُ لبليغٍ كلاماً يخلو منه، كما لا تخلو منه سورةٌ وإنْ قَصُرتْ. ولا يقالُ في القرآن «أسجاعٌ» لأنَّ السجعَ في الأصل هديرُ الحمامِ ونحوها; بل يقالُ: «فواصلُ» .
    والسَّجَعُ موطنُه النثرُ، وقد يجيءُ في الشِّعر نادراً: كقول المتنبي :
    فنَحنُ في جَذَلٍ والرّومُ في وَجَلٍ وَالبَرُّ في شُغُلٍ والبَحرُ في خَجَلِ


    ===================
    المبحثُ الخامس - الموازنةُ

    *-تعريفُها: هي تساوي الفاصلتينِ في الوزنِ دونَ التقفية، نحو قوله تعالى:{ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) }[الغاشية/15، 16] فإنَّ مصفوفة ًومبثوتةً مُتَّفقتانِ في الوزنِ، دون التّقفيةِ.
    وكقول امرئ القيس :
    أفادَ، وسادَ، وقادَ، وزادَ ... وشادَ، وجادَ، وزادَ، وأفضلَ
    وكقول الآخر :
    وهوبٌ، مهيبٌ، رحيبُ الفناءِ ... ربيعٌ، مريءٌ، رفيعُ الذُّرا
    والفرقُ بين الموازنةِ والمماثلةِ التزام ُالتسجيعِ في الموازنةِ، وخلوِّ المماثلةِ عنه، والفرقُ بينها أعني الموازنة َوبين التجزئةِ مخالفةُ تسجيعِ أجزاءِ التجزئةِ، ومشابهةُ تسجيعِ أجزاءِ الموازنةِ.

    ====================
    المبحث ُالسادس- الترصيعُ

    *-تعريفُه: هو توازُنُ الألفاظِ، معَ توافقِ الأعجازِ، أو تقارُبِها.
    مثال ُالتوافقِ: نحو قوله تعالى :{ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار/13، 14].
    ومثالُ التقاربِ: نحو قوله تعالى :{ وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) } [الصافات/117-119].
    ومثل قول المتنبي :
    قَدْ حِرْنَ في بَشَرٍ في تاجِهِ قَمَرٌ في دِرْعِهِ أسَدٌ تَدْمَى أظافِرُهُ
    حرنَ تحيرنَ يعني الأبصارُ وأرادَ بالبشر الممدوحُ ،وبالقمرِ ِ وجهَه ،وجعلهُ أسداً في الدرعِ لشجاعتهِ، والأظافرُ جمع أظفارٍ ، وقوله تدمَى أن ْتتلطخَ بالدمِ بافتراسهِ أعداءَه .
    ومثله قول الشاعر :
    كحلاءُ في برجٍ صفراءُ في نعجٍ ... كأنَّها فضَّةٌ قد مسَّها ذهبُ
    وكقول الشاعر في الغزل :
    كالبدرِ إنْ سفرتْ والغصنِ إنْ خطرتْ ... والريمِ إنْ نظرتْ، معسولةُ الشنبِ
    أو كقول الشاعر وله روايات عدة :
    سودٌ ذوائبها بيضٌ ترائبها حمرٌ مجاسدها صفرٌ تراقيها
    سُودٌ ذَوائِبُها بِيضٌ تَرائِبُها ... دُرْمٌ مَرافِقُها في خَلْقِها عَمَمُ
    سُودٌ ذَوَائِبُهَا بِيضٌ تَرَائِبُهَا ... محْضٌ ضَرَائِبُهَا صِيغَتْ عَلَى الْكَرمِ
    ومنه قول الشاعر :
    هوانُ الحياةِ، وذلُّ المماتِ ... وكلاًّ أراهُ طعاما وبيلاَ
    فإْن كانَ لا بدَّ منْ ذلةٍ ... فسيروا إلى الموتِ سيراً جميلا
    ومنه قول ليلى الأخيلية :
    وقَدْ كان مَرْهُوبَ السِّنانَ وَبَيَّنَ الل - سان ومِجْذَامَ السُّرَى غيْرَ فاتِرِ
    ومثل قول الخنساء تصف أخاها صخراً :
    لوْ كانَ للدَّهرِ مالٌ عندَ متلدهِ لكانَ للدَّهرِ صخرٌ مالُ فتيانِ
    آبي الهضيمة ِ آتٍ بالعظيمة ِ متلافُ م الكريمة ِ لا نكسٌ ولا وانِ
    حامي الحقيقَة ِ بسّالُ الوَديقة ِ مِعتاقُ الوسيقة ِ جلدٌ غيرُ ثنيانِ
    طَلاّعُ مَرْقَبَة ٍ مَنّاعُ مَغْلَقَة ٍ وَرّادُ مَشْرَبَة ٍ قَطّاعُ أقْرَانِ


    =====================
    المبحثُ السابع- التَّشريعُ

    *-تعريفُه: هو بِناءُ البيت ِعلى قافيتينِ، يصحُّ المعنَى عند الوقوفِ على كلٍّ منهما.
    كقول الشاعر :
    يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّةِ إنّها ... شرَكُ الرّدى وقَرارَةُ الأكدارِ
    دارٌ متى ما أضْحكتْ في يومِها ... أبْكَتْ غداً بُعْداً لها منْ دارِ
    وإذا أظَلّ سَحابُها لم ينتَقِعْ ...... منْه صدًى لجَهامِهِ الغرّارِ
    غاراتُها ما تنْقَضي وأسيرُها ... لا يُفتَدى بجلائِلِ الأخْطارِ
    كمْ مُزْدَهًى بغُرورِها حتى بَدا ... متمَرّداً مُتجاوِزَ المِقْدارِ
    قلَبَتْ لهُ ظهْرَ المِجَنّ وأولَغَتْ ... فيهِ المُدى ونزَتْ لأخْذِ الثّارِ
    فارْبأ بعُمرِكَ أن يمُرّ مُضَيَّعاً ... فيها سُدًى من غيرِ ما استِظهارِ
    واقطَعْ علائِقَ حُبّها وطِلابِها ... تلْقَ الهُدى ورَفاهَةَ الأسْرارِ
    وارْقُبْ إذا ما سالَمتْ من كيدِها ... حرْبَ العَدى وتوثُّبَ الغَدّارِ
    واعْلَمْ بأنّ خُطوبَها تفْجا ولوْ ... طالَ المدى ووَنَتْ سُرى الأقدارِ
    فتكونُ هذه الأبياتُ من بحرِ الكاملِ ،ويصحُّ أيضاً الوقوفُ على الرَّدَى وغدَا وصدَى، ويفتدى; وتكون إذاً منْ (مجزوءِ الكاملِ) وتقرأ هكذا:
    يا خاطِبَ الدّنيا الدّنِيّةِ إنّهاشرَكُ الرّدى
    دارٌ متى ما أضْحكتْ في يومِها أبْكَتْ غداً
    وإذا أظَلّ سَحابُها لم ينتَقِعْ منْه صدًى
    غاراتُها ما تنْقَضي وأسيرُها لا يُفتَدى
    كمْ مُزْدَهًى بغُرورِها حتى بَدامتمَرّداً
    قلَبَتْ لهُ ظهْرَ المِجَنّ وأولَغَتْ فيهِ المُدى
    فارْبأ بعُمرِكَ أن يمُرّ مُضَيَّعاً فيها سُدًى
    واقطَعْ علائِقَ حُبّها وطِلابِهاتلْقَ الهُدى
    وارْقُبْ إذا ما سالَمتْ من كيدِها حرْبَ العَدى
    واعْلَمْ بأنّ خُطوبَها تفْجا ولوْ طالَ المدى
    وكقول الشاعر :
    يا أيها الملِكُ الذي عمَّ الورى ما في الكِرام له نَظيرٌ يُنظرُ
    لو كان مثلَك آخرٌ فى عصرِنا ما كان في الدنيا فقيرُ مُعسِرُ
    إذ يمكنُ أن يقالَ أيضاً في هذين البيتين:
    يا أيها الملك ُالذي ما في الكرام له نظيرُ
    لو كان مثلَك آخرٌ ما كان في الدنيا فقيرٌ
    وكقول الشاعر كامل :
    وإذا الرياحُ مع العشيِّ تناوحتْ ... هدجَ الرئالِ، تكبهنَّ شمالا
    ألفيتنا نفري العبيطَ لضيفِنا ... قبل القتالِ، ونقتلُ الأبطالا
    فإنَّ هذا الشاعر لو اقتصر على الرئال، والقتال ِكان الشعرُ من الضرب ِالمجزوءِ المرفَّل من الكامل،نحو
    وإذا الرياحُ مع العشيِّ تناوحتْ هدجَ الرئالِ
    ألفيتنا نفري العبيطَ لضيفِنا قبل القتالِ
    فإذا أتممتَ البيتينِ صارا من الضربِ التامِّ المقطوعِ منه، فقدرْ أنَّ لكلِّ بيتِ من هذين البيتينِ قافيتينِ على تساويِ القافيتينِ في الردف وتماثل الرويينِ وإن اختلف المجرِى فيهما،

    ==================
    المبحثُ الثامن - لزومُ ما لا يلزمُ
    *-تعريفُه: هو أنْ يجيءَ قبل حرفِ الرَّويِّ، أو ما في معناهُ من الفاصلةِ، بما ليس بلازمٍ في التّقفيةِ، ويُلتزمَ في بيتينِ أو أكثر من النظمِ أو في فاصلتينِ أو أكثر من النثرِ ، نحو قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) [الضحى/9-11].
    وكقول الطُّغْرائي في أول لاميتهِ المشهورة :
    أصالةُ الرّأي صانتْني عن الخَطَلِ وحِليةُ الفضلِ زانتني لدَى العَطَلِ
    وكقول الشاعر :
    يا مُحرقاً بالنَّار وَجْهَ محِبِّه مَهلاً فإنَّ مَدامِعي تُطفيهِ
    أحرقْ بها جَسدي وكلّ جوارحي واحرصْ على قلبي فإنّك فيهِ
    وقد يُلْتَزَمُ أكثر َمن حرفٍ، مثل قول أبي العلاء المعري :
    كلْ واشرَبِ النّاسَ على خِبرَةٍ، فهُمْ يَمُرّونَ، ولا يَعذُبُونْ
    ولا تُصَدّقهمْ، إذا حَدّثوا، فإنّني أعهَدُهُمْ يَكذِبُونْ
    وإنْ أرَوكَ الوُدَّ، عن حاجةٍ، ففي حبالٍ لهم يَجْذِبونْ


    ===================
    المبحثُ التاسع- ردُّ العجزِ على الصَّدر ِ
    *- تعريفُه :
    1-في النّثرِ : هو أن يُجعلَ أَحدُ اللّفظينِ، المكررينِ، أو المتجانسينِ، أو الملحَقينِ بهما بأنْ جمعهُما اشتقاقٌ أو شبهُهُ في أول الفقرةِ، ثم تعادُ في آخرها، مثل قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ..} (37) سورة الأحزاب ،ونحو قوله سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (10) سورة نوح . وقولك: «سائلُ» اللّئيم يَرجعُ ودَمعه «سائلٌ».فَسَائلِ الأول: من السؤالِ; وسائلِ الثاني من السَّيلانِ.
    واللذان يجمعُهما شبهُ اشتقاقٍ، نحو قوله عزوجل: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ} (168) سورة الشعراء.
    2- في النظمِ : هو أنْ يكون َأحدهُما في آخر البيتِ، والآخرُ يكون إمَّا في صدرِ المصراعِ الأولِ، أو في حشوهِ، أو في آخره ،وإمّا في صدرِ المصراعِ الثاني.
    نحو قول الشاعر :
    سرِيعٌ إلى ابن العَمِّ يَلْطِمُ وجْهَهُ ... وليسَ إلى داعِي النَّدَى بسَريعِ
    وقول الشاعر :
    تَمتَّعْ مِن شَمِيم عَرار نَجْدٍ ... فما بَعْدَ العشِّيةِ مِنْ عرارِ
    ونحو قول الشاعر :
    وما لامرىءٍ طولُ الخلودِ وإنما ... يخلدُه حسنُ الثناءِ فيخلدِ

    ==================
    المبحثُ العاشر- ما لا يستحيلُ بالانعكاسِ

    *- تعريفُه : هو كون اللّفظ يُقرأُ طَرْداً وعكساً ، ويسمَّى القلبَ،نحو: كنْ كما أمكنَكَ، وكقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3) سورة المدثر ، وكقول الشاعر :
    مودَّتهُ تَدومُ لكلِّ هوْلٍ ... وهلْ كلُّ مودَّتهُ تَدومُ

    ==================
    المبحث الحادي عشر - المواربةُ

    * تعريفُها : هي أن يجعلَ المتكلِّمُ كلامَه بحيثُ يمكنهُ أن ْيُغيِّرَ معناهُ بتحريفٍ، أو تصحيفٍ.أو غيرهِما، لِيَسْلمَ من المؤاخذةِ ، كقول أبي نواس :
    لَقَدْ ضَاعَ شِعْرِي عَلَى بَابِكُمْ ... كَمَا ضَاعَ دُرٌّ عَلَى خَالِصَهْ
    فلما أُنكرَ عليه ذلك، قال أبو نواسُ: لم أقلْ إلا:
    لقد ضَاءَ شِعْري على بابكم كما ضاء عقدٌ على خالصَه
    فأما شاهد ما وقع من المواربة بالتحريف، فقول عتبان الحروري :
    فإنْ يكُ منكم كان مروانُ وابنُه ... وعمرو ومنكم هاشمٌ وحبيبُ
    فمنا حصينٌ والبطينُ وقعنبٌ ... ومنا أميرُ المؤمنين شبيبُ
    فإنه لما بلغ الشِّعر هشاماً، وظفر بهِ قال له: أنتَ القائلُ:
    ومنا أميرُ المؤمنينَ شبيبُ
    فقال: لم أقل كذا وإنما قلتُ:
    ومنا أميرَ المؤمنينَ شبيبُ
    فتخلص بفتح الراء بعد ضمها، وهذا ألطف مواربة وقعت،
    ودونها قول نصيب :
    أَهِيمُ بدَعْدٍ ما حَيِيتُ فإِنْ أَمُتْ ... أُوَصِّ بدَعْدٍ مَنْ يَهيمُ بها بَعْدِى
    وقيل له: اهتممتَ بمنْ يفعل بها بعدَك، فقال: لم أقل كذا، وإنما قلتُ:
    فوا كمَدي ممنْ يهيمُ بها بعدي
    فتخلصَ بإبدالِ كلمةٍ من كلمةٍ، فهذا وأشباهُه يحتملُ أنْ يكونَ الدخلُ وقعَ فيه للشاعر وقتَ العملِ، ويحتملُ ألا يكونَ وقعَ له، وارتجلَ التخلصَ عند سماعِه، والذي لا يحتملُ أن يكونَ فطنَ لهُ حتى قيلَ لهُ قولُ الأخطلِ :
    لقد أوقعَ الجحافُ بالبشرِ وقعةً ... إلى الله منها المشتكَى والمعولُ
    فإلاَّ تغيرْها قريشٌ بملكها ... يكنْ عن قريشٍ مستمازٌ ومزحلُ
    فقال له عبد الملك بن مروان: إلى أين يا بن اللخناء؟ فقالَ: إلى النارِ، فضحكَ منه، وسكتَ عنه، فتخلَّصَ بهذهِ النادرةِ.

    ===================
    المبحث الثاني عشر - ائتلافُ اللَّفظِ مع اللفظِ

    * تعريفُه : هو كونُ ألفاظ ِالعبارة من وادٍ واحدٍ في الغرابةِ والتأملِ، مثل قوله سبحانه: {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (85) سورة يوسف .
    لما أتى بالتاء التي هي أغربُ حروف القسَم، أتى بتَفتأ التي هي أغربُ أفعالِ الاستمرارِ.
    وقد سقطَ عيسى بن عُمَرَ النَّحويُّ عن حمارٍ له فاجتمع عليه النَّاسُ فقال :« ما لكم تكَأْكَأْتم عَلَيَّ تَكَأْكُؤكم على ذي جِنَّةٍ فافْرَنْقِعوا عنِّي » أَي اجتَمَعْتم تنَحُّوا عنِّي ،فقد جمعَ بين لفظين غريبين (تكاكأتُم) و(افرنقِعوا).



    ===============
    المبحثُ الثالث عشر- التسميطُ
    * - تعريفُه : هو أنْ يجعلَ الشاعرُ بَيتََه على أربعة ِأقسامٍ: ثلاثةٌ منها على سَجعٍ واحدٍ، بخلافِ قافيةِ البيتِ كقول جنوب الهُذَلّية :
    وحَربٌ وَرَدْتَ وثغرٌ سَدَدْتَ وعِلْجٌ شَدَدتْ عليه الحِبَالا
    وقول الشاعر :
    في ثَغره لَعَسٌ في خَدّه قَبَسٌ في قَدّه مَيَسٌ في جسمِه تَرفُ
    و كقول مروان بن أبي حفصة :
    هُم القَوْمُ إنْ قَالوا أصَابُوا وإنْ دُعُوا أجَابُوا وإنْ أعْطَوْا أطابُوا وأجْزَلُوا
    فأتتْ بعضُ أجزاءِ هذا البيت مسجَعةً على خلاف قافيتهِ، لتكون القافيةُ بمنزلةِ السمطِ، والأجزاءُ المسجَّعةُ بمنزلةِ حبِّ العقدِ، لكونِ التسميطِ يجمعُ حبَّ العِقدِ ويربطُه، والفرقُ بينَ التسميطِ والتفويفِ، تسجيعُ بعضِ أجزاءِ بيت التسميطِ، وخلوِّ كلِّ أجزاءِ بيتِ التفويفِ من السَّجعِ بتةً، والمرادُ بأجزاءِ التسميطِ بعضُ أجزاءِ التقطيعِ، ويسمَّى تسميطَ التبعيضِ.
    ومنَ التسميطِ نوعٌ آخرُ يسمَّى تسميطَ التقطيعِ، وهو أنْ يسجِّعَ جميعَ أجزاءِ التفعيلِ على رويٍّ يخالفُ رويَّ القافيةِ، كقولي :
    وأسمرُ مثمرٌ بمزهرٍ نضرٌ ... منْ مقمرٍ مسفرٌ عنْ منظرٍ حسَنِ
    فجاءتْ جميعُ أجزاءِ التفعيلِ في هذا البيتِ من سُباعيها وخُماسيها مسجعةً على خلاف سجعة ِالجزءِ الذي هو قافيةُ البيتِ، والله أعلم.


    ===================
    المبحث الرابع عشر - الانسجامُ أو السهولةُ

    *- تعريفُه : هو سلامة ُالألفاظِ، وسهولةُ المعاني مع جزالتهِما وتناسُبهِما .
    مثل قولِ الشاعر :
    ما وَهب اللهّ لامرىء هِبةً ... أفضلَ من عَقْله ومن أَدبهْ
    هُما حياةُ الفَتى فإن فًقِدَا ... فإنّ فَقْد الحَياة أحسنُ به
    و مثل قول ابن هرمة لبعض الحجاب :
    باللهِ ربكَ، إنْ دخلتَ فقلْ لهُ ... هذا ابنُ هرمةَ واقفٌ بالبابِ
    ونافر جماعةٌ لرجلِ منَ العرب، فقالتِ ابنتُه :
    تجمعتمُ منْ كلّ أوبٍ وفرقةٍ ... على واحدٍ، لا زلتمُ قرنَ واحدِ
    وقال ابنُ حسانَ بنِ ثابتٍ لمعلمِه :
    اللهُ يعلمُ إني كنتُ منفرداً ... في دارِ حسانَ أصطادُ اليعاسيبا
    ومنه قول الشاعر :
    جفون حبيّ بطرفِها مرضٌ ... أرزتْ بسقمِ الجفونِ والمرضِ
    فلو أصابتْ سهامُها قتلتْ ... لكنَّها نُكبتْ عنِ الغرضِ


    ===================
    المبحثُ الخامس عشر - الاكتفاءُ

    *- تعريفُه: هو أن يَحذْفَ الشاعر ُمن البيتِ شيئاً، يستغنَى عن ذكرهِ، بدلالةِ العقلِ علية، مثل قول النَّمر بن تولب :
    فإنَّ المنيَّةَ منْ يَخْشَهَا ... فسوفَ تُصادِفُهُ أيْنَمَا
    أَي: أَينما يذهبْ تُصادفُه
    ونحو قول الشاعرة :
    قالتْ بناتُ العمِّ: يا سَلْمَى، وإنْ كانَ فقيراً مُعْدِماً؟ قالتْ: وإنْ
    أي: وإن كان فقيراً مُعدِماً فقد رضيتُهُ، على أنَّ فيه حذفَ الشرطِ والجزاءِ معاً لضرورة ِالشعر.


    =====================
    المبحث السادس عشر - التطريزُ
    * تعريفُه : هو أن يكونَ صدرُ النثرِ أو الشِّعرِ مُشتملاً على ثلاثةِ أسماءَ مختلفةِ المعاني ،ويكونَ العجزُ صفةً متكررةً بلفظٍ واحدٍ، وسماه بعض علماء البلاغة بالتوشيع ، ومنه قول رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: « لاَ يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِى اثْنَتَيْنِ فِى حُبِّ الدُّنْيَا ، وَطُولِ الأَمَلِ » .
    وكقول القائل :
    وتَسْقيني وتَشربُ منْ رحيقِ خَليقٍ أن يُلَقّبَ بالخلوقِ
    كأنَّ الكأس في يَدِهَا وفيهَا عَقيقٌ في عقيقٍ في عقيقِ
    ومثل قول أبي تمام :
    أعوَامَ وَصْلٍ كانَ يُنْسِي طُولَها ذكْرُ النَّوَى ، فكأنَّهَا أيَّامُ
    ثُمَّ انْبَرَتْ أَيَّامُ هَجْرٍ أَردَفَتْ بِجَوى ً أَسى ً، فكأنَّها أعْوَامُ
    ثمَّ انقضتْ تلك السنونُ وأهلُها فكأنَّها وكأنَّهُمْ أحلامُ
    ومنه قول الشاعر :
    أمسي وأصبحُ من هجرانكم وصباً ... يرثي لي المشفقانِ: الأهلُ، والولدُ
    قد خددَ الدمعُ خدي منْ تذكركِم ... واعتادني المضنيان: الوجدُ، والكمدُ
    غاب عن مقلتي نومي ونافرها ...... وخانني المسْعدانِ: الصبرُ، والجلدُ
    لو رمتُ إحصاء ما بي من جوىً وضنًى ... لم يحصهِ المحصيانِ: الوزنُ، والعددُ
    أو رمتُ منْ ضعفِ جسمي حملَ خردلةٍ ... ما ضمَّها الأقويانِ: الزندُ، والعضدُ
    أستودع اللهَ منْ أهواهُ كيفَ جرتْ ..... بشخصِنا الحالتانِ: القربُ، والبعدُ
    لا غروَ للدمعِ أنْ تجري غوارُبه ...... وتحته المضرمانِ: القلبُ، والكبدُ
    كأنما مهجتي شلوٌ بمسبعةٍ ....... ينتابها الضاريانِ: الذئبُ، والأسدُ
    لم يبقَ غيرُ خفيّ الروحِ في جسدي ...... فداؤُك الباقيانِ: الروحُ، والجسدُ
    إني لأحسُد في العشاقِ مصطبراً ... وحسبُك القاتلانِ: الحبُّ، والحسدُ
    وقال ابن حيدرة :
    أنى يفاخرُ أو يطاولُ منْ ... أضحى يقرُّ لفخرهِ الفخرُ
    منْ سار والتوفيقُ صحبتهُ ... والواقيان: الجدُّ، والنصرُ
    وأقام والأقيالُ تخدمه ... والماضيانِ: السيفُ، والأمرُ
    وأني وجلتها تدين له ... والواجبان: الحمدُ، والشكرُ
    صدقتْ فراستهُ ومولده ... والمنذرانِ: الفالُ، والزجرُ
    وغدا ودون محله زحلٌ ... والنيرانِ: الشمسُ، والبدرُ
    وأقرَّ عجزاً عن سماحته ... الأجودانِ: الغيثُ، والبحرُ
    نشرتْ فضائلُه مواهبَه ... والسائرانِ: النظمُ، والنثرُ
    تغنيه في الأعداءِ هيبتهُ ... لا المتعبانِ: الكيدُ، والمكرُ
    متورعٌ تنهاه همتهُ ... والزاجرانِ: الدينُ، والذكرُ
    تلهيهِ قبلتهُ ومصحفهُ ... لا المصبيانِ: اللهوُ، والخمرُ
    ويزيدهُ شرفاً تواضعُه ... لا الفاتنانِ: التيهُ، والكبرُ
    شكرتْ لسيرته رعيتُه ... والآمنانِ: البدوُ، والحضرُ
    يا منْ له دامتْ سعادتُه ... والغادرانِ: الدهرُ، والعمرُ
    خانَ العبيدَ غداةَ بينهمُ ... العدتانِ: العزمُ، والصبرُ
    وأطارَ نومهُم تخلفهُم ... والموقظانِ: الهمُّ، والفكرُ
    واعتادهم شوقٌ يؤنبهمْ ... والمزعجانِ: الشوقُ، والذكرُ
    وسعَى بهم صرفٌ سعَى لهمُ ... والدهرُ فيه: الخيرُ، والشرّ

    =====================
    الفصل الرابع - خاتمةٌ في السَّرقاتِ الشعرية وما يتبعها

    *-السَّرِقَةُ: هيَ أن يَأخُذَ الشَّخْصُ كلامَ الغير، ويَنسبه لنفسه.
    وهي ثلاثة أنواعٍ: نَسْخٌ، ومَسخٌ وسَلْخٌ:
    أ - النَّسخُ: ويُسَمَّى انْتِحَالا أيضاً: هو أن يأخذَ السَّارقُ اللفظَ والمعنَى معاً، بلا تغييرٍ ولا تبديلٍ، أو بتبديلِ الألفاظِ كلِّها، أو بعضِها بمُرَادفِها، وهذا مذمومٌ، كما فعل بعضهم بقول مُعَنْ بن أوس :
    إذَا أنتَ لمْ تنصفْ أخاكَ وجدتهُ ..... علَى طرفِ الهجرانِ إنْ كانَ يعقلُ
    ويركبُ حدَّ السيفِ منْ أنْ تضيمهُ ... إذَا لمْ يكنْ عنْ شفرةِ السيفِ مزحلُ
    وأمَّا تبديلُ الألفاظ بمُرَادفِها، كما فُعِل بقولِ الْحُطَيْئَة :
    دَعِ المكارمَ لا تَرْحلْ لبُغيتها واقعدْ فإنكَ أنتَ الطّاعمُ الكاسي
    فقال الآخر :
    ذَرِ المآثرَ لا تذْهَبْ لِمَطْلَبِها ... واجلسْ فإنكَ أنتَ الآكلُ الكاسي
    وقريب منه: تبديلُ الألفاظِ بضدّها، مع رعايةِ النّظمِ والترتيبِ، كما فُعِل بقول حَسَّان رضي الله عنه :
    بِيضُ الوُجُوهِ كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ ... شُمُّ الأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الأَوَّلِ
    فقال غيرُه :
    سُودُ الوجوهِ لئيمةٌ أحسابُهم فُطسُ الأنوفِ من الطِّرَاز الآخرِ
    ب - المَسْخُ أو الإغارةُ: هو أن يأخذَ بعضَ اللّفظِ، أو يُغَيّرَ بعضَ النّظم، فإنِ امتاز الثاني بحسنِ السَّبكِ فممدوحٌ، نحو قول بشار :
    مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ وَفَازَ بِالطَّيِّبَاتِ الْفَاتِكُ اللَّهِجُ
    مع قول غيره :
    منْ راقبَ الناسَ ماتَ غمًّا ... وفازَ باللذةِ الجَسورُ
    فإنَّ الثاني أعذبُ وأخصرُ.
    وإنِ امتازَ الأولُ فقط فالثاني مذمومٌ.وإنْ تساويا فالثاني لا يذمُّ، ولا يمدحُ، والفضلُ للسابقِ.
    ج - السَّلخُ: ويُسَمَّى إلماماً: وهو أن يأخذَ السَّارقُ المعنَى وحدَه، فإنِ امتازَ الثاني فهو أبلغُ، نحو قول الشاعر :
    هوَ الصنع إنْ يَعْجَلْ فخيرٌ، وإنْ يَرِثْ ... فللرَّيثُ في بعضِ المواضِعِ أنفَعُ
    مع قول المنتبي :
    ومِنَ الخيرِ بُطءُ سَيبكَ عَنّي ... أسرَعُ السحْب في المَسيرِ الجَهامُ
    وإنِ امتازَ الأولُ; فالثاني مذمومٌ، وإنْ تماثلا فهو أبعدُ عن الذمِّ، كقول الشاعر :
    ولَمْ يكُ أكثرُ الفتيانِ مالاً ... ولكنْ كانَ أرْحَبَهُمْ ذِراعا
    مع قول الآخر :
    وَلَيْس بِأَوْسَعِهم في الغنى ... وَلكنَّ معروفَهُ أَوْسَع
    ويتَّصلُ بالسَّرقاتِ الشعريةِ; ثمانيةُ أمور: الاقتباسُ، والتضمينُ، والعَقدُ، والحَلُّ والتّلميحُ، والابتداءُ، والتخلّصُ، والانتهاءُ.
    1 – الاقتباسُ :
    هو أن يُضمّنَ المتكلِّم منثورَه، أو منظومَه، شيئاً من القرآنِ، أو الحديثِ، على وجهٍ لا يشعَرُ بأنه منهما،; فمثاله من النثر" فلم يكنْ إلاّ كلمحِ البصرِ ، أو هو أقربُ،حتى أنشدَ فأغربَ. "
    ونحو قول الحريري:" أنا أُنبّئكمْ بتأويلهِ ، وأميّزُ صحيحَ القولِ منْ عليلهِ".
    وكقول عبد المؤمن الأصفهانيِّ:" لاتَغُرَّنّكَ منَ الظّلمَةِ كثرةُ الجيوشِ والأنصارِ، {..إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} (42) سورة إبراهيم .
    ومنه قول الشاعر :
    وثغر تنضّد من لُؤ لُؤ بألباب أهل الهوى يَلعبُ
    إذا ما ادلهمّتْ خطوبُ الهوى يكادُ سَنَا بِرقِه يَذهبُ
    وكقول الشاعر الآخر :
    إنْ كنتَ أَزْمَعْتَ على هَجْرِنا ... من غيرِ ما جُرْمٍ فصَبْرٌ جَميلْ
    وإنْ تَبَدَّلْتَ بنا غيرَنا ... فَحَسْبُنا الله ونِعْم الوَكيلْ
    ونحو قول الآخر :
    لا تكنْ ظالماً ولا ترضَ بالظلمِ وأنكِرْ بكل ما يُسْتَطاعُ
    يومَ يأتي الحسابُ ما لِظَلوم من حميمٍ ولا شفيع يُطاعُ
    وكقول بعضهم :
    إِن كانت العُشَّاقُ في أَشواقِهم ... جَعَلوا النَّسيمَ إلى الحَبيبِ رَسولاَ
    فأَنا الذي أَتْلو عليهم ليْتَني .. . كنتُ اتَّخذْتُ معَ الرَّسولِ سَبيلاَ
    وكقول الشاعر :
    رَحَلُوا فَلَستُ مُسَائِلاً عَنْ دَارهِمْ … …أنَا "بَاخِعٌ نَفْسِي عَلَى آثَارَهِمْ
    وكقول الآخر :
    ولاحَ بحكمتي نورُ الهُدى في ... ليالٍ للضَّلالَةِ مُدْلَهِمَّهْ
    يُريد الجاهلون ليُطْفِئُوهُ .. . ويأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّهْ
    ومثالهُ من الحديثِ في النثرِ قولُ الحريري:" شاهتِ الوجوهُ ، وقبحَ اللكعُ ومن يرجوهُ" .
    وكقول الحريري أيضاً:" وكتمانُ الفقرِ زهادةٌ، وانتظارُ الفرجِ بالصبرِ عبادةٌ" .
    ومثالهُ من الحديثِ في الشعر قولُ الشاعر :
    قالَ لي إنَّ رَقيبِي ... سَيِّئُ الخُلق فَدَارِهْ
    قلتُ دَعني وَجهكَ الجنَّ ... ةُ حُفَّتْ بالمكارِهْ
    وكقول الشاعر ِ:
    فلو كانتِ الأخلاق تُحْوَى وراثةً ولو كانتِ الآراءُ لا تتشعّبُ
    لأصبحَ كلُّ الناس قدْ ضمَّهم هوًى كما أنَّ كلَّ الناسِ قدْ ضمَّهم أبُ
    ولكنها الأقدارُ «كلٌّ مُيَسَّرٌ لما هو مخلوق لهٌ» ومُقَرَّبُ
    وكقول القائل :
    لا تُعادِ النَّاسَ في أَوْطانِهمُ ... قَلَّما يُرْعى غَريبُ الوَطَنِ
    وإذا ما شئتَ عَيْشاً بينهُمْ ... خالِقِ النَّاسَ بخُلْقٍ حَسَنِ

    2- التّضمينُ :
    هو أن يضمِّنَ الشاعرُ كلامَه شيئاً من مشهورِ شعرِ الغير ِمع التنبيهِ عليه ،إنْ لم يكن مشهوراً لدى نقادِ الشِّعر، وذوي اللسنِ، وبذلك يَزْدَادُ شعرهُ حُسْناً، كقول الصاحبِ بن عبَّاد :
    أَشكو إليكَ زماناً ظلَّ يعركني ... عَرْكَ الأديمِ من يَعْدو على الزَّمَنِ
    وصاحباً كنتُ مغبُوطاً بصُحبتهِ . .. دهراً فغادَرَني فَرْداً بلا سَكنِ
    هبَّتْ لهُ ريحُ إقبالٍ فطارَ بها ... إلى السُّرورِ وأَلجاني إلى الحَزَنِ
    نأَى بجانبه عنِّي وصَيَّرَني ... مع الأسى ودواعي الشَّوق في قَرَنِ
    وباعَ صَفْوَ ودادٍ كنتُ أَقصُرُهُ .. . عليه مجتهداً في السِّرِّ والعَلَنِ
    وكان غالَى به حيناً فأرخَصَهُ ... يا من رأَى صَفْوَ وُدٍّ بيعَ بالغَبَنِ
    كأَنَّه كانَ مطويًّا على إِحنٍ ... ولم يكن في قديمِ الدَّهْرِ أَنشدَني
    إنَّ الكرام إذا ما أَيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزلِ الخَشِنِ
    وكقول الشاعر :
    إذا ضاقَ صدري وخفتُ العدا تمثلتُ بيتاً; بحالي يليقْ
    فباللهِ أبلغُ ما أرتجي وباللهِ أدفعُ ما لا أطيقْ
    وكقول الحريري: يحكي ما قاله الغلامُ الذي عرضَه أبو زيد للبيعِ :
    على أَنِّي سَأُنْشِدُ عنْدَ بَيْعِي ... أَضاعُونِي وأَيّ فَتًى أَضَاعُوا
    فالمصراعُ الأخيرُ للعرْجي، وهو محبوسٌ وأصله :
    أَضاعُوني وأيّ فتًى أَضَاعُوا ... ليوم كَريهَةٍ وسِدادِ ثَغْرِ
    وصَبْر عندَ مُعْتَرَكِ المَنايا ... وقد شَرَعَتْ أَسِنَّتُها بنَحْرِي
    أُجَرَّرُ في المجامِعِ كلّ يومٍ . . . فيا للهِ مظلَمَتي وصَبْرِي
    كأَنِّي لمْ أَكنْ فيهم وَسيطاً .. . ولم تَكُ نسبَتِي في آلِ عمرو

    3 - العقدُ:
    هو نظم ُالنثرِ مطلقاً لا على وجهِ الاقتباسِ، ومن شروطهِ أنْ يؤخذَ المنثورُ بجملةِ لفظهِ، أو بمعظمهِ، فيزيدُ الناظمُ فيه وينقصً، ليدخلَ في وزنِ الشعر.
    فعقدُ القرآنِ الكريم، كقول الشاعر :
    أَنِلْني بالذي استقرضت حَظًّا ... وأَشهد مَعْشَراً قد شاهَدُوهُ
    فإنَّ الله خلاَّقُ البَرايا .. . عَنَتْ لجَلالِ هَيْبَتِهِ الوجوهُ
    يقولُ إذا تَدَايَنْتُمْ بدَيْنٍ .. . إلى أَجلٍ مسمّى فاكتبُوهُ
    وكقول الشاعر :
    واستعملِ الحلم َواحفظْ قول بارئنِا سبحانهُ خلقَ الإنسان ُمنْ عَجلِ
    وعقدُ الحديث الشريف كقول الشاعر أبو النواس :
    إنّ القُلوبَ لأجْنَادٌ مُجنَّدَة ٌ، لله في الأرْضِ بالأهْواءِ تختلِفُ
    فما تَعارَفَ منْها فهْوَ مُؤتَلِفٌ، وما تَناكَرَ منْها فهو مُخْتَلِفُ

    4 - الحلُّ :
    هو نثرُ النظمِ، وإنما يقبل ُ إذا كان جيدَ السبكِ، حسنَ الموقع ،كقول الشاعر :
    إذا ساءَ فِعْلُ المرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ وَصَدَقَ مَا يَعتَادُهُ من تَوَهُّم
    وكقول صاحب الوشي المرقوم في حل المنظم يصف قلم كاتب :« فلا تحظى به دولةٌ إلا فخرتْ على الدولْ، واستغنتْ عن الخيلِ والخوَلْ » .
    ونحوه قول المتنبي :
    في الخَدّ أنْ عَزَمَ الخَليطُ رَحيلا مَطَرٌ تَزيدُ بهِ الخُدودُ مُحُولا
    يقولُ :إذا عزم الخليطُ رحيلا بكى المحبُّ بكاءً مثلَ المطر، إلا أنه لا ينبتُ العشبَ كغيره من الأمطار، والخدودُ يزيدُ محلُها به

    .


    عدل سابقا من قبل ضي القمر في 21.12.10 17:33 عدل 1 مرات
    ضي القمر
    ضي القمر
    مديرة المنتدى


    عدد المساهمات : 187
    نقاط : 274
    تاريخ التسجيل : 11/10/2010

    الخلاصة في علوم البلاغة Empty رد: الخلاصة في علوم البلاغة

    مُساهمة من طرف ضي القمر 21.12.10 17:31

    5 –التلميحُ :
    هو الإشارةُ إلى قصةٍ معلومةٍ، أو شعرٍ مشهورٍ أو مثلٍ سائرٍ، من غير ذكرهِ،
    فالأول-وهو الإشارةُ إلى قصة معلومةٍ نحو قول الشاعر :
    يا بَدْرُ أهلكَ جارُوا ... وعلَّموكَ التجَرِّي
    وقبَّحوا لكَ وَصْلي ... وحَسَّنُوا لكَ هَجْري
    فلْيَفْعَلوا ما يشاءوا .. . فإنَّهمْ أَهلُ بدرِ
    وكقوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام : {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (64) سورة يوسف، أشار يعقوبُ في كلامٍ هنا لأولاده، بالنسبة إلى خيانتهِم السابقةِ في أمر أخيهم يوسفَ عليه السلام . وهو قوله تعالى : {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ} (14) سورة يوسف .
    ونحو قول الشاعر :
    فردتْ علينا الشمسُ والليلُ راغمٌ بشمسٍ لهم منْ جانب الخدرِ تطلعُ
    فواللهِ ما أدري أأحلامُ نائمٍ أَلَمَّتْ بنا أَمْ كانَ في الرَّكْبِ يُوشَعُ
    والثاني- وهو الإشارةُ إلى شعرٍ مشهورٍ، نحو قول أبي تمام :
    لعمروٌ مع الرمضاءِ والنارُ تلتظي أَرَقُّ وأَحفَى منكَ في ساعة ِ الكَرْبِ
    والرمضاءُ: الأَرض الشديدةُ الحرّ، وأحفى: من حَفِيَ فلان، إِذا بالغ في إكرامه، وأظهر السرور والفرح، وأكثر السؤال عن حاله. والشاهدُ فيه: التلميحُ إلى البيتِ المشهورِ، وهو:
    المُسْتَجيرُ بعَمْرٍو وعند كُرْبَتِهِ ... كالمستجير من الرَّمْضاءِ بالنَّارِ
    يضربُ لطالب الشيءِ بعد فوتهِ.
    والثالث- وهو الإشارةُ إلى مثلٍ سائرٍ من غير ِذكره،ِ نحو قول الشاعر :
    من غابَ عنكم نسيتموه وقلبهُ عندكم رهينه
    أظنُّكم في الوفاءِ ممن صُحبتُه صُحبةَ السفينه
    فهو يشير إلى مثل وضعه أبو نواس في بيت شعر وهو :
    و من غابَ عن العينِ، فقدْ غابَ عنِ القَلْبِ

    6 - حُسْنُ الابتداءِ : أو براعةُ المطلَعِ:
    هو أنْ يجعلَ أولَ الكلامِ رقيقاً سهلاً، واضحَ المعاني، مستقلًّا عما بعده; مناسباً للمقامِ; بحيثُ يجذبُ السامع َإلى الإصغاءِ بكليتهِ; لأنه أولُ ما يقرعُ السمعَ; وبه يعرفُ مما عنده.
    قال ابنُ رشيقِ : «إنَّ حسنَ الافتتاحِ داعيةُ الانشراحِ; ومطيةُ النجاحِ ».
    وذلك مثل قول المتنبي يمدح سيف الدولة :
    المَجْدُ عُوفيَ إذْ عُوفيتَ وَالكَرَمُ وَزَالَ عَنكَ إلى أعدائِكَ الألَمُ
    وتزدادُ براعةُ المطلع ِحسناً، إذا دلَّتْ على المقصودِ بإشارة ٍلطيفةٍ.وتسمَّى براعةَ استهلالٍ ، وهو أن يأتيَ الناظمُ أو الناثرُ في ابتداءِ كلامهِ ببيتٍ أو قرينةٍ تدلُّ على مرادهِ في القصيدةِ أو الرسالةِ أو معظمَِ مرادهِ .
    كقول أبي الطيب المتنبي :
    وَفي النّفسِ حاجاتٌ وَفيكَ فَطَانَةٌ سُكُوتي بَيَانٌ عِنْدَها وَخِطابُ
    مقصودُه منه، بالإشارةِ لا بالتصريحِ.
    وكقول أبي محمد الخازن مهنئاً الصاحب بن عباد بمولود :
    بُشْراكَ قدْ أَنجزَ الإقبالُ ما وَعَدا وكَوْكبُ المَجْدِ في أُفقِ العُلاَ صَعَدا
    وقول غيره، في التهنئة ببناء قصرٍ :
    قَصْرٌ عَلَيْهِ تحيةٌ وسلامُ ... خَلَعَتْ عليه جمالهَا الأيامُ
    وقول المرحوم أحمد شوقي بك في الرثاء :
    أَجَلٌ وإنْ طالَ الزمانُ مُوافي أَخْلى يدَيْكَ منَ الخليلِ الوافِي
    وقول آخر في الاعتذار :
    لنارِ الهمِّ في قلبي لهيبُ ... فعفواً أَيُّها الملكُ المهيبُ
    7 -التخلُّصُ :
    هو الخروجُ والانتقالُ مما ابتدىءَ به الكلامُ إلى الغرضِ المقصودِ، برابطةٍ تجمِّلُ المعاني آخذاً بعضُها برقابِ بعضٍ، بحيثُ لا يشعر ُالسامعُ بالانتقالِ من نسيبِ، إلى مدحِ، أو غيره، لشدة ِالالتئامِ والانسجامِ. فإذا كان حسناً متلائمَ الطرفينِ حركَ من نشاطِ السامعِ وأعانَ على إصغائهِ إلى ما بعدَه، وإن ْكانَ بخلافِ ذلك كان الأمرُ بالعكس، فمن التخلَّصاتِ المختارةِ قول أبي تمام :
    يقولُ في قَوْمَسٍ صَحْبي وقد أخذَتْ ... مِنَّا السَّرَى وخُطَا المَهْرِيَّةِ القُودِ
    أَمَطْلَع الشَّمسِ تبغي أنْ تَؤُمَّ بنا . .. فقلتُ كلاّ ولكنْ مطلعَ الجودِ
    وقول مسلم بن الوليد :
    أَجِدَّكِ ما تَدْرِينَ أَنْ رُبَّ لَيْلَةٍ ... كأَنَّ دُجاها مِن قُرُونِكِ يُنْشَرُ
    لَهَوْتُ بِها حتَّى تَجَلَّتْ بِغُرَّةٍ ... كَغُرَّةِ يَحْيَى حينَ يُذْكَرُ جَعْفَرُ
    وقول أبي الطيب يمدح المغيث العجلي :
    مَرّتْ بنا بَينَ تِرْبَيْها فقُلتُ لَها من أينَ جانَسَ هذا الشّادِنُ العَرَبَا
    فاستَضْحَكَتْ ثمّ قالتْ كالمُغيثِ يُرَى ليثَ الشَّرَى وهوَ من عِجْلٍ إذا انتسبَا
    ومنها قوله في المديح :
    خَليليِّ إني لا أرى غَيرَ شاعرٍ ... فَكم منهمُ الدَّعوى ومني القَصائدُ
    فَلا تَعجبا إن السيُّوفَ كَثيرةٌ ... ولكنَّ سَيْفَ الدولةِ اليومَ واحِدُ
    وقد ينتقلُ من الفنِّ الذي شببَ الكلامِ به إلى ما يلائمُهُ ويسمَّى ذلك الاقتضابُ، وهو مذهبُ العربِ الأُول ،ومن يليهم من المخضرمينَ كقول أبي تمام :
    لوْ رأى الله أنَّ في الشيب خيراً ... جاوَرَتهُ الأَبرارُ في الخلدِ شيبَا
    كلُّ يومٍ تُبدِي صروفُ اللَّيالي . .. خُلقاً من أبي سعيد رَغِيبَا
    8 - حُسْنُ الانتهاءِ :
    ويقال ُله حسنُ الختامِ : هو أنْ يجعلَ المتكلِّمُ آخرَ كلامه، عذبُ اللفظِ، حسَنُ السبكِ; صحيحُ المعنَى،مشعراً بالتمامِ حتى تتحققَ براعةُ المقطعِ بحسنِ الختامِ،إذ هو آخرُ ما يبقى منهُ في الأسماعِ ، وربما حُفِظَ منْ بينِ سائر الكلامِ لقربِ العهدِ به.
    كقول أبى نواس :
    وإنِّي جَديرٌ إذْ بلغتكَ بالمُنى ... وأنتَ لما أَملتُ منكَ جَديرُ
    فإن توليني منكَ الجميلَ فأهلهُ ... وإلاَّ فإنِّي عاذرٌ وشكُورُ
    وقول ابن شداد :
    فجدير بالشُّكر أنت، فشكري ... لكَ، والحمد دائماً والثَّناء
    بَقيتَ بَقاء الدَّهْرِ يا كهف أهله ... وهذا دُعاء للبرية شامِلُ



    ــــــ




    حمل الكتاب

    الخلاصة في علوم البلاغة



    .

      مواضيع مماثلة

      -

      الوقت/التاريخ الآن هو 14.05.24 12:47